من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم

منذ 2022-02-14

نُحاول في هذه المقالات إلقاء الضوء على بعض البراهين والدلائل العقلية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة والرسالة.

نُحاول في هذه المقالات إلقاء الضوء على بعض البراهين والدلائل العقلية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة والرسالة.

 

ذلك أننا نزعم أن الإنسان الذي يعيش في عصرنا الحاضر ولم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم - لهو قادرٌ على أن يتحقق من صدق نبوته، وإنْ لم يكن قد عاين الخوارق التي رآها المعاصرون له، التي كانت برهانًا على صدق دعواه النبوة والرسالة.

 

وأول ما نبدأ به من تلكم البراهين والدلائل هو تقليب النظر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه وأحواله قبل دعوى النبوة وبعدها، وسنرى إلامَ سيقودنا التفحص والتأمل في هذا الجانب، محاولين قدر الجهد أن نلتزم التفكير العقلاني ونبتعد عن العواطف والمصادرات والإطلاقات، فإننا وإنْ كنا من المسلمين المؤمنين بهذا النبي الكريم - صلوات الله عليه - والمذعنين لدينه والمستسلمين لشريعته ومنهاجه، إلا أننا على ثقة كبيرة بأن نبوته - شأنها شأن الركائز الإيمانية في الإسلام - يمكن البرهنة العقلية عليها، وليس فيها ما يتعارض مع العقل الصحيح المتجرد من الهوى والغيِّ، ولعل في سرد تلكم الدلائل العقلية ما يزداد به المؤمن إيمانًا، وما يستقين ويطمئن به المتشكك المتحير.

 

وإنما اخترنا جانب الأخلاق والسيرة الذاتية؛ ليكون معيارًا يُعتبر به في الحكم على صدق ادعاء النبوة من عدمه؛ للتعلق والتلازم بين الأمرين، فإن النبوة ليست اختراعًا علميًّا تقنيًّا أو موهبةً فنيةً أو أدبيةً أو مُنجزًا اقتصاديًّا، أو نحو ذلك من الأمور المقطوعة الصلة بأخلاق الإنسان وتكوينه القيمي، فإننا نجد الموهبة الأدبية والفنية في أشخاص عارين عن الفضيلة والخُلق كما نجدها عند أصحاب الفضيلة والخلق، ونجد الذكاء المعرفي والعلمي عند الأخيار الأبرار كما نجده عند الأشرار الفجار.

 

وأما في حالة البنوة، فالأمر مختلف تمامًا، فالنبوة دعوى من صاحبها إما أنه صادق فيها وإما أنه كاذبٌ، ولا ثالث لهما.

 

وإذا كان كاذبًا فالكذب متنافٍ مع الفضيلة والخُلق عند عامة البشر، فادعاء النبوة كذبًا مثله مثل القبائح الأخلاقية، لا يتأتى إلا من شخصٍ لا حظ له في الأخلاق والفضيلة، ولا سيما فضيلة الصدق والأمانة، بل هو - أي ادعاء النبوة كذبًا - أقبح من سائر القبائح الأخلاقية، لما فيه من الخداع العام للبشر، ولجمعه بين الكذب على البشر والكذب على الله، ولاستعماله الكذب والخداع فيما ينبغي أن يكون داعية للأخلاق الحميدة والفضائل والمحاسن، ألا وهو النبوة.

 

وبالجملة فهذا معيارٌ ناهضٌ للحكم على مدعي النبوة بالصدق أو الكذب في دعواه؛ لما فيه من إنباءٍ عن حاله وما يتوقع منه؛ إذْ الناس يجرون مع ما اطرد وترسَّخ من أخلاقهم وطبائعهم، ولا يخالفون ذلك إلا على جهة الندرة، وآية ذلك أنك تجد من نفسك القدرة على تصديق أو تكذيب ما يُنسب من فعلٍ ما لشخصٍ ما إذا كنتَ على دراية حقيقية بأخلاق هذا الشخص وطبيعة تصرفاته، فمثلًا لو حدثك الناس عن شيء ينسبونه لصديقٍ تَخْبُره أو لشخصٍ عاملتَه وداخلتَه، فإنك لا تلبث أن تسارع إلى قبول ما ينسبه الناس إلى ذلك الشخص أو إلى ردِّه ورفضه، ويكون معوِّلك في القبول أو الردِّ، هو ما تَخْبُره من أخلاقه وما تعرفه من حاله، وهل تنسجم الصفة أو الفعل الذي نسبوه إليه مع المستقر المعروف المتحقق من أخلاقه وأفعاله أم يتعارض معها؟ فإذا كنتَ قد خَبَرْته بالمعاشرة والمعاملة الطويلة وعلمتَ أنه جبانٌ خوَّارٌ، فستستيقن ساعتها كذبَ نسبةِ الشجاعة والإقدام إليه، وأنَّ واسمه بالشجاعة والإقدام إما منتفعٌ من صاحبك أو جاهلٌ بحاله، وإنْ كنتَ قد خَبْرته عفيفًا زاهدًا متحريًا للحلال في مطعمه ومشربه، علمت أن الشائعة التي انتشرت بأنه حاول سرقة حافظة نقود أحد الأشخاص محض كذبٍ وافتراءٍ، وهكذا.

 

ذلك أنَّا نعلم أنَّ مَن اصطبغ بخلقٍ ما من الأخلاق مذمومًا كان أو محمودًا، فإنه لا يصدر منه خلافه إلا على جهة الهفوة والفلتة، فقد يجبن الشجاع المِقدام في مرةٍ، وقد يقع الكذب من الصدوق هفوةً، وقد يجود الشحيح على سبيل المنفعة، لكن يبقى الخُلق الراسخ المعلوم من حال المرء هو المسيطر عليه، ولا يتحول الإنسان إلى ضده تحولًا كليًّا، إلا إذا حدث له من الهزات النفسية الإيجابية أو السلبية ما يوجب هذا التغيير الكامل في الشخصية وأخلاقها، فنرى المجرم قد صار إنسانًا صالحًا ونرى إنسانًا عاديًّا قد تحول لمجرمٍ.

 

والشاهد الذي أردناه من سَوْق ما قد سلفَ أنَّ أخلاق الشخص وسيرته تصلح أن تكون شاهدةً معه أو ضده إذا عنَّ من أمرِه ما يُحتاج فيه إلى الاستشهاد بأخلاقه وسيرته كدليلٍ معه أو عليه.

 

وفي حالتنا هذه - أعني قضية دعوى النبوة والرسالة - علينا أن ننظر في حال صاحبها وما كان عليه من أخلاقٍ حميدةً كانت أو ذميمةً، وهل ما كان عليه من أخلاقٍ يرجِّح صدقه أم يرجِّح كذبه في دعواه؟ وبأي أخلاقٍ كان صاحب هذه الدعوى يُعرف بين قومه الذين كانوا يعاشرونه ويتعاملون معه قبل دعواه تلك؟

 

وهل دعواه النبوة مرحلةٌ في سجل أخلاقه الذميمة الجارية على الكذب والخديعة والمراوغة؟ أم مرحلةٌ في سجل أخلاقه الحميدة الجارية على الصدق والأمانة والفضيلة؟

 

وإذا نظرنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وجدنا أنه كان يعمل مع عمه أبي طالب في التجارة، وأنه قد اشتَهر عنه الصدق والأمانة، ومن آيات هذه الشهرة - أن خديجة رضي الله عنه وهي امرأة عاقلة متمرسة بحال الناس، كان قد مات عنها زوجها، ولها مالٌ وتجارةٌ، قد اختارته ليقوم على أمر تجارتها، وحملها ما ظهر لها من أخلاقه وأمانته أن تعرض عليه الزواج منها، مع أنَّ حالها ومكانتها الاجتماعية والمالية تؤهلها لأنْ تكون مرغوبة للزواج من سادات قريش وأهل الوجاهة فيها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت شابًّا في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن له من المال والرياسة في قريش ما يجعله مقدمًا في التزويج على سادات قريش وأعيانها، إلا أن تكون هذه المرأة الناضجة العاقلة قد لمست في أخلاق هذا الشاب ما دعاها إلى الإعجاب به واختياره زوجًا وقرينًا، وإنْ لم يكن من أهل الغنى والزعامة والسيادة في قومه.

 

وتنقل لنا كتب السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معروفًا بين قومه بالصدق والأمانة ومشتهرًا بينهم بذلك؛ حتى إنهم كانوا يلقبونه بـ" الصادق الأمين"، ودليل صحة هذه الشهرة وثبوتها وأنها ليست من مجاملات المؤرخين المسلمين - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أُمِر أن يصارح قومه بنبوته ويجهر فيهم برسالته ودعوته لأول مرةٍ، طرح عليهم سؤالًا يستخرج منه حاله عندهم من جهة الصدق والموثوقية والنزاهة ومجانبة الكذب والافتراء والادعاء، فقال لهم: "... أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟"، قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".


ولا ريب أن هذا صنيع العقلاء، فإن استخراج شهادتهم له بالصدق واستمراره عليه، حتى إنه لو أخبرهم بأمرٍ مدلهمٍ كهجوم الأعداء لما تشككوا في صدقه؛ لديمومته على الصدق ومجانبته للكذب طوال حياته بينهم وتعامله معهم، فجديرٌ به أن يكون صادقًا أيضًا في دعواه النبوة وانتحاله الرسالة.

 

ومما يدلنا كذلك على صحة هذه الشهرة بالصدق والأمانة أنه بعد ادعاء محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، كانت تهمته عند القرشيين أنه مجنونٌ وأنه شاعرٌ، وأنه كاذبٌ في ادعاء النبوة، لكن أحدًا منهم لم يوجه له اتهامًا أخلاقيًّا بالكذب فيما سبق في الأمور الحياتية، ولم يُعيِّره بقباحة خديعة من الخدائع ولا احتيالٍ من الاحتيالات الماضية ارتكبها معه أو مع غيره من الناس، ولم يُذِّكره أحدهم بموقف من المواقف الذي كذب فيها ولا بمرةٍ من المرات التي استعمل فيها المراوغة والاحتيال.

 

كما أننا يمكننا الوقوف على الطبيعة الأخلاقية لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم بشاهد آخر، وذلك مما ذكرته له خديجة رضي الله عنها عندما حاولت التهدئة من روعه والتخفيف من توتره بعد ما أصابه من النزع بعد لقائه الأول بجبريل في غار حراء، وأنه قد خشي على نفسه، فذكرت له أنه جدير بإكرام الله تعالى له لما عنده من الصفات الحميدة ومكارم الأخلاق التي يحبها الله تعالى ويحب المتحققين بها، فقالت: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".

 

إن هذه الكلمات ليست مجرد مجاملة زوجة لزوجها، بل هي واقعٌ ثابتٌ، قد دلَّنا على ثبوته استمرارُ النبي صلى الله عليه وسلم عليه بعد البعثة وحتى وفاته، وأن تلكم الصفات هي أخلاقٌ راسخةٌ لديه متمكنةٌ فيه.

 

إن كل القرائن تفيد أن السجل الأخلاقي للنبي صلى الله عليه وسلم قبل دعواه النبوة كان ناصع البياض جدًّا؛ إذْ لم تقدر الدعاية القرشية وآلتها الإعلامية الجبارة حينذاك، والتي نجحت في بث الدعاية المكثفة في العرب قبل موسم الحج بأن فتى مكة الذي يزعم أنه نبيٌّ هو شخصٌ ساحرٌ يملك بيانًا خلابًا وقدرة مذهلة على خداع السامعين، بحيث إنه يملك التأثير في السامعين بإفساد الابن على أبيه والزوجة على زوجها ...إلخ.

 

أقول: إن الآلة الإعلامية القرشية التي نجحت في نقل صورة منفرة عن محمد صلى الله عليه وسلم بين العرب، جعلت الناس يخافون من الحديث معه والاستماع منه؛ خشية أن يصيبهم هذا السحر الذي جاء به محمد... هذه الآلة الإعلامية لم تجد في السجل الأخلاقي من ماضي محمد - صلى الله عليه وسلم - ما تتمكن به من تشويهه والتنفير عنه، ولم تحد من الهنات الأخلاقية ما تستطيع الاستثمار فيه واستغلاله في الدعاية، فاتجهت إلى تشويه ما يدعو إليه وبيان عاقبته وأثره السيئ في زعمهم.

 

وهذا في حد ذاته كافٍ لوقوفنا على المنزلة الأخلاقية التي كان يتمتع بها محمد صلى الله عليه وسلم قبل ادعاء النبوة، فإن التشهير بهفوات الخصوم ومحاولة تضخيمها - مسلك لم يزل متبعًا في الخصومات الشخصية والعامة في كل العصور وإلى يومنا هذا.

 

وإذْ قد عرفتَ ذلك ووقفتَ على المنزلة الأخلاقية لشخصية محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - والتي عجز الخصوم عن إيجاد أيِّ زلةٍ مرتكَبة في حياته قبل ادعاء النبوة، بُغيةَ أن يقوموا باستثمارها في خصومتهم معه - فاعلمْ أن هذه المنزلة الأخلاقية ليست تدُلنا على النزاهة الأخلاقية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل تقودنا إلى دليلٍ جوهريٍّ على صدقه في دعواه.

 

ذلك أنَّنا نجد التكوين الأخلاقي والفكري لكل واحدٍ منا حائلٌ دونَه ودونَ الوقوع فيما يُعاكس تكوينه ويضاده، فلكل شخصيةٍ حاجزٌ أخلاقيٌّ يحول بينها وبين ومُقارفة ما ينافي وينافر قواعدها القِيمية الداخلية، والناس في ذلك متفاوتون تفاوتًا عظيمًا بقدر قوة إيمانهم بقِيَهم ومبادئهم الأخلاقية، وبقدر تفاضل قوة شخصياتهم في التغلب على إغواء ما يعارض ويناقض ما يؤمنون به ويعتقدون أنه الحق والأفضل.

 

فالشخص المتصف بخلق الرحمة الذي تمكَّن منه هذا الخلق حتى صار راسخًا فيه، لن تجده يومًا يمارس تعذيب إنسانٍ بريءٍ أو حيوانٍ مُستلِذًّا بذلك فرحًا به، فضلًا أن يكون مفاخرًا بذلك مُبتهجًا؛ لأن ممارسة التعذيب والاستلذاذ به مناهضٌ لخلق الرحمة الذي في طبعه، وكذلك الشخص المتطبع بخُلق الأنَفة والعزة لن تجده يمارس خُلق الخضوع والخنوع للناس، فضلًا عن المُعالنة بذلك والمفاخرة به، والشخص الذي خُلقه الصدق والمصارحة لن تجده يمارس الكذب فرحًا به مجاهرًا مُنتشيًا؛ لأن ذلك مضاد لخُلق الصدق الراسخ لديه...
وبالجملة، فلكلٍّ منا قِيَمه ومُثُله الذاتية التي تمنعه من ممارسة ما يضاد تلك القيم ويعارضها، ولا تسمح نفس الواحد له أن يمارس خلاف ما يرتضيه ضميره الداخلي ووازعه الأخلاقي؛ لئلا يفقد الإنسان احترامه لنفسه واحترام الآخرين له.

 

وإذا رجعنا إلى شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - وتكوينها الأخلاقي قبل ادعاء النبوة، فسنعلم يقينًا أن أخلاقيات هذه الشخصية لن تسمح لها مطلقًا بارتكاب جريمة الكذب في شأن النبوة، ولن تطاوعها على ذلك، سواء كان ذلك احترامًا للذات أو للسمعة بين الناس، ولن تسمح منظومةٌ أخلاقية كالتي كان يتمتع بها محمد - صلى الله عليه وسلم - له بأن يمارس الكذب ويختلق دعوى إرسال الله له، ولن يُفلت من تأنيب الضمير الداخلي لديه على هذه الجريمة المنافية لمنظومة أخلاقه، كما لن تسمح له شخصيته بأن تكون نظرة الناس إليه نظرتهم إلى الشخص الكاذب المنتحل الجدير بكل تحقيرٍ وازدراءٍ وإهانةٍ.

 

وأنا وأنت أيها القارئ على تواضع المنزلة الأخلاقية عندنا، إلا أن لنا سقفًا لا نرضى لأنفسنا أنْ تنزل عنه، سواء في صورتنا أمام أنفسنا، أو في صورتنا أمام الناس، فلا أجرؤ أنا ولا تجرؤ أنت - ما دمنا نملك الحد الأدنى من احترام الذات وتقديرها - على أن نُقدِم على اختلاق ادعاءٍ ما؛ تكون نتيجته تأنيب الضمير الداخلي لنا على الكذب، وتشهير المجتمع من حولنا بسُمعتنا وسيرتنا.

 

فإذا كان آحاد الناس مثلي ومثلك بهذه المنزلة من احترام أنفسهم، والاستنكاف عن الكذب وعدم استجازة الإفك والبهتان الذي لن يُقرَّه الضمير الداخلي لنا، ولن يصمد أمام التشهير المجتمعي بسُمعتنا، فكيف بشخصيةٍ أخلاقيةٍ كشخصية محمد صلى الله عليه وسلم؟!

 

هل من السهل على شخصيةٍ فذَّةٍ كهذه، لا تتمتع بأخلاقٍ عليا فحسب، بل بتفردٍ أخلاقيٍّ في مجتمعها - أن تُقدم على أمرٍ منافرٍ للأخلاق ومباينٍ لها وهو افتراء ادعاء الرسالة والنبوة؟!

 

ثم هبْ أن الضمير الأخلاقي عند تلك الشخصية الأخلاقية الصارمة قد تعطل، فهل تعطل عندها العقل والفِطنة حتى تُقدمِ على تشويه سمعتها الناصعة البياض بين قومها والعرب في عشيةٍ أو ضحاها؟!

 

لقد كانت العرب تستقبح الكذب وتتحاشى كل المحاشاة أن توصم به، وتعد الكذب من النقائص والقبائح التي تقضي على سُمعة صاحبها ومكانته وشرفه إن كان له مكانةٌ وشرفٌ، فهذا أبو سفيان - رضي الله عنه - قبل إسلامه عندما كان في حديثه مع قيصر بشأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حضور مجموعةٍ من قريش، وكان أبو سفيان وقتها أحوج ما يكون إلى استنقاص منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند قيصر، إلا أنه قد منعه من اختلاق الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواباته لأسئلة قيصر عنه - أن تخبر المجموعة القريشة الحاضرة في ذلك المجلس أن أبا سفيان وهو الزعيم القرشي قد اقترف رذيلة الكذب.

 

إن أبا سفيان لم يشأْ أن يضحي بسُمعته بين العرب، وأن تلحق به وصمة الكذب، حتى وإن كان ذلك في سبيل تشويه صورة خصمه اللدود عند ملك الروم، وما ذاك إلا لأصالة استهجان العرب للكذب وشُنعة التهمة عندهم.

 

أفيُعقل بعد هذا كله أن تُقدم شخصيةٌ متمتعةٌ بالكمال الأخلاقي والعقلي كشخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - على الاستعلان بفريةٍ يُضرب لها الطبل دون أن اعتبار منها لسمعتها ومنزلتها ومكانتها في قومها والعرب جميعًا؟!

 

هل من السهل على رجلٍ عاقلٍ متزنٍ أن يُقامر بسُمعته وشرفه ومكانته لأجل كذبةٍ وفريةٍ يختلقها وهو لا يدري هل سيصدق الناس فريته وينخدعون بها أم يكذبونها ويردونها عليه؟! فكيف إذا كانت القرائن والمعطيات تقول: إن هذه الفرية ستقابل حتمًا بالإنكار وعدم القبول؟!

 

أين كان ضميره؟! وأين كان عقله حين أقدم على ما أقدم عليه من ادعاء النبوة إنْ لم يكن صادقًا في ذلك بالفعل، ومحقًّا فيما ادعاه في نفس الأمر؟!

 

بل ثمت أمرٌ أخلاقيٌّ آخر في هذه القضية، وهو أن العقل والعادة قاضيان بأن أخلاق المرء إذا كانت تنهاه على ترك استعمال الكذب استقباحًا واستهجانًا، فهاته الأخلاق قاضيةٌ كذلك بمنعه من الكذب على الله الخالق من باب أولى، فمنطقي أن مَن يخجل من الكذب على الناس في الأمور الدنيوية التافهة، للؤم خُلق الكذب ومهانة فاعله - أن يكون خجله من الكذب على الله تعالى أشد وأكبر، وأن يكون منه أبعدَ وعنه أنْأى.

 

ولهذا لم يكن غريبًا من أمر قيصر في سؤالاته لأبي سفيان حول أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه الشام، قد جاء في مقدمتها: هل جربتم عليه كذبًا قبل أن يقول ما قال؟"؛ أي: هل كان الكذب في الأمور الحياتية من شأنه قبل دعواه النبوة؟ ولما أجابه أبو سفيان رضي الله عنه بأنهم ما جربوا عليه الكذب - توصل قيصر إلى نتيجة منطقية جدًّا، وهي استبعاد أن يكون خُلْق الإنسان هو الصدق مع الناس وترك الكذب عليهم، ثم يكون أول افتتاحه لأمر الكذب بكذبةٍ كبرى على الله نفسه!

 

إذًا السيرة الشخصية والتكوين الأخلاقي لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم - لا يسمح له بارتكاب جريمة افتراء النبوة وادعائها بالباطل، ومجابهة الناس بالكذب الصريح والامتحال القَراح، ولا تطاوعه نفسه ولا تساعده أخلاقه على ارتكاب جريمة الكذب على الله وادعاء النبوة افتراءً، فكيف وكذبة كهذه ستكون توابعها شديدة الكلفة جدًّا، ولا بد فيها من تضحيات باهظة، فكيف يجرؤ شخصٌ متزنٌ عقلًا، صادقٌ لهجةً، أمينٌ نفسًا على المقامرة بسُمعته ومخالفة شمائل أخلاقه وطبائع شخصيته بالإقدام على كذبٍ أصلع ليس تعلقه مع قومه وعشيرته فحسب، ولا حتى عموم الناس فقط، بل كذبٌ له تعلق بالله تعالى، وإنَّ قريشًا والعرب لم يكونوا ملاحدةً ينكرون وجود الله وهيمنته وبطشه بمن استحقَّ عقابه، بل كانوا يعرفون الله ويعبدونه ويحجون بيته ويعظمون كعبته، ويتحاشون المال الحرام في تعميرها، وإنْ وقعوا في الشرك وتلوثوا به، وأضعف الإيمان وأقل الأحوال أن يكون عند محمد - صلى الله عليه وسلم - من تعظيم الله والخوف منه ما عند قومه من ذلك، فكيف تسوِّغ له نفسه افتتاح الكذب بكذبة كبرى على الله تعالى؟!

 

ثم لا بد من القول: إنه يتعيَّن النظر كذلك في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه بعد دعواه النبوة فيما يتعلق بأمر الكذب، فإننا قد ذكرنا في مطلع هذه الكلمة أن الإنسان يمضي على خُلقه الثابت له ولا يتحول عنه إلا على سبيل الهفوة والندرة، لكن قد أشرنا أيضًا إلى إنه قد يطرأ على النفس البشرية من التحولات الفكرية أو الهزات النفسيَّة ما يُحدِث لها التغير والتبدل الكامل أو الكثير في أخلاقها، وضربنا له مثلًا بالمجرم العتيد في الإجرام الذي يتوب ويتحول إلى شخص طيبٍ مسالمٍ، وكالشخص الملتزم أخلاقيًا ودينيًا الذي ينحرف ويكاد أن يصير شيطانًا رجيمًا.

 

وعلى هذا، فإذا قال قائل: لعل الاستقامة الأخلاقية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومجانبته العظيمة للكذب والخداع، كانت مرحلةً من مراحل حياته وهي قبل النبوة، لكن لما ادعى النبوة كان هذا بمثابة مرحلةٍ جديدةٍ في حياته، فلا يلزم أن تكون الاستقامة الأخلاقية السابقة دليلًا على صدق ادعاء النبوة لاحتمال وجود تحوُّل طارئٍ في الشخصية كان ادعاء النبوة نتيجةً له أو سببًا فيه.

 

وافتراض هذا القائل قد يكون له حظ من الاحتمالية من جهة الافتراض، لكن الواقع ينسف هذا الافتراض من أصله ولا يبقي له أي نصيب من الاحتمالية، ذلك أنَّا إذا نظرنا في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة والرسالة من جهة الأخلاق لا سيما خلق الصدق - وجدناه سائرًا على السيرة التي كان معروفًا بها قبل النبوة، ومُنتهِجًا ذات السبيل الذي كان يسلكها، بل إنه يترقى في ذلك الخُلق وليس ينقلب عليه ولا يتنكر له، وله في ذلك الأقوال الكثيرة التي تذم الكذب وتحمد الصدق، فيخبر أن الكذب من علامات النفاق، وسيما المنافقين، كما الصدق من سيما من المؤمنين، وأن الكذب يقود أصحابه إلى النار كما أن الصدق يقود أصحابه إلى الجنة، بل إننا نجد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يبالغ في المباعدة عن الكذب مبالغةً عظيمةً على المستوى الشخصي، فنجده يحترز من الكذب حتى في المزاح الدعابة ويخبر أصحابه أنه مهما مازحهم وداعبهم - فلن يقول في مزاحه ودعابته إلا صدقًا وحقًّا، بل إن ليستعمل المعاريض البعيدة التي توهم السامع خلاف مراد المتكلم؛ تلافيًا للكذب الصريح إذا وُضِع في موقفٍ يترتب على الصدق فيه ضررٌ يلحق بالمسلمين، وذلك كما في قوله: "نحن من ماء" تعمية على الرجل الذي سأله ...

 

بل أظهر من الوفاء بالعهد مع الأعداء وفي أحلك الظروف - ما لا يكون إلا ممن تمكنت منهم فضائل الأخلاق واستحوذت عليهم كلَّ الاستحواذ، فإن الصحابي حذيفة بن اليمان ووالده -رضي الله عنه - قد خرجا يريدان شهود معركة بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فصادف التقاؤهما بالجيش القرشي، ولما أراد القرشيون أسرهما حلف حذيفة وأبوه أنهما يقصدان المدينة وليس اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فتركهم القرشيون بعد أخذ العهود والمواثيق عليهما بعدم القتال مع المسلمين، ولما حضر الرجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبراه بتلك العهود المواثيق، طلب منهما الرجوع وعدم القتال معه، وقال كلمته المشهورة: "نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم"، وفي فتح مكة لما تأخر في إجابة طلب الأمان لرجلٍ مهدور الدم بُغية أن يقتله أحدهم قبل ذلك، ولما لم يفعلوا وأعطاه الأمان وحقن دمه، أخبرهم أن تأخره كان رجاء أن يقتلوه قبل منحه الأمان، فسألوه لِمَ لَمْ يغمز لهم بعينه، ليفهموا أنه يريد قتله ولا يريد الموافقة على إعطائه الأمان؟ قال لهم:  «ما كان لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين»، وكان في مطلع وصاياه لأمراء الجيوش التي كان يرسلها في الغزو "لا تغدِروا".

 

والشاهد أننا نُلفي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على سيرته الأولى وطريقته المعهودة في ديمومة الأخلاق الحميدة وعلى رأسها الصدق والأمانة والوفاء بالعهد، وكل هذا يعني تأكيد الحقيقة الساطعة من أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قبل دعواه النبوة على حالٍ تسمح له أخلاقه وقيمه ومبادئه باختلاق دعوى النبوة من تلقاء نفسه، والوقوع في دنس خطيئة الكذب المنافرة كل المنافرة لمعهود أخلاقه ومُستقِر شمائله، وكذلك لم يحدث له تحولٌ أخلاقيٌّ يغير ذلكم الثابت المستقر من خُلقه وشمائله بحيث يقول القائل: قد كان صادقًا خلوقًا ثم ادعى النبوة وانتكست أخلاقه وترك الصدق، بل لم يزل صلى الله عليه وسلم ملازمًا للصدق والوضوح مجانبًا للكذب والخديعة حياته كلها ودهره أجمع، وليس هذا من شأن المتقوِّلين الكاذبين ولا هو من طريقة المخادعين الماكرين؛ فثبت أن ما ادعاه من النبوة وما زعمه من إرسال الله له - هو جارٍ على معهود حاله من الصدق والأمانة والشفافية والوضوح، فهو صادقٌ فيه كل الصدق أمينٌ فيه كل الأمانة.

 

يُتبع...

  • 1
  • 0
  • 3,618

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً