مُهامَسات دعوية -1-

منذ 2022-01-04

فما أجلَّ أن يبذل الداعية دون أن ينتظر من أحد عوضا، أو يرجو من مخلوق مغنما...

بنداود رضواني

أوائل الدعاة ونحن!
جهود الدعاة الأوائل، وهمومهم للتبشير بالإسلام تبقى جديرة بالإشادة والتقدير، فسائقهم الذي لم يتخلف – في طريق الدعوة – هو حبهم لله والوجل منه، أما مراكبهم فكانت مطايا من الصبر والتجشم….، راجين من وراء ذلك كله النظر إلى وجه الله الكريم، ومجاورة ساكن الفردوس الأعلى النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.
أما نحن اليوم، ففي زمن الحظوظ وغلبة الأنانية، زمن تراكم فيه الضغط على الأخلاق الفاضلة أكثر مما مضى، لإفراغها من المشاعر الإيمانية والقيم الفطرية….، إنه عمل دؤوب لمحو الآثار الإيمانية والإنسانية التي بثتها فيها مواكب الرسل والأنبياء والمصلحين.
فما أجلَّ أن يبذل الداعية دون أن ينتظر من أحد عوضا، أو يرجو من مخلوق مغنما...، أليس من مقتضيات الإيمان أن المقابل لن يأتيه إلا من الله وحده..؟! وأن الزمن الذي يتحرك في فضاءه إنما يتهدده فيه شيء واحد هو الانسلاخ من الحق؛ فإن انسلخ منه انسلخ عنه في المقابل، وتلك سنة الله ماضية في خلقه.

ما مستقبل الدعوة ؟
الأكيد أننا لا نملك وصفة جاهزة على الأقل في ساعتنا هاته، ولكن نملك معيارا سُنَنيا يجلي بلاريب مصير الدعوة إلى الله ليس فقط في الراهن؛ بل عبر امتدادات هذا الإنسان الزمانية والجغرافية.
مستقبل انتشار هذا الدين رهين بما عليه حال حملته أولا وقبل أي شيء آخر، ومقيد بمدى الإيمان الذي يعمر أفئدتهم، والأخلاق التي تنشأ عنهم…فالدعوة إلى الله تفتقر قبل كل شيء إلى قوة الإيمان التي توقد نشاطها، وإلى التبتل بين يدي الله الذي يذكي حيويتها، ثم إلى مكارم الأخلاق التي تضع لها بين الناس الرضى والقبول، لأن عبادة بلا عبودية لا تنفع صاحبها. أما وأن يكون المرء في إدبار عن كل ذلك، فدعوته ستبقى مجرد صيحات في الفلوات… نعم ما قيمة الدعوة إلى الله إذا كانت بلا إخلاص بلا تقوى، وبلا مجاهدة نفسية…، حسب صاحبها أن يكون دعيّ لا داعية، ف " يوم ولدت الدعوة ولدت العقيدة؛ والعبادة والأخلاق وقيم المجتمع الفاضل "،1. بل وما جدوى هذه المواعظ والدروس حين تصير حركة الداعية من الأخلاق وفضائل الأعمال هواء، بيئة الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة هي أخصب بيئة بلا منازع لانتشار الدعوة إلى الله وازدهارها.

سهام الدنيا.
الأخلاق المادية هي أظهر سمة للزمن الحالي، فالأكثرية منتشية بالقيم العدمية، غير مبالية بالخسائر الروحية التي تئن الإنسانية جراءها…وخصوم الإنسانية اليوم جادون في طمس الأخلاق وإماتة الضمير وتشويه الغريزة…، فمن هم الأقدر بين الناس على إبراز شأن القيم الفطرية من جديد، وإعادة الحياة إلى ضمير الإنسانية، وتوجيه الغريزة باتجاه مصارفها الطبيعية…؟؟ أليس هم الدعاة الربانيون. لكن المستغرب هو هذا الانبهار الذي أسر قلوب البعض ممن يحمل لواء البلاغ وراية الدين، ويرجَّى فيه فك آصار المادة عن قلوب وعقول الناس…!!! للأسف.
إن رسالة البلاغ منذ شرعت هي التي تحدد لحاملها طريقته في الحياة، وتضع هدفا لدنياه، أما وأن يستسلم الداعية - شأنه شأن الدهماء - للمادة ويركن إلى التشييء، فذاك سبيل التفاهة لا سبيل الدعوة إلى الله، بل المصيبة أن يضحى هو نفسه معولا يهدم به نفسه ودعوة الله.
إن أقوى سهام الفتك بكيان الدعوة إلى الله هو الذوبان في حب الدنيا والشغف بمفاتنها، وهو الأمر الذي يشجعه خصوم الدين وأعداء الإنسانية، هَمُّهم أن يصير الداعية إنسانا بلا معنى لا يعرف منبته الرسالي وأصله الروحي.  و يصبح المسلمون دون استثناء مغفلون ذووا شهوات منحرفة وطائشة…، لا غير.

الثقة في موعود الله.
من سنن الحياة، أن تنزل الابتلاءات بالدعاة بين الفينة والأخرى، ليظهر جوهرهم وينجلي معدنهم، ومهما عظمت، لا يلبث أثرها أن يتلاشى بمرور اللحظات إن كانوا أهل إخلاص وتجرد. فلم الريبة في موعود الله واهتزاز الثقة في نصر الله، لكن لم خبت جذوة الإيمان بقضاء الله وقدره ؟!، والله يقول
{{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } } 2. ورغم المحن والإخفاقات فمن الواجب ألا تغفل قلوب الدعاة عن سيدهم ومولاهم، إنهم لن يجدوا أحنى عليهم، ولا أبرّ بهم من خالقهم وعز وجل…. " اللهم إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِيج، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك".

 

الهامش:

  1. محمد الغزالي. الدعوة الإسلامية في القرن الحالي. دار الشروق، بلا تاريخ، ص 7.
  2. سورة الشرح/ 5-6.
  3. سيرة إبن هشام- 1/420

بنداود رضواني

حاصل على شهادة الدكتوراة في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان

  • 3
  • 0
  • 1,372

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً