قصة وفد نجران وأبعادها المقاصدية

منذ 2022-01-29

أهمية المَثل التشبيهي المذكور ها هنا، تتجلى في فك شفرة لغز خلق عيسى عليه السلام، بمقارنة خلقه بخلق آدم عليه السلام، فمثَّل الله تعالى عبدَه عيسى «بآدم الذي خلقه الله دون أم ولا أب، وذلك أغرب مما استبعدوه»

تقديم:

اقتضت حكمة الله تعالى أن تصل دعوة الإسلام إلى نجران[2]، فقدم وفد منها المدينة النبوية، يريدون أن يجادلوا «النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، وقالوا: بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد [الله]»[3]، فأجابهم المصطفى عليه السلام: «أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول»، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانًا قط من غير أب؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية[4]»[5].

 

إلى ها هنا تبدو الأحداث مألوفة سِيَريًّا (أي في علاقتها بالسيرة النبوية)، وتظهر الأمور طبيعية تاريخيًّا، بين طرفي هذا المقطع التواصلي الحجاجي، أقصد المصطفى عليه السلام، ومحاوريه من نصارى وفد نجران.

 

لكن الشيء الصَّعب في هذه المعادلة التواصلية الإقناعية يتمثل في السؤال التالي: كيف يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدم جوابًا مقنعًا للعقول، شافيًا للصدور، مطمئنًّا للقلوب، خاصة أن المخاطبين له يختلفون معه؛ من حيث المنطلقات المرجعية، والأسس الفكرية، فلا يؤمنون بالقرآن كتابًا من عند الله سبحانه، كما لا يؤمنون بشخصه رسولًا من الله تعالى؟

 

    1- قصة وفد نجران وأبعادها الدعوية في علاقتها بحوار الأديان والثقافات:

      نظرًا لخطورة هذه اللحظة التواصلية، فقد التزم النبي عليه السلام السكوت، ينتظر المدد من السماء، حتى أتاه الوحي: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59، 60][6]. فلما أصبحوا عادوا، فقرأ عليهم هاتين الآيتين وما بعدها[7].

       

      على أن أهمية المَثل التشبيهي المذكور ها هنا، تتجلى في فك شفرة لغز خلق عيسى عليه السلام، بمقارنة خلقه بخلق آدم عليه السلام، فمثَّل الله تعالى عبدَه عيسى «بآدم الذي خلقه الله دون أم ولا أب، وذلك أغرب مما استبعدوه»[8]، مع أن مادة (أي: التراب) خلق أبي البشر «ليس من شأنها أن يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم، وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها»[9].

       

      ثم إن النتيجة المنتظرة هي أن وجود المشبه به (وهو آدم) «من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغراب؛ ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته»[10].

       

      لذلك جاء هذا الجواب القرآني عن شبهة النصارى في خلق عيسى الغريب من غير أب، المخالِف لسنن الله تعالى في الأنفس وفي الآفاق، بالنظر إلى أن هذا التمثيل بين خلق عيسى بآدم عليهما السلام، من خواص العقل في كليته وإنسانيته، فـ«إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب، فلمَ لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولُّده من التراب اليابس»[11].

       

      ومن قوة هذا المسلك العقلي أن «تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقًا بغير أب كآدم، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة، وهو كونه لا أم له كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه، وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه، وأعظم عجبًا وأغرب أسلوبًا»[12].

       

      ومن ذلك أيضًا موافقة المَثل المذكور ها هنا للفطرة الإنسانية، في قبولها للمساواة بين النظائر المتشابهة، وهذه هي طريقة «الذكر الحكيم» في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط، في أعقد القضايا التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور.

       

      ومنها كذلك التوسل بالمنطق الإنساني السليم، غير الاصطلاحي العلمي المؤسس على خلفية علمية محددة، بمجال معرفي مضبوط، وهو علم المنطق في ثوبه الإغريقي، أو من سار على نهجه، فالآية «ترد ردًّا منطقيًّا حكيمًا يهدم زعم كلِّ مَن قال بألوهية المسيح، أو اعتبره ابن الله»[13].

       

      ولا ننسى الاستعانة بالبرهان بالخلف، بمعناه العام غير المنحصر في قضايا منطقية اصطلاحية، أو معادلات ومسائل رياضية، وإنما سياق الخلف ها هنا يتحدد في مجال الظاهرة الإنسانية في كليتها، متى تبين خطأ النتائج، فإنه يؤول إلى خطأ المقدمات، و«كأن الآية الكريمة تقول لمن ادعى ألوهية عيسى؛ لأنه خُلق من غير أب: أنه إذا كان وجود عيسى بدون أب يسوِّغ لكم أن تجعلوه إلهًا أو ابن إله، فأَولى بذلك ثم أَولى آدم؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم.

       

      وما دام لم يدَّع أحدٌ من الناس ألوهية آدم لهذا السبب، فبطل حينئذ القول بألوهية عيسى لانهيار الأساس الذي قام عليه وهو خلقُه من غير أب، ولأنه إذا كان الله تعالى قادرًا على أن يخلق إنسانًا بدون أب ولا أم، فأَولى ثم أولى أن يكون قادرًا على خلق إنسان من غير أب فقط، ومن أم هي مريم التي تولاها سبحانه برعايته وصيانته لها من كل سوء، وجعلها وعاءً لهذا النبي الكريم عيسى عليه السلام»[14].

       

      على أن تأملًا متأنيًا في هذا النص الأخير، يرشدنا إلى تجاوُزه تأسيسَه للبرهان بالخلف، إلى توظيفه كذلك لقياس الأَولى، في بعده الأعم من الظاهرة الأصولية[15]، في ارتباطها بمقصد الضبط العلمي لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص الجزئية.

       

      وأما استعمال قياس الأَولى ها هنا، فبمعناه الكوني الشامل للظاهرة الإنسانية في كليتها؛ فإن «الذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأَولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقًا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطلٌ، فدعواها في عيسى أشد بطلانًا وأظهر فسادًا»[16].

       

      تبعًا لذلك فإن قياس الأولى يظل بعيد المنال إلا من خلال طريق الإلزام العقلي، وذلك أن القائلين «بإلهية عيسى من أجل أنه خلق بكلمة من الله وليس له أب، فقالوا: هو ابن الله، فـ[قد] أراهم الله أن آدم أَولى بأن يُدَّعى له ذلك، فإذا لم يكن آدم إلهًا مع أنه خلق بدون أبوين، فعيسى أولى بالمخلوقية من آدم»[17].

       

        2- الأبعاد المقاصدية لقصة وفد نجران: منها:

          • إن مما ينبغي للأمة الإسلامية الاعتناء به الدعوةَ إلى الله تعالى، ومجادلة المخالفين لها دينًا وملةً، وخاصة أهل الكتاب، ثم إن هذا المطلب الدعوي يشكِّل أحد فروض الكفاية على هذه الأمة؛ من حيث ضرورة تأهيل طائفة من أبنائها لتبيين عقيدة الإسلام الصحيحة للبشرية، وكشف شبهات أهل الملل والنحل الأخرى، بغية ترك العقل الإنساني يرجع إلى دين الفطرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

           

          • تبعًا لذلك فإن منصب الداعي إلى الله تعالى، ذا الوظيفة الحوارية للآخر، يرتبط بتكليف كلي للأمة؛ من حيث بناء المعاهد والجامعات والمؤسسات العلمية، وتوفير الأطر التعليمية، والتجهيزات الضرورية، من أجل تخريج طائفة من المتخصصين في حوار الثقافات والأديان، على هدى وبصيرة.

           

          • على أن الدعوة إلى الله على هدى وبصيرة، تستلزم دراسة سيرة المصطفى عليه السلام، خاصة ما يتعلق بمجادلته للآخر، مع ضرورة النأي بالسيرة عن دراستها دراسة تاريخية عقيمة فقط، وذلك من خلال تأسيس النموذج النبوي الدعوي فهمًا صحيحًا؛ بُغية جودة تنزيله على واقعنا المعاصر تطبيقًا سليمًا.

           

          • ومن الأساليب الدعوية السِّيَرية التي جاءت بها قصة وفد نجران: الاعتماد على العقل في بعده الإنساني الكوني، غير المتحيز لثقافة ولا لحضارة، وما يتفرع عن ذلك من ضرب الأمثلة، وتوظيف المنطق الإنساني السليم، واستعمال البرهان بالخلف، وقياس الأَولى، ناهيك عن دليل الفطرة الإنسانية.

           

          • على أن استعمال هذه الأدوات الحوارية والحجاجية، إنما هي لبُعدها المقاصدي المتميز في هذا الحدث السِّيَري، للمصلحة الإقناعية المتحققة منها في أحداث هذه القصة.

           

          واليوم، فإن الداعي إلى الله تعالى غير ملزم شرعًا بأن ينهج نفس هذه الأساليب الدعوية في دعوة المخالفين لنا ملة ودينًا، فإن ذلك لم تنطق بها نصوص هذه القصة ولا فحواها.

           

          • وهذا ما يجعلنا نؤسِّس دعوتنا للآخر على البعد المصلحي بامتياز، وبتأطير من مقاصد الشريعة لأساليب محاورة المخالِف ومجادلته، بشرط إيصال كلمة الحق إلى الغير، مع اشتراط عدم مخالفة الشرع (كالكذب، والخيانة، وقلب الحقائق...)، وهذا يعني أن أَولى الأساليب الدعوية هي ما جاءت بها قصة وفد نجران إذا ظلت المصلحة الدعوية مستصحبة الآن.

           

          • وفي واقعنا الحديث، فقد ظهرت علوم، ومعارف، وأدوات تواصلية، مستوحاة من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية والنفسية، تروم حسن دعوة الآخر، وإقناعه، فلا مانع من توظيفها في حوارنا للمخالِف لنا دينًا وملةً، إذا أثبتت بعدها المقصدي دعويًّا، تشبثًا بالاستنان بسيرة المصطفى نفسه في دعوته لوفد نجران، لا لنص القصة وحرفيته، وإنما لفحواه ومفهومه المقاصدي المتميز.

           


          [1] د. سمير الخال: دكتوراه في الدراسات الإسلامية.

          [2] يُقصد بنجران تاريخيا: بلدة من قبائل العرب باليمن. وانظر:

          - اليعقوبي، أحمد بن إسحاق (ت 292 هـ)، البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1422 هـ، ص156؛

          - ياقوت حموي، ياقوت بن عبد الله (ت 626 هـ)، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، ط 2، 1995 م، ج 5، ص266.

          إلا أن موسوعة ويكيبيديا المعاصرة تنسب منطقة ومدينة نجران إلى المملكة العربية السعودية حاليا، على اعتبار أنهما تقعان في جنوبها الغربي، على الحدود مع اليمن. وانظر: (www.wikipedia.org)

          [3] ابن عطية، عبد الحق بن غالب (ت 542 هـ)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تح عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1422 هـ، ج 1، ص 446.

          [4] وهي الآية 58 من سورة آل عمران، وستأتي قريبا.

          [5] البغوي، الحسين بن مسعود (ت 510 هـ تقريبا)، معالم التنزيل في تفسير القرآن، تح محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش، دار طيبة، الرياض، ط 4، 1417 هـ - 1997 م، ج 1، ص 449.

          [6] لقد حكى العلماء إجماعهم على سبب نزول هاتين الآيتين. وانظر:

          - ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد (ت 327 هـ)، تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، تح أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، المملكة العربية السعودية، ط 3، 1419 هـ، ج 2، ص 665 - 666؛

          - ابن هشام، عبد الملك بن هشام (ت 213 هـ)، السيرة النبوية، تح مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ط 2، 1375 هـ - 1955 م، ج 1، ص573-582؛

          - السهيلي، عبد الرحمن بن عبد الله (ت 581 هـ)، الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تح عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، ج 5، ص 5 - 8؛

          - ابن كثير، إسماعيل بن عمر (ت 774 هـ)، البداية والنهاية، تح عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، السعودية، ط 1، 1418 هـ - 1997 م، ج 2، ص 451 - 452.

          [7] الطبري، محمد بن جرير (ت 310 هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، تح أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420 هـ - 2000 م، ج 5، ص 460.

          [8] ابن جزي، محمد بن أحمد (ت 741 هـ)، التسهيل لعلوم التنزيل، تح عبد الله الخالدي، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت، ط 1، 1416 هـ، ج 1، ص 155.

          [9] أبو زهرة، محمد أحمد (ت 1394 هـ / 1974 م)، زهرة التفاسير، دار الفكر العربي، مصر، ج 3، ص 1249.

          [10] النسفي، عبد الله بن أحمد (ت 710 هـ)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، تح يوسف علي بديوي، دار الكلم الطيب، بيروت، ط 1، 1419 هـ - 1998 م، ج 1، ص 260.

          [11] الرازي، محمد بن عمر (ت 606 هـ)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1420هـ، ج 8، ص 242 - 243.

          [12] صديق خان، محمد صديق خان بن حسن (ت 1307 هـ)، فتح البيان في مقاصد القرآن، تح عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، المكتبة العصرية، بيروت، طبعة 1412 هـ - 1992 م، ج 2، ص 253.

          [13] طنطاوي، محمد سيد (ت 1431 هـ / 2010 م)، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، دار نهضة مصر، القاهرة، ط 1، 1997م، ج 2، ص126.

          [14] المرجع السابق نفسه.

          [15] في الاصطلاح الأصولي، يقصد ب«قياس الأولى: هو أن يكون الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل لقوة العلة فيه، مثل قياس الضرب على التأفيف بجامع الإيذاء»، وانظـر: الزحيلي، وهبة (ت 1436 هـ / 2015 م)، الوجيز في أصول الفقه، دار الفكر المعاصر (بيروت) ودار الفكر (دمشق)، ط 1، 1415 هـ - 1994 م، ص 83.

          [16] ابن كثير، إسماعيل بن عمر (ت 774 هـ)، تفسير القرآن العظيم، تح سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، الرياض، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، ج 2، ص 49.

          [17] ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد (ت 1393 هـ / 1973 م)، التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، الدار التونسية للنشر، تونس، طبعة 1984 هـ، ج 3، 263.

          _____________________________________________________________
          المصدر: د. سمير الخال

          • 3
          • 0
          • 3,080

          هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

          نعم أقرر لاحقاً