ريان والسر الغامض!
يدرك السياسيون تأثير الاعلام الضخم على الناس، خاصة مع تواجد القنوات الفضائية المختلفة، واتساع انتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من فيس بوك وتويتر، والتي تضاءلت الى جوارها الوسائل المكتوبة من صحف ومجلات في التأثير.
"ابنتي ترفض تناول الطعام حتى يخرج ريان"
هكذا اتصل أحدهم بالقناة الإخبارية الأشهر في منطقتنا، يتحدث عن حال أسرته مع قضية الطفل المغربي الذي سقط في البئر، والمثير في الأمر والمفاجئ في الوقت نفسه أن هذا المتصل ليس مغربيا بل سودانيا.
وهذا يدفعنا الى طرح تساؤلات:
ما السر وراء هذا التعاطف الضخم الغير مسبوق مع حادثة هذا الطفل المغربي، الذي سقط في البئر ثم قضى حتفه في ظروف أليمة؟
هل هو إحساس إنساني، من بشاعة الحادثة نفسها وتفاصيلها من طفل صغير وقع في بئر عمقها كبير وعاجز عن الخروج؟
ولكن هناك آلاف بل مئات الآلاف من الأطفال من هذه الأمة يموتون جوعا أو بردا أو قتلا ولا يبكي عليهم أحد...فلماذا البكاء على ريان بالذات؟
هل هو تأثير الاعلام بوسائله المختلفة والمتنوعة، والتي شغلت الناس وجمعتهم على قضية الطفل لحظة بلحظة متجاهلة غيرها من القضايا الأكثر بشاعة منها؟
هل هناك من حرك القضية عمدا ليلهي الشعوب العربية عما يحاك ضدها، وفق نظرية المؤامرة كما يقول البعض؟
أم أن مأساة ريان قد لامست وترا ما في نفسية ممن يعيشون منطقتنا، وعبرت عن مشاعر مكبوتة وأحلام عاجزة تجاه قضية تشترك فيها هذه الأمة؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة نعود الى الحادثة وبعض تفاصيلها، لعلها تبرز بعضا من الأمور التي قد تكون خافية علينا.
في ظهر الثلاثاء الماضي الأول من فبراير حينما كان يلهو الطفل المغربي ريان الذي لم يتجاوز عامه الخامس في محيط منزله الواقع بمنطقة تمروت التابعة لإقليم شفشاون شمال المغرب، وفجأة اكتشفت عائلته اختفاءه، ليتبين لاحقا أنه سقط في البئر التي حفرها والده قبل أيام للحصول على الماء على عمق 32 مترا من أصل 62 مترا، وبعدها بدأت عمليات الإنقاذ على قدم وساق، اصطدمت جهود الإنقاذ بضيق حفرة البئر، وحاولت قوات الإنقاذ في البداية الاستعانة بأحد المدربين على التعامل مع مثل هذه الحوادث إلا أنه اصطدم بضيق حفرة البئر، لتتجه جهود الإنقاذ نحو الحفر حول البئر التي ترافقت مع مد فرق الإنقاذ أنبوبي ماء وأكسجين داخل البئر بهدف مساعدة الطفل وإبقائه على قيد الحياة.
وعلى مدار 96 ساعة مستمرة، تدخلت قوات الإنقاذ المغربية، وقامت بالاستعانة بالجرافات للبدء بحفر حفرة كبيرة موازية لمكان سقوط الطفل ريان، وعند بلوغ العمق الذي يوجد به، تم البدء في عمليات الحفر الأفقي بالطريقة اليدوية، مع وجود فرق طبية متخصصة لمتابعة الحالة الصحية لـريان.
وبعد مرور ما يقرب من خمسة أيام، أعلنت فرق الإنقاذ أنها على وشك اخراج الطفل، واشرأبت الأعناق وتعلقت الأبصار في عالمنا العربي بالفضائيات وهي تنقل خروج الطفل من البئر، وبالفعل خرج للإسعاف وسط فرحة عارمة من الجماهير، وبعدها بدقائق معدودة يخرج بيانا صادرا عن الديوان الملكي المغربي ينعى فيه الطفل ولا يتحدث عن التفاصيل.
هذه كانت الرواية الأساسية والتي تم تسويقها من جانب الاعلام، والذي كان مصدره في الأساس من جهات حكومية مغربية، خاصة أنها هي وحدها التي تقوم بالإنقاذ وتنقلها الى المراسلين المتواجدين في مكان الحدث، ولا يجدون أمامهم الا مسئولي الانقاذ الحكوميين الذي على ما يبدو قد صدرت لهم تعليمات بالمقدار والجوانب المسموح لهم بالكلام فيه.
وهذا يجرنا الى قضية الاعلام وتناوله للحدث.
التأثير الإعلامي:
يدرك السياسيون تأثير الاعلام الضخم على الناس، خاصة مع تواجد القنوات الفضائية المختلفة، واتساع انتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من فيس بوك وتويتر، والتي تضاءلت الى جوارها الوسائل المكتوبة من صحف ومجلات في التأثير.
وتأثير الاعلام ليس فقط بأنه وسيلة لنقل الأخبار والمعلومات، بل تعدى دوره للتأثير على توجهات الناس وأفكارهم وما يحملونه من قيم ومعتقدات، فمثلا يمكن لحملة إعلامية مكثفة أن تحوّل راقصة إلى نموذج في وعي الناس لتكون أما مثالية.
ولكن تدرك الحكومات أن الاعلام الموجه الذي يخرج من طرف واحد مسيطر عليه ويحمل وجهة نظر واحدة أصبح من الماضي، وأنه لابد من تعديل آليات السيطرة والتوجيه على عقول وقلوب الجماهير، فقديما كان الناس يتلقون الأخبار والمعلومات من مصدر واحد تسيطر عليه الحكومات، أما الآن فأصبح الفرد بإمكانه بسهولة وهو جالس على فراشه أن يتصفح على الانترنت المصادر الأخرى الغير حكومية ليسمع وجهات نظر أخرى للأحداث والمعلومات.
فهناك تحول من وسائل الاتصال الجماهيري ذات الاتجاه الواحد، والمحتوى المتجانس، إلى تقنيات الاتصال التفاعلية ذات الاتجاهين والمضامين المتعددة، وظهر مصطلح الإعلام الجديد للتعبير عن هذه الظواهر الجديدة.
وهذا ما دفع الحكومات الى وضع آليات جديدة لضمان سيطرتها على عقول الناس وتوجيههم، بما يخدم أهداف النظم السياسية المختلفة.
فمثلا الميزة الكبرى للإعلام الجديد هي فورية المتابعة الإعلامية وتتمثل تلك اللحظية أو الفورية في تسجيل الأحداث والتعليق عليها فور وقوعها، ولكن سرعة الأداء ليست ميزة في حد ذاتها، ذلك أن المادة الإعلامية سريعة الزوال لا تخلف وراءها أي بنية باقية أو ثابتة، إن التكنولوجيا يمكن لها في ظروف مختلفة أن تكون مفيدة، ولكن الأمر يتعلق باستخدام النظام الاجتماعي الحالي للوسائل التقنية للاتصال السريع؛ من أجل التشويش على المعنى أو استئصاله، في الوقت الذي يزعم فيه أن هذه السرعة تعزز الفهم والاستنارة.
كذلك تشعر التغطيات السريعة والمتلاحقة للأخبار الأشخاص الذين يتلقونها بأن هذه المعلومات غير قابلة للنقاش، أو أنها بديهية وحتمية، وأنهم مشاهدون أو سلبيون لا حيلة لهم إلا إلى الاستماع للمعلومات، أو تلقيها بأي شكل كان.
كذلك استطاعت الحكومات تطويع تعدد المصادر الإخبارية لصالحها، فبدلا من أن يكون هذا التعدد للمصادر الخبرية وسيلة للفهم والأفق الواسع والحكم على المعلومات بعد سماع جميع أو أغلب وجهات النظر، أصبحت معظم المصادر تتفق في المضمون والمحتوى، بالرغم من اختلافها في الشكل والمظهر العام، وهذا ما ظهر في قضية ريان، عندما تحكمت الحكومة المغربية في جميع الأخبار الواردة من موقع الحدث حين اقتصرت الكاميرات على القنوات الحكومية، وحين سيطرت على شهود الواقعة من أقارب الطفل وجيرانه، والعاملين المغاربة في الإنقاذ، ولذلك رفضت استقبال أي فرق انقاذ غير محلية قادمة من الخارج عرضت عليها المساعدة.
حاولت وسائل الاعلام الجديدة المتمثلة في صفحات الفيس بوك وتويتر الخروج من التغطية الإعلامية التي توجهها الحكومة وقدمت روايات مناقضة تماما لما يتصدر في وسائل الاعلام، فمثلا عرضت صفحات مغربية رواية أن الطفل قد توفي بعد يومين من السقوط في البئر، وأن الحكومة كانت تعرف ولكن لم تخبر الجماهير بذلك لأسباب معلومة أو مجهولة، كما نشرت تلك الصفحات أن حكومات وجهات خارجية ممن لهم خبرات في التعامل مع تلك النوعية من الحوادث قد عرضوا تقديم المساعدة ولكن الحكومة المغربية رفضت، وهنا تظهر مساوئ الإعلام الجديد في عدم تمحيص المواد المنشورة، وعدم الثقة بالإخبار والمواد المتناقلة حتى ولو كانت حقيقية.
وهناك آلية أخرى تستخدمها الحكومات لصرف الناس عن تتبع أي مصادر مخالفة لتوجهات هذه الحكومات، تتمثل في تشتيت الأذهان والعقول بالمعلومات المتضاربة والغير معقولة لتختلط الأخبار الكاذبة بالصحيحة وتضيع الحقيقة بينهم، وهنا تظهر الفيديوهات والصفحات الزائفة التي تسرد روايات مكذوبة أو تتحدث عن مؤامرة ماسونية أو صهيونية، وبذلك يتوجه الناس الى وجهة جديدة خاصة أن المؤامرة رائجة عند الناس.
ولكن التوجيه أو الخداع الإعلامي ليس وحده الذي يفسر تعلق الناس بقضية ريان.
شوق وحنين:
فالأمة تتطلع بشوق الى دورها المفقود من حيث أنها خير أمة أخرجت للناس، أمة تبحث عن النجاة، تدرك في ضميرها الجمعي أنها سقطت في جب عميق، غارقة في وحل كبير، رأت في ريان وسقوطه نفسها وهي عاجزة عن النهوض منذ قرون، التفت بروحها وعقلها وقلبها قبل عينها حول شاشات القنوات، تلهفت على نجاة الصبي وهي تريد النجاة، وكأنها تستنجد بمن ينقذها، الفرحة كانت عارمة وكأن تلك الأمة انتصرت على مآسيها وهزائمها، ثم ما لبثت أن فاقت من الحلم لتجد أن الصبي قد مات، فبكت عليه وهي لا تعلم لماذا تبكي؟ أتبكي على الصبي بالفعل؟ أم تبكي على نفسها واحباطاتها وهزائمها؟
لقد رأت أمتنا فيه الفرصة والأمل... ولكن إذا كان ريان قد مات فالأمل لن يموت...
لأنه نور الله ونور الله لا يطفئه بشر.
_____________________________________________
التصنيف: حسن الرشيدي
- التصنيف:
- المصدر: