ميت الأحياء
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنمـا الميتُ ميِّتُ الأحـياءِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...أما بعد: فالناس إما أحياء أو أموات, والأموات داخل أسوار المقابر, والأحياء خارج أسوار المقابر, ولكن يوجد أموات خارج أسوار المقابر, وهؤلاء عددهم ليس بالقليل, قال بعض السلف: الموتى خارج أسوار المقبرة أكثر منهم داخل أسوارها.
وهؤلاء يسمون بميّتِ الأحياء, وميِّت الأحياءِ هو الذي لا يعرف معروفاً, ولا ينكر منكراً. يقول الصحابي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أتدرون من ميِّتُ الأحياء الذي قيل فيه:
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنمـا الميتُ ميِّتُ الأحـياءِ
قالوا: ومن هو ؟
قال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
وحتى لا يكون المسلم من هؤلاء الأحياء الأموات, فهنا وصايا, أسأل الله الكريم أن ينفع بها:
الوصية الأولى: ينبغي للمسلم أن يراقب نفسه ويحاسبها, وأن لا يغفل عنها. وأن يجاهدها في أن تبقى شعلة الإيمان في قلبة متوقدة, مهما رأى من تغير وتبدل في أحوال الناس, فالمعروف يبقى معروفاً وإن لم يعمل به إلا القليل, والمنكر يبقى منكراً وإن فعله الكثيرون, قال الله جل جلاله: ﴿ {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } ﴾ [المائدة:100] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الآية الكريمة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يعتبر بالكثرة.
فلا تغتر بكثرة الهالكين, ولا تستوحش من قلة السالكين لطريق الهداية والصراط المستقيم, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الطالب للهداية وسلوك الصراط...لا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له, فإنهم هم الأقلون قدراً, وإن كانوا الأكثرين عدداً, كما قال بعض السلف: " عليك بطريق الحق, ولا تستوحش لقلة السالكين, وإياك وطريق الباطل, ولا تغتر بكثرة الهالكين"
الوصية الثانية: ينبغي للمسلم أن يكثر من الطاعات التي تقربه إلى الله, وأن يحذر من ارتكاب الذنوب التي قد تؤدي به إن لم يتب منها أن يموت قلبه, فيكون من ميّت الأحياء, الذي لا يعرف معروفاً, ولا ينكر منكراً, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وحياة القلب بدوام الذكر, والإنابة إلى الله, وترك الذنوب, والغفلة الجاثمة على القلب والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قُربٍ تُضعف هذه الحياة, ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت وعلامة موته: أنه لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً."
الوصية الثالثة: من ضعفت نفسه وغلبه شيطانه, وارتكب المعاصي, فليحذر أن يكون ممن يفرح بذلك, أو يدعو غيره لها, أو يزينها ويسهلها لهم بأي طريقة أو وسيلة, بل حاله الندم على ذنبه, والبكاء عليه, ومجاهدة نفسه في التوبة منه, وعدم العودة إليه. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الفرحُ بالمعصية دليلُ شدة الرغبة فيها, والجهل بقدر من عصاه, والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها, ففرحه بها غطى عليه ذلك كله, وفرحه بها أشدُّ ضرراً عليه من مواقعتها, والمؤمن لا تتم لذته بمعصيته أبداً, ولا يكمل بها فرحه, بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه, ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به, ومتى خلا قلبه من هذا الحزن واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه, وليبكِ على موت قلبه, فإنه لو كان حياً لأحزنه ارتكابه للذنب, وغاظه, وصعب عليه, ولأحسَّ القلب بذلك, فحيث لم يُحسَّ به فـ" ما لجرح بميت إيلام.
الوصية الرابعة: إذا كان يوجد أحياء أموات, فيوجد كذلك أموات أحياء, وهم العلماء, الذين ماتوا ودفنوا وبقيت علومهم.
قال عبدالله بن محمد ابن السيد البطليوسي التنيسي (ت 521)
أخو العلم حـي خــــــــــــــــــــالد بعـد موته وأوصــــــــــــــــــــــاله تحــــــــــــــت التراب رميــــمُ
وذو الجهل ميتُ وهو ماشٍ على الثرى يُظنُّ من الأحيـــــــــــــــــاءِ وهو عـــــــــــــــــديم
فمن أراد زاداً لسفره إلى الدار الآخرة, فعليه بالحرص على مجالستهم من خلال القراءة في كتبهم والنهل من علومهم, قال العلامة ابن القيم رحمه الله في معرض كلامه عن الهجرة إلى الله ورسوله في كتابه: "الرسالة التبوكية": من أراد هذا السفر، فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء؛ فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده.
وقال فضيلة الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: أوصى الجميع بأن تحرصوا على مجالسة العلماء الأحياء والأموات, أما الأحياء فاستفيدوا منهم لفظاً, وسماعاً, وأما الأموات فاقرؤوا كتبهم.
فبالعلم يحيى الإنسان, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الجاهل ميت القلب والروح وإن كان حيَّ البدن, فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض, قال تعالى: : { أوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام:123]
الوصية الخامسة: ليحذر المسلم من مجالسة ومخالطة ميت الأحياء, فمخالطته سقم, ومعاشرته سُم, ومجالسته هلاك. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وليحذر من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموات؛ فإنهم يقطعون عليه طريقه... قال بعض مَن سلف: شتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم. كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: