قوة تأثير القرآن
لقد أثَّر القرآن العظيم تأثيرًا عجيبًا في قلوب الناس جيلًا بعد جيل، فبعد أن أحال حياةَ العرب في الجزيرة العربية من جهل إلى علم، ومن شرك إلى توحيد، ومن فرقة وفوضى إلى اجتماع وائتلاف وتنظيم، اندفعوا بعد ذلك كالسَّيل الأتيّ إلى نواحي الجزيرة كلِّها وغيرها وأطاحوا بعروش الأكاسرة والقياصرة
شاءت إرادة الله أن يكون نبيُّنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم خاتمَ الأنبياء والمرسلين، فتوقَّف بوفاته نزول الوحي من السَّماء إلى الأرض، فكان القرآن هو العِوَضُ عن هذه الصِّلة بين السَّماء والأرض، فهو خطاب الله الدَّائم والمستمرُّ إلى أهل الأرض، فأودع الله فيه من الأسرار والحِكَم ما له أبلغ الأثر في حياة البشريَّة، والواقع يشهد بذلك.
فلقد أثَّر القرآن العظيم تأثيرًا عجيبًا في قلوب الناس جيلًا بعد جيل، فبعد أن أحال حياةَ العرب في الجزيرة العربية من جهل إلى علم، ومن شرك إلى توحيد، ومن فرقة وفوضى إلى اجتماع وائتلاف وتنظيم، اندفعوا بعد ذلك كالسَّيل الأتيّ إلى نواحي الجزيرة كلِّها وغيرها وأطاحوا بعروش الأكاسرة والقياصرة أعظم ملوك الأرض، واقتلعوا جذور الشرك والظلم ونشروا التوحيد والحق والعدل، فدخل النَّاس في دين الله أفواجًا قد اختاروا الاهتداء بهذا القرآن، ولا جرم أن سبب هذا كله في الدرجة الأُولى هو تأثير القرآن العظيم.
ولقد بهر القرآنُ العربَ منذ أَنْ استمعوا إليه في اللحظة الأُولى، سواء مَنْ شرح اللهُ صدَره للإسلام وأنار بصيرته، أو مَنْ طبع الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة؛ كالوليد بن المغيرة وغيره، فَروعة هذا القرآن يُحسها القلب الخاشع ويتأثر بها أيما تأثر، ولكن العرب - كما وصفهم القرآن العظيم: {قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]، وأعداء ألِدَّة: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]، أخذوا يُثيرون الشكوك في القرآن، وَيَشُنُّون عليه حملات شعواء، بُغيةَ التهوين من شأنه، والغض من قدره.
من أسباب تأثيره:
المتأمِّل في قوَّة تأثير القرآن العظيم يجد أنه جمع بين الجزالة والسَّلاسة، والقوة والعذوبة، وحرارة الإيمان، وتدفق البلاغة، فهو النُّور الباهر، والحقُّ السَّاطع، والصِّدق المبين، ولمَّا سمعه فصحاء العرب وبلغاؤهم وأرباب البيان فيهم أقروا بعظمته وتأثيره بلسان حالهم قبل مقالهم.
وإن الإنسان ليأخذه العَجَبُ من بعض الدعاة الذين يغفلون أو يتغافلون عن آيات القرآن وتأثيرها في نفوس المدعوين، فهم يتكلمون بكل كلام يخطر ببالهم إلاَّ كلام الله تعالى حال دعوتهم، ولا يستدلون إلاَّ بالآيات القليلة، وفي بعض الأحيان لا يُسمع منهم آية واحدة، مع كثرة حديثهم وتشعبه[1].
ولهذا الأهمية البالغة لكتاب الله تعالى، وأثره العظيم في انتشار الدعوة بين الناس قديمًا وحديثًا، وسيكون الكلام عن تأثير القرآن العظيم في نفوس المدعوين من خلال المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: أهميَّة الدَّعوةِ بالقرآن.
المطلب الثاني: تأثير القرآن في استجابة بعض المعاصرين.
المطلب الأول: أهميَّة الدَّعوةِ بالقرآن:
أيَّد الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن الكريم، وأمره أن يدعوه به، ويعتمد عليه، وما ذاك إلاَّ لقوة تأثيره في النفوس، ولذا فإننا نجد نصوصًا قرآنية كثيرة تأمر بالدَّعوة بالقرآن العظيم نفسه وتحثُّ عليه، فمن ذلك:
1- قول الله سبحانه وتعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. أخبر المولى جلَّ جلالُه أن هذا القرآن أُوحي لنفع الناس وإصلاحهم، إذ فيه النذارة لكم أيها المخاطبون، وكل مَنْ بلغه القرآن إلى يوم القيامة، ولذا كان مجاهد رحمه الله يقول: «حيثما يأتي القرآن فهو داعٍ، وهو نذير، ثم قرأ: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[2].
2- قول الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2]. فهذا خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لينذرَ الكافرين بالقرآن، ويُذكِّرَ به المؤمنين؛ لأنه حوى كل ما يحتاج إليه العباد في الدنيا والآخرة، ولأنَّ المؤمنين هم المنتفعون بهديه.
وعندما يقوم الدَّاعية إلى الله تعالى بدعوة الناس بالقرآن إلى القرآن، فعليه ألاَّ يكون في صدره حرج؛ أي: ضيق وشك واشتباه؛ لأنه كتاب الله سبحانه وتعالى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلْينشرح به صدره، ولْتطمئن به نفسه، ولْيصدع بأوامره ونواهيه، ولا يخش لائمًا أو مُعارضًا[3].
3- قول الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء: 106]. فالله عزّ وجل، نَزَّل القرآن مُنَجَّمًا ومفرَّقًا على الوقائع والأحداث إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، في ثلاث وعشرين سنة ليقرأه عليهم ويبلغهم إياه على مهلٍ، ليتدبروا آياته ويؤمنوا به[4].
وكذلك ينبغي على كل داعية حريص على الاقتداء بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، أن يقرأ القرآن العظيم على الناس ويدعوهم به على مهل، ليتأثروا بما فيه من حِكَمٍ وعلوم نافعة.
4- قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء: 45]. فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى، لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، بأن ينذر الناسَ كلَّهم ويدعوهم بالقرآن العظيم الذي هو وحي من الله، فإن استجابوا فلأنفسهم، وإن لم يستجيبوا، فذلك لأن صوت القرآن الحكيم الذي سمعوه لم يجد قلبًا قابلًا للهدى، فكان كالأصم الذي لا يسمع صوتًا، ولا يدري ماذا يقول المتحدِّث إليه[5].
وكذلك الدَّاعية إلى الله عزّ وجل، يُنذر الناس بالقرآن ويخوفهم به، فمن لم يستجب منهم ولم يتأثر فذلك لأن قلبه خال من الخير والقبول به، فهو كالأصمِّ في عدم الانتفاع بما في الأصوات من معانٍ وأخبار.
5- قول الله سبحانه وتعالى: {فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]. فهذه الآية الكريمة نصٌّ صريح على أن الدَّعوة بالقرآن العظيم من أعظم أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى، إذْ سمَّاه الله تعالى جهادًا، بل كبيرًا، فما أعظم شرف الدعاة إلى الله تعالى، بلقب «المجاهدين جهادًا كبيرًا»، وما أكبر هذه النِّعمة عليهم، التي تستحق منهم الشكر والإخلاص والعمل الدؤوب بمجاهدة الكافرين وغيرهم من عصاة المسلمين بالقرآن العظيم؛ لأن الذي يُجاهِدُ به الكفارَ، يكون مِنْ باب أَولى أن يُجاهِدَ به أهلَ المعصية من المسلمين.
وعن هذا الأمر يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله: «وكما يُجاهَدُ أهلُ الكفر بالقرآن العظيم الجهاد الكبير، كذلك يُجاهَدُ به أهلُ المعصية؛ لأنه كتاب الهداية لكلِّ ضال، والدَّعوة لكل مرشد، وفي ذكر الكافرين تنبيه على العصاة، من التنبيه بالأعلى على الأدنى، لاشتراكهم في العلة وهي المخالفة، وكما أن الجهاد بالقرآن العظيم هو فرض عليه - أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - فكذلك هو فرض على أمته، هكذا على الإجمال، وعند التفصيل تجده فرضًا على الدعاة والمرشدين الذين يقومون بهذا الفرض الكفائي على المسلمين، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قدوة لأمته فيما اشتملت عليه الآية من نهي وأمر»[6].
والدَّعوة بالقرآن العظيم هي الميزان الذي يُعْرَفُ به صلاح الدَّاعية وصدقه وسلامة منهجه، قال الشيخ ابن بادِيس رحمه الله: «عندما يختلف عليك الدُّعاة الذين يَدَّعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى، فانظر مَنْ يدعوك بالقرآن إلى القرآن - وَمِثْلُه ما صح من السُّنة؛ لأنها تفسيره وبيانه - فاتَّبِعْه؛ لأنه هو المتَّبِعُ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، في دعوته وجهاده بالقرآن، والمتمثِّل لِمَا دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن»[7].
6- قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. وهذه الآية كذلك تُبَيِّنُ أهمية الدَّعوة بالقرآن، إذْ جعل الله سبحانه، سماعَ تلاوةِ الآيات ملاذًا ومعاذًا من نزول العذاب بالكافرين، وذلك لقيام الحجة عليهم بسماعهم للقرآن العظيم الذي هو أبلغُ وسيلة، وأعظمُ سببٍ للإيمان بالله عزّ وجل، والدُّخول في دينه[8].
ومثل هذه الآية؛ قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]. فقوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}؛ «أي: القرآن الذي تقرؤه عليه، ويَتَدَبَّرُهُ، ويَطَّلِعُ على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حُجَّةُ الله به، فَإِنْ أَسْلَمَ ثَبَتَ له ما للمسلمين، وإن أَبَى فإنه يُرَدُّ إلى مَأْمَنِه ودارِه التي يأمَنُ فيها، ثم قاتِلْهُ إِنْ شِئْتَ»[9]. فلو لم يكن للقرآن العظيم من تأثيرٍ بالغٍ في قلوب سامعيه، لَمَا كان هو الحد الفاصل لنهاية إجارة المشرك.
7- قول الله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]. وذلك لأن القرآن يهزُّ القلوب، ويجعلها في خوف من شدة عذاب الله إن لم تؤمن بالقرآن، وتعمل بما فيه. فلذا كان القرآن الكريم أعظمَ سلاحٍ يستعمله الدُّعاة إلى الله سبحانه، في دعوتهم للناس، والتأثير فيهم[10].
المطلب الثاني: تأثير القرآن في استجابة بعض المعاصرين:
للقرآن العظيم أهمِّية كبرى وأثر عظيم في انتشار الدعوة بين الناس قديمًا وحديثًا، وإن المتأمِّل في المنهج العقلي لدى غير المسلمين، يجد أنه يقف إزاء الإسلام على نقطة التَّوازن بين الشدِّ والجذب، في اتِّجاهين متناقضين:
الاتجاه الأول: تغلب عليه النَّزْعة العلمية الموضوعيَّة، التي تُحاول أن تتجرَّد من الهوى، وأن تكون حياديَّة في الرأي والنتيجة.
الاتجاه الآخر: تغلب عليه النَّزْعة التَّحزُّبية، وكل ما يرتبط بها، أو يوازيها من إحساس استعلائي تجاه كل ما هو شرقي. ويوجد أناس من غير المسلمين يميلون إلى معالجة ما يخصُّ الإسلام معالجة موضوعية، على حين قد يندفع بعضهم في الاتِّجاه الآخَر.
وما قدَّمه بعض علمائهم على وجه العموم، والمستشرقون منهم على وجه الخصوص يتضمَّن الحسنَ والسَّيئ، وذلك لأسباب عديدة: منها قوة الجذب المشار إليها آنفًا، ومنها الجهل ببعض المسائل، ومنها التأثيرات الذَّاتية والثَّقافية، وما يَعْنينا هو شهادات أصحاب الاتِّجاه الأوَّل وأقوالهم، ولكن علينا أن نلحظ أمرًا مهمًا للغاية، وهو: أن هذه الأقوال والشَّهادات في الإسلام أو القرآن، لا تعدو كونها تأكيدًا لحقائق قائمة وأصول ثابتة في ديننا وحضارتنا[11].
كما أنَّه يجب أن نعلم أن الإسلام عمومًا، والقرآن خصوصًا ليس بحاجة إلى شهادةٍ من بَشَر كائنًا مَنْ كان، وأن شهادات هؤلاء الذين أنصفوا الإسلامَ، إنَّما نذكرها لنبيِّنَ إنصافَهم وحيادَهم، لا لنبيِّن جمال الإسلام وروعته، فهو في غَنَاء تام عن شهاداتهم.
وهذه الأقوال والشَّهادات، تُنسب إلى أشخاص دخلوا في دين الله تعالى، قالوا كلمتهم في جانب من جوانب الإسلام، قبل إسلامهم، أو بعده، وهي على النحو الآتي [12]:
1- أحد القساوسة المنصِّرين اسمه: «إبراهيم خليل أحمد»: فبعد تعمُّقه في دراسة الإسلام، وخاصة القرآن الكريم، أعلن إسلامه وأشهره رسميًا عام 1380هـ. قال عن القرآن العظيم: «أعتقد يقينًا أني لو كنت إنسانًا وجوديًا؛ أي: لا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون، ولا برسالة من الرسالات السَّماوية، وجاءني نفر من الناس وحدَّثني بما سبق به القرآنُ العلمَ الحديثَ في كل مناحيه لآمنت بربِّ العزَّة والجبروت، خالقِ السَّماوات والأرض، ولن أُشرك به أحدًا»[13].
وقال في موضع آخر - وهذا القول يحتاج مِنَّا إلى التَّأمل والإمعان والتَّفكير، وخاصة من الذين يعيشون شيئًا من الهزيمة النفسية تجاه الأمم التي سبقتنا في العلوم المادية - إذ يقول: «للمسلم أن يعتزَّ بقرآنه، فهو كالماء، فيه حياة لكل مَنْ نهل منه»[14]. وقال أيضًا: «القرآن الكريم يَسْبِقُ العلمَ الحديثَ في كل مناحيه: من طبٍّ، وفلك، وجغرافيا، وجيولوجيا، وقانون، واجتماع، وتاريخ، ففي أيامنا هذا استطاع العلمُ أن يرى ما سبق إليه القرآنُ بالبيان والتعريف»[15].
2- وَمِنَ الذين تأثروا بالقرآن العظيم فأسلموا: «د. جرينيه»: حيث سُئِلَ عن سبب إسلامه فقال: «إنني تتبَّعت كلَّ الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، والتي درستها من صِغري وأعلمها جيدًا، فوجدتُ هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمت؛ لأنني تيقنت أن محمدًا أتى بالحقِّ الصُّراح قبل ألف سنة، مِنْ قَبْلِ أن يكون هناك مُعلم أو مدرس من البشر، ولو أن كل صاحب فن من الفنون، أو علم من العلوم، قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلَّم جيدًا - كما قارنتُ أنا - لأسلم بلا شك، إنْ كان عاقلًا خاليًا من الأغراض»[16].
3- لقد أَثَّرَ القرآنُ العظيم في بعض الأعاجم الذين لا يَعْرِفُون العربية، تأثيرًا كبيرًا، دفع بعضهم إلى أن يُعلن إسلامه، ويَذكر الأثر الذي أحدثه القرآن في نفسه، ومن هؤلاء:
المستشرق الفرنسي «إيتان دينيه»، الذي أعلن إسلامه وقال: «مِنَ اليسير على المؤمن في كل زمان، وفي كل مكان، أن يرى هذه المعجزة بمجرد التلاوة في كتاب الله، وفي هذه المعجزة نجد التَّعليل الشَّافي للانتشار الهائل الذي أحرزه الإسلام، ذلك الانتشار الذي لا يدرك سببه الأوروبيون؛ لأنهم يجهلون القرآن، أو لأنهم لا يعرفونه إلاّ من خلال ترجمات لا تنبض بالحياة، فضلًا عن أنها غير دقيقة»[17].
وقال في موضع آخر: «إِنْ كان سِحْرُ أسلوب القرآن وجمالُ معانيه، يُحْدِثُ مِثلَ هذا التأثير في نفوس علماء لا يمتُّون إلى العرب، ولا إلى المسلمين بصلة، فماذا ترى أن يكون من قوة الحماسة التي تستهوي عرب الحِجاز؟ وهم الذين نزلت الآيات بلغتهم الجميلة. لقد كانوا عند سماعهم للقرآن تمتلك نفوسهم انفعالات هائلة مُباغتة، فيظلون في مكانهم وكأنهم قد سُمِّروا فيه»[18].
4- ومن الأمثلة التي تدلُّ على أثر القرآن العظيم في نفوس مستمعيه: ما ذكره القس «جان باتيست أهونيمو»، حيث يقول عن سبب إسلامه: «سبب إسلامي تم خلال وجودي في محاضرة، عبارة عن مجادلة بين مسلم ومسيحي، ولقد اقتنعت أثناء هذه المحاضرة بسورةِ مريم وسورةٍ أُخرى وبأن الإسلام هو دين الحق»[19].
5- أما «د. أحمد نسيم سوسة» الذي كان يهوديًا قبل أن يُسلم، فيقول: «يرجع ميلي إلى الإسلام حينما شرعت في مطالعة القرآن الكريم، للمرة الأولى فَوَلِعْتُ به وَلَعًَا شديدًا، وكنت أطرب لتلاوة آياته»[20].
ويواصل حديثه عن التأثير القرآني فيقول: «لا أظن أن ثَمَّةَ شيئًا يؤثر في المرء الذي أدرك حقيقة الديانة الإسلامية وروحيتها بقدر تأثير تلاوة آيات القرآن المجيد على مشاعره، فيغمره الإحساس الفيَّاض باتصاله الرُّوحاني، وتجتذِبُه مَهَابةُ الإلـه جلَّ جلالُهُ، فيقرّ بكل خشوع بعجزه وضعفه أمام كلام ربه العظيم. وما لنا في هذا الصدد إلاَّ أن نتأمَّل الأوضاعَ في كنائس الغرب، ليتسنى لنا المقارنة بين الروحية الإسلامية ونفوذها في المشاعر، في فُرْقَانِها المجيد، وبين مبادئ العقائد الأخرى وكتبها [21].
6- ويوجد مثال لتأثير القرآن العظيم في نفوس بعض الغربيين الذين حازوا الشهرة والمال، وجمع متع هذه الحياة الدنيا الزائلة، حتى ظنَّ أنه مِنْ أسعد الناس، إلى أن سمع القرآن العظيم، فعلم أنه لم يعرف للسَّعادة طريقًا، ولم يذق لها طعمًا يقارب السعادة واللذة التي شعر بها عند سماعه للقرآن العظيم، فأعلن إسلامه وأصبح من الدعاة إلى هذا الدِّين، هذا الرجل هو المغني السابق البريطاني المشهور «كات ستيفنز» الذي قال: «في تلك الفترة من حياتي - يعني: قبل إسلامه - بدا لي وكأنني فعلتُ كلَّ شيء، وحقَّقتُ لنفسي النجاح والشهرة، ونلت المال والنساء، وكل شيء، ولكن كنت مثل القرد أقفز من شجرة إلى أخرى، ولم أكن قانعًا أبدًا، ولكن كانت قراءة القرآن بمثابة توكيد لكل شيء بداخلي [22]، كنت أراه حقًا، وكان الوضع مثل مواجهة شخصيتي الحقيقية»[23].
7- ومن الأمثلة التي تدل على أثر القرآن العظيم في الفكر العربي الإسلامي ما ذكره المفكر الفرنسي «فنساي مونتاي»، حيث يقول: «إِنَّ مَثَلَ الفِكْرِ العربي الإسلامي المُبعد عن التأثير القرآني، كَمَثَلِ رجل أُفْرِغَ مِنْ دَمِه!»[24].
8- البريطانية «هوني» والتي شغفتها الفلسفة حبًا فأتمت دراستها فيها، تتحدث عن تجريتها الذاتية مع القرآن العظيم، فتقول: «لن أستطيعَ مهما حاولتُ، أن أَصِفَ الأثَرَ الذي تركه القرآن في قلبي، فلم أَكَدْ انتهي من قراءة السورة الثالثة من القرآن حتى وجدتني ساجدة لخالق هذا الكون، كانت هذه أول صلاة لي في الإسلام»[25].
9- و«عامر علي داود» النصراني الهندي الذي أسلم أيضًا، يتحدث عن تجربته مع القرآن العظيم، فيقول: «تناولتُ نُسخةً من ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية؛ لأنني عرفتُ أن هذا هو الكتاب المقدَّس عند المسلمين، فشرعْتُ في قراءته وتدبر معانيه.
لقد استقطب جُلَّ اهتمامي، وكَمْ كانت دهشتي عظيمة حين وجدت الإجابة المُقنعة عن سؤالي المُحَيِّرِ (الهدف من الخلق) في الصَّفحات الأُولى من القرآن الكريم. لقد قرأتُ الآيات [30-39] من سورة البقرة، وهي آياتٌ توضِّح الحقيقةَ بِجَلاءٍ لكل دارس مُنصفٍ، وإن هذه الآيات تُخبرنا بكل وضوح وجلاء، وبطريقةً مقنعة عن قصة الخلق[26]
10- «براون» وسِرُّ البحر العميق: قرأ «براون» القرآنَ العظيم حتى وصل إلى قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور: 40). وفي هذه الآية إشارة إلى البحر العميق الذي اكتشفه العلماء حديثًا حينما استطاعوا الغوص في أعماق كبيرة حيث الظلام التَّام، والظلمات المتراكبة في تلك البحار، والبرودة الشَّديدة.
وهنا سأل براون أحدَ علماء مسلمي الهند: هل ركب نبيُّكم محمدٌ البحر؟ فقال: لا. فقال براون: فمن الذي علَّمَه علوم البحار؟ فسأله العالمُ المسلمُ: فماذا تريد من سؤالك هذا؟
قال براون: لقد قرأتُ في كتاب الإسلام آيةً لا يعرفُ أعماقَ ما فيها إلاَّ مَنْ أُوتي علمًا واسعًا في علوم البحار، ثم قرأ عليه الآية، وقال: فإذا كان محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يركب البحر، ولم يتلَقَّ علومَ البحار على أيدي أساتذة متخصِّصين، ولم يدرس في جامعة أو معهد، بل كان أُميًا، فَمَنْ الذي علَّمه هذا العلم النافع؟ إلاَّ أن يكون وحيًا صادقًا من خالق الكائنات، فإني أشهدُ أن لا إلـه إلاَّ الله وأن محمدًا رسول الله [27].
11- عالِم ألماني وبصمات أصابع اليد: يقول تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3، 4]. هذه الآية تُشير إلى بصمات الأنامل، وقد كانت سببًا في إسلام عالم ألماني - كما يحكي صاحب تفسير الجواهر عن الرَّحالة محمود سامي أن هذا العالم أدركته رحمة الله تعالى فأسلم، وأعلن ذلك على ملأ من العلماء، ولمَّا سُئل عن سبب إسلامه؟ قال: هذه الآية: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} فإن الكشف عن أمر بصمات الأنامل لم تعرفه أوروبا فضلًا عن العرب إلاَّ في زماننا هذا؛ إذن هو كلام الله لا كلام البشر [28].
وبعد ذلك كله: فلن يستطيع أحد أن يدرك جوانب العظمة والتَّأثير للقرآن العظيم ووقعه في النفوس، ولكن هي مشاعر وأحاسيس توهَّجت في نفوس بعض الذين دخلوا في الإسلام حديثًا، فحاولوا التَّعبير عنها بما يستطيعون، ولكن أنَّى لهم أن يَصِفُوا حقيقة ذلك، أو يُدركوا أسرار القرآن وعجائبه، وعظمته وقوة تأثيره.
[1] ولا يُقصد من هذا الكلام أن يكتفي الدعاة إلى الله تعالى بتلاوة الآيات فقط حال الدعوة، مع إغفالهم التوضيح والبيان، والتفصيل والتعليل، وضرب الأمثلة والشواهد، وذكر القصص والعبر؛ لأن هذا يُخالف نَصَّ القرآن، وهديَ رسول الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
[2] تفسير الطبري (11/291).
[3] انظر: تفسير الطبري (12/297)، تفسير القرطبي (7/160)، تفسير السعدي (ص245).
[4] انظر: تفسير ابن كثير (3/69).
[5] انظر: تفسير القرطبي (11/292)، تفسير ابن كثير (3/181)، تفسير السعدي (ص473).
[6] تفسير ابن باديس (ص252).
[7]المصدر نفسه (ص253).
[8] انظر: تفسير القرطبي (13/301)، تفسير ابن كثير (3/397)، تفسير السعدي ص571).
[9]تفسير القاسمي، المسمَّى: «محاسن التأويل» (4/90).
[10]انظر: الدعوة إلى الله بالقرآن الكريم، د. خالد القريشي، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عدد (31)، رجب 1421هـ (ص273).
[11] انظر: الدعوة إلى الله بالقرآن الكريم، (ص311). قالوا عن الإسلام، د. عماد الدين خليل (ص11).
[12]انظر: الدعوة إلى الله بالقرآن الكريم (ص314)، بالقرآن أسلم هؤلاء، عبد العزيز الغزَّاوي (ص162)، قرآنكم يا مسلمون، إبراهيم الضبيعي (ص53)، القرآن الكريم من منظور غربي، د. عماد الدين خليل (17-29).
[13]المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
[14]المصدر نفسه، والصفحة نفسها، وانظر: بالقرآن أسلم هؤلاء (ص131).
[15]محمد في التوراة والإنجيل والقرآن (ص47).
[16]انظر: بالقرآن أسلم هؤلاء (ص76).
[17] انظر: قالوا عن الإسلام (ص63)، الإسلام في العقل العالمي (ص198).
[18] قالوا عن الإسلام (ص64).
[19] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
[20]المصدر نفسه، والصفحة نفسها
[21]في طريقي إلى الإسلام (1/183).
[22]هذا تأكيد أنَّ القرآن العظيم «مُذَكِّر» بما استقرَّ في الفطرة.
[23]المصدر نفسه، والصفحة نفسها. انظر: بالقرآن أسلم هؤلاء (ص91).
[24]رجال ونساء أسلموا (5/50).
[25]المصدر نفسه (1/59).
[26]المصدر نفسه (8/109).
[27]انظر: بالقرآن أسلم هؤلاء (ص130)، تفسير الجواهر، طنطاوي جوهري (24/309).
[28]انظر: مع كتاب الله، أحمد عبد الرحيم السايح، مجلة الجامعة الإسلامية، عدد (40)، ربيع الأول 1398هـ (ص23).
- التصنيف:
Shaikh Ahmed Raza
منذ