مقولات ابن خلدون ذات قدرات تفسيرية محدودة ومضللة

منذ 2022-03-10

عقد ابن خلدون فصلًا بعنوان: " الفصل الحادي والعشرون: في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع". ادعى أن السبب الرئيس وراء توسع ملك العرب (الفتوحات الإسلامية) هو كون العرب أهل توحش

قدّم ابن خلدون عددًا من المقولات التفسيرية في مقدمته للتاريخ، من أهمها: القول بأن للواقع قوانين حتمية يجب أن نتحاكم إليها. والقول بأن الدول تهرم وتشيخ ثم تندثر في ثلاثة أجيال أو أربعة. وادعاء أن الأمة كلما كانت وحشية كان ملكها أوسع. وادعاء أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين. وادعاء أن المغلوب مولع بتقليد الغالب. وأحاول في هذا المقال مناقشة هذه المقولات وبينان أنها ذات قدرات تفسيرية محدودة جدًا وفي ذات الوقت ضللت الذين آمنوا بابن خلدون. والله أسأل توفيقًا، وبركةً، إنه كريم منان.

هل للواقع قوانين حتمية؟
للواقع قوانين حتمية في المستوى القريب، وليس له قوانين حتمية على المستوى البعيد. بمعنى أن حتميات الواقع كلها مؤقتة. وكل واقع يتغير على المستوى البعيد. بمعنى أن واقع الناس دائمًا في حالة تغير مستمر، ولذا نجد المعنيين بالفكر والتنظير يتحلقون حول سؤال التغيير: كيف يكون؟ بغرس قيم ومثاليات جديدة؟ أم بتحريك الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين (ما يقال له ثورة)؟، أم بتحريك النخبة المسلحة (الانقلابات والحروب)؟

وعند المفكر الفرنسي المشهور ميشيل فوكو مثالان يدللان على أن الواقع في حالة تغيير مستمر، المثال الأول: الجنسانية، حيث يبين في كتبه الأربعة التي تناول فيها موضوع الجنسانية أن المجتمعات تحولت من تحريم التحدث عن الجنس في العلن إلى ممارسته في العلن، بمعنى أن المجتمعات تتحول حين تعالجها النخبة، سواءً النخبة السياسية والاقتصادية التي أقامت الحياة على المنفعة المادية، أو النخبة الأدبية التي أكثرت من الحديث عن الجنس حتى جعلته أمرًا شائعًا، أم النخبة الأكاديمية التي بررت الشبق الجنسي بمقولات "علمية"، أم العامة الذين حولوا أفكار الساسة والأدباء والمفكرين إلى واقع فهجروا الزواج ولجّوا في وحل الرذيلة.
والمثال الثاني من عند فوكو هو حديثه الدائم عن السلطة، وكيف أنها تسعى دائمًا إلى السيطرة [التأثير] على المجتمع، سواءً عن طريق العقاب المباشر (بالتعذيب والسجن)، أم بمنظومة العقاب الخفي التي تمارسها من خلال التحكم في مجريات الحياة في الشارع أو المؤسسات، أم عن طريق المعرفة والخطاب، وخاصة الخطاب الديني. ما يعني أننا أمام إرادة واعية من النخبة المسيطرة (التي تمتلك السلطة والنفوذ) تتجه- هذه الإرادة- نحو هندسة المجتمع.. السيطرة على المجتمع وتوجيهه وهذا يعني أن المجتمعات تتحرك في الاتجاه الذي تريده النخبة، لا أن المجتمع له قوانين حتمية يفرضها على الجميع كما يدعي ابن خلدون.
والنظرية البنائية constructivism تثبت عدم صحة مقولة ابن خلدون هذه بإطلاق، وأن مقولته هذه لا تصلح إلا لتفسير-أو تبرير- حال المستضعفين اجتماعيًا فقط. تضللهم. وتركعهم لمن يسيطرون على الواقع. وذلك أن النظرية البنائية تتمحور حول القول بأن الواقع في حالة بناء مستمر، تتمحور حول أننا نعيش في "عالم من صنعنا" كما صرّح أستاذ البنائية نكولاس أونف Nicholas Onuf.
ولك أن تأخذ نقطتين على ظهر الأيام، وليكن بينهما ثلاثين عامًا فقط، وانظر كيف حال المجتمع قبل ثلاثين عامًا وحاله الآن. لابد أنك سترى أن حتميات الأمس لم تعد حتميات مطلقًا.

الدول التي تهرم وتشيخ ثم تندثر في ثلاثة أجيال أو أربعة:
آمن ابن خلدون بحتمية الواقع، وأن كل شيء ينطلق من الواقع، بما في ذلك القيم والمعايير التي نفهم بها ونتحاكم إليها، فنظر حواليه فوجد أن دولة المرابطين والموحدين، والأمويين، والعباسيين الأولى، والعباسيين الثانية عاشت ثلاثة أجيال أو أربعة فظن أن هذا هو حال كل الدول!!
هناك فرق جوهري بين السياقات الكبرى والدول الفرعية داخل هذا السياق. السياقات الكبرى، مثل: الدولة الفارسية والرومانية والإسلام، تعيش مدة أطول، وبداخل هذه السياقات تتواجد دول صغيرة، هذه هي التي تعيش أجيالًا محدودة وترحل. والخط الناظم للدول الصغيرة هو أن المنظومة الكبرى (السياقات الكبرى) تجدد نفسها، دولة بعد دولة، وذلك من خلال صراع النخب في المجتمع. نخبة جديدة تظهر من داخل السياق نفسه تنتقد أوضاع الضعف وتأخذ بأسباب التجديد فيحدث التغيير داخل السياق. فحين رحل المرابطون جاء الموحدون.. من حواليهم لا من بعيد. وجددوا السياق الذي يعيشون فيه بعد أن ظهرت عليه علامات الترهل والضعف. وحين رحل الراشدون وقلَّ الصحابة وكثر الأعاجم وحديث العهد بالإسلام تكونت سلطة تتناسب معهم (الأمويون)، وحين ترهلت الدولة الأموية شبت واشتدت الدولة العباسية، وهكذا يُجدِد السياق ذاته. وهو ما يحدث اليوم داخل الدولة القومية: فبعد مئات السنين من الحروب الداخلية بين شعوب أوروبا ساد البرتغاليون والهولنديون، ثم رحلوا وجاء الفرنسيون رفقة الإنجليز، ثم رحلوا وجاء الأمريكان والسوفييت، ثم رحل السوفييت وظهرت القطبية الأحادية المتعددة بقيادة الولايات المتحدة والتي تحاول نظم العالم في سياق واحد خلفها. تحاول تشييد تراتبية هرمية تعلوها الولايات المتحدة ويليها الأقرب فالأقرب حسب الجنس والثقافة والتعاون العسكري. فالمنظومة الغربية المعاصرة (القطبية الأحادية متعددة الأطراف بقيادة الولايات المتحدة) تقضم كل يومٍ قضمة وتهضمها ثم تقضم أخرى وتهضمها. فحال الحرب الثانية وبعدها استتبعوا أوروبا الغربية، ثم عامة أوروبا الشرقية ووسط آسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الاشتراكية، والآن تمضغ العالم العربي مضغًا استعدادًا لهضمه لا قدر الله، وقد قضمت أقصى الشرق والجنوب الشرقي (اليابان، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، والهند) وتغلغلت ثقافيًا وتجاريًا داخل الصين وروسيا فلم تعد أيًا منهما على دين الآباء المؤسسين (بوذا، لينين وماو).
والثورات الشعبية في سياقهم هم، الثورات الشعبية من أدواتهم في التغيير. ولك أن تلاحظ أن بعد كل ثورة مرحلة جديدة من التبعية للغرب، فبعد موجة الاضطرابات التي انتهت 1805 جاءتنا الدولة القومية الحديثة على يد محمد علي وأبنائه وأحفاده، وبعد موجة الثورات التي انتهت بنفي أحمد عرابي 1882جاء الاحتلال الإنجليزي، وبعد انتهاء ثورة 1919 بدأ العهد الليبرالي، وبعد ثورة 1952 بدأ حكم العسكر، ثم بعد انتهاء اضطرابات 2011-2013 جاءنا ما نحن فيه من "إصلاح سياسي واقتصادي".. كل ثورة تدشن مرحلة جديدة من مراحل تمكن الدولة الحديثة.. السياق يجدد نفسه.
وإن مقولة ابن خلدون تضللهم. تجعل المؤمنين بأن التغيير يحدث بعد أربعة أجيال يظنون أن الثورات أداة تغيير وليست أداة تمكين للسياق الأكبر، ويظنون أن رحيل السلطة هو رحيل لنموذج الحكم والسياق الذي جاء به، ومن ثم تكون أهدافهم قصيرة المدى، ومن ثم يقعون في فخ التوظيف، ويبتعدون عن تشييد رؤية بعيدة المدى، ويركبون العجلة (الاستعجال) وهي أم الآفات في واقعنا المعاصر. وقد تعاونوا مع النظام الملكي (أو تهاودوا معه) ضد الوفديين ظنًا أن النصر يأتي بعد قليل من الحراك الجماهيري، وتحالفوا مع العسكر ضد النظام الملكي ظنًا أنهم يستطيعون الاستيلاء على السلطة رفقة شباب العسكر، ومع الحكومات الخليجية في السبعينات ضد النظم الثورية (الدول التقدمية)، ومع الغربيين ضد السوفييت على أرض أفغانستان.. إلخ وفي كل مرة يتبين أن السياق يستخدمهم لتحقيق أغراض شخصية.. للتغلب على بعض تحدياته ثم يطحنهم طحنًا.

لم يكن النبيr وصحابته y متوحشون:
عقد ابن خلدون فصلًا بعنوان: " الفصل الحادي والعشرون: في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع". ادعى أن السبب الرئيس وراء توسع ملك العرب (الفتوحات الإسلامية) هو كون العرب أهل توحش، يقول: أصعب الأمم انقيادًا، وأهل غلظة وأنفة، ومنافسة في الرئاسة، وأنهم أهل بداوة أكثر من غيرهم. والمحبون لنصوص ابن خلدون يفسرون الوحشية بالعصبة (القوة)، والمعنى الذي يقفز لذهن عامة من يقرأ أن المراد بالوحشية القوة المفرطة وخاصة أنه وصفهم بالغلظة والمنافسة في الرئاسة. وكلاهما لا يصلح لتفسير ظهور الإسلام في الجزيرة في مكة، والمدينة، والحجاز، ونجد، واليمن، وعمان، والبحرين، وشمال الجزيرة العربية، والعراق، وفارس، وآسيا الوسطى، والشام، وشمال أفريقيا في سنواتٍ معدودة. قد كان فتحًا ودعوةً واستقرارًا للإيمان في نفوس هذه الشعوب حتى أصبحوا هم من سراة المسلمين بعد سنواتٍ قليلة، وقد كان تغييرًا شاملًا في حياة الناس فبنات كسرى أنجبوا سادة التابعين. لم يكن هذا التوسع الذي لم يعرف التاريخ مثيلًا له لطبيعة التوحش في نفس النبي r  وصحابتهy، فلم يقتل في حروب النبيr، من المسلمين والكافرين، الف رجل، ثلثيهم من قريظة وحدها؛ ولم يكن النبيr فظًا غليظًا صعب المراس(متوحشًا)، وإنما كان هينًا لينًا سهلًا قريبًا على خلق عظيم (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم) (القلم:4)، (فَبِمَا رَحۡمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ)(آل عمران: 159)، يوصي جيشه بأن لا يقتلوا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا عابدًا معتكفًا، ولا يجهزوا على جريح؛ وقد غلبه العفو في جهاده. فبعد بدر أخذ بأيسر رأي في الأسرى، وعفا عن أسرى طيء وكانوا "دعارًا" تخافهم الظعينة  كما وصفهم سيدهم عدي بن حاتم الطائي، وعفا عن ثمامة بن آثال وكان سيدًا غنيًا يعرض المال والمسلمون وقتها في حالة من العوز والضعف، وتعلل لأسرى ثقيف وكانوا أهل عناد حتى عفا عنهم ورد عليهم ما في يديه وما استطاع رده ممن أسلم حديثًا، وعفا عن أهل مكة وقد فعلوا كل ما استطاعوا في حربه وصده عن سبيل الله. غلبه العفو في جهاده حتى عوتب فيه (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) (الأنفال: 67)، (عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ) (التوبة:43) فالقول بأن هذا التوسع وراءه وحشية وغلظة قول خاطئ.. يقينًا: خاطئ وخاصة في تفسير ظهور الإسلام على يد الرسول r وصحابته y، والسؤال: من أين جاء ابن خلدون بهذه المقولة؟ ولماذا تقبلها كثير ممن جاءوا من بعده بقبولٍ حسن؟!
كعادته كان يأخذ قيمه وأفكاره مما حواليه.. من البيئة تحديدًا، ولو أنه كان متشبعًا بحال النبي r وصحابته y لقال بأن الناس لا تُقبل على الغالب إلا إذا كان رحيمًا سهلًا ويضرب المثل بحال النبي r وصحابته y، ولكنه، ربما، نظر للتتار المعاصرين له، وكيف أنهم غلبوا من حولهم وتوغلوا في الذين يلونهم بوحشيتهم، وظن أن ذلك ضرب لازب.  وإن التوحش لا ينشئ دولًا مستقرة، فالتتار، وإن غلب التتار غيرهم وتمددوا خارج ديارهم، إلا أنهم لم يستطيعوا إقامة ملكٍ ثابت مستقر.
 وقد مرر المعاصرون فهم ابن خلدون هذا لموافقته أهواءهم. وذلك أن المستضعفين يهشون ويبشون لحديث العزّة والكرامة والغلبة والنصر، ويتمنى كل واحدٍ منهم ساعة يكون فيها قادرًا قاهرًا متوحشًا يعض بأنيابهم من غلبه وقهره. وعامة هؤلاء حين يأتي النصر يبحثون عن أسباب الدعة والترف، حين يأتي النصر يقعدون مع النساء والبنين ويكرهون النفير وأهله. فهي حالة من الرغبة من التخلص من وضعٍ قائم يكرهونه وليست حالة من مكابدة المشاق وصولًا لنعيمٍ أكبر وأطول عمرًا في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وقد وصفهم الله بقوله: (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيق مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَة وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَل قَرِيب قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيل وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡر لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا) (النساء:77) بمعنى راجت مقولته مع أن فيها تعدي على النبي r وصحابته y ومع أنها محدودة القدرة على التفسير وذلك لما فيها من موافقة لهوى بعضهم.
 وقد ضللتهم مقولات ابن خلدون فتوحشَ مَن مَلَكَ قوةً منهم، فأقدم، وهو السلفي المتبع بزعمه، على سلوكٍ أرعن بعيد تمامًا عن هدي النبي r، فكان أن نفَّر المؤمن والكافر، كما في نموذج "داعش" التي تخلت عن رحمة النبيr ودعوته حال جهاده، فعمدت لحرقٍ وقطعِ رؤوس الأسرى على الملأ، بدعوى أن هذا يثير الرعب في قلوب المخالفين، ويستدعون حالات فردية كانت مع من غدر، وحالات فردية لم تتكرر ولم تلق ترحيبًا من عامة الصحابة، والرعب إنما يأتي من الله تأييدًا للمؤمنين الأتقياء وخذلانًا للمشركين حين يقاتلون أولياءه، (سَنُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَآ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ) (آل عمران: 151)، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ) (الأحزاب:26) ، وقريب مما تفعله داعش يفعله الدعويون (السلفية العلمية) والسياسيون (الإخوان) ولك أن تراقب التنافس على المساجد وما حدث فيها. إن هؤلاء يتبعون مقولات ابن خلدون الخاطئة ولا يتبعون محمدًا r. والأفعال أصدق من الأقوال. وقد ضللتهم ونفَّرت الناس منهم!

وأخطأ ابن خلدون حين وصف العرب بأنهم أصعب الأمم انقيادًا، وأنهم أهل غلظة وأنفة، ومنافسة في الرئاسة، وأنهم أهل بداوة أكثر من غيرهم. فقد خضع عامة العرب للسلطان قبل الإسلام: في اليمن، وفي عمان، وفي البحرين وساحل الخليج العربي، وفي العراق، وفي الشام، ولم يستثن من ذلك إلا الذين في جوف الصحراء، وبعضهم نصَّبوا على أنفسهم مَلِكًا. وبالتالي لم يكن هؤلاء الخاضعين للملك أهل بداوة، بل وكان في بطن الجزيرة استقرار كما في مكة والمدينة وخيبر، وقد وصف الله مكة المكرمة بأم القرى (وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَك مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ) (الأنعام:92)، وسماها "البلد" (لَآ أُقۡسِمُ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ) (البلد:1)، ولم يكن للبدو تأثير يذكر في سير الأحداث في الجزيرة إلا من دواوين الشعر التي فاخرت بأحداث فرعية وتم تخليدها للمعاني ودلالات الألفاظ التي حملتها الأبيات في سياق تفسير معاني القرآن الكريم وتدوين العربية بعد أن نزل بها القرآن الكريم ونطق بها رسول رب العالمينr، لا لأهمية الأحداث وتأثيرها. فأين أثر امرؤ القيس إلا من استدعاء شعره لفهم اللسان العربي، وأين أثر عنترة خارج شعره؟!!

وشاع قول ابن خلدون بأن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين، وقد راق هذا الكلام لكثيرٍ ممن يحاولون أسلمة "القومية العربية". استحضروا مقولة ابن خلدون هذه للقول بأن مجد العرب لن يتحقق إلا بتفعيل الدين كصبغة. يستحثون القوميين العرب لتبني قيم الإسلام صبغةً لقوميتهم، ولا أدري كيف، وهؤلاء (القوميين) جاءوا مع الاشتراكية الملحدة.. أمميون.. عقديون.. ثائرون.. أبعد الناس عن الدين.. أي دين. وجاءوا مرحلة وسيطة بين الخلافة والدولة القومية، وعمليًا لم تظهر للقومية العربية وجود في حياة الناس، فلم تستطع دولتين أن تندمجا، بل تقاتل أبناء الحزب العربي الواحد (سوريا والعراق مثلًا) وتقاتل أبناء الجغرافيا الواحدة والجنس الواحد (الجزائر والمغرب مثلًا)، ولم يحدث أن اتحد العرب في تمثيل دولي واحد، بل تتعامل الدول العربية كل دولة بذاتها، وقوانين جامعة الدول العربية لا تلزم أحدًا إلا بما يلزم به نفسه!!، فالعرب دول قومية، والشعوب يعرفون أنفسهم بهوية الدولة الحديثة (مصري، عراقي، يمني، ليبي، سعودي،،،،)، بل يتنابذون على هذه الهوية.
إن القول الصواب أن من أقام الدين في نفسه وفيمن حوله مكنه الله في الأرض، حتى لو كان حاله كحال العرب قبل الإسلام من التفرق والاقتتال الداخلي والخلو من كافة الأدوات الفكرية والمادية، يقول الله تعالى: (وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيل مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَ‍َٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) (الأنفال: 26). (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنًاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡئًاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) (النور:55)، (كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف)

متى يقلد المغلوب الغالب؟

واشتهرت مقولة ابن خلدون بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب، وهي مقولة محدودة القدرة على التفسير، فقد غلب الصليبيون المسلمين واستولوا على أرضهم ولم يقلدهم المسلمون، وغلبهم التتار ولم يقلدوا التتار، وإنما جاء التقليد حديثًا حين كان المهزوم خاليًا من القيم المضادة للغالب، وحين أعجب بقيم غالبه، فقد غلبنا الغربيون وأخرجونا من قيادة البشرية نحو العصر الصناعي بأربعة:

أولها: تخريب التتار لحواضر المسلمين، والقضاء على كثيرٍ من قدراتهم الفاعلة والكامنة، وهو ما يفعلونهم هم الآن. يخربون ديار المسلمين بأشد مما فعل التتار، ولك أن تتدبر حال الأفغان، والعراق، والشام، واليمن، وليبيا، بل غيرهم من بلاد المسلمين.
ثانيها: نهوض أوروبا وتمكنهم من تشييد رؤية خاصة بهم تقوم على أنقاض الدين والتدين، وتمكنهم من قوة مادية لتنفيذ رؤيتهم.
ثالثها: انشغال المسلمين بأنفسهم ونشوب القتال الداخلي بينهم، وبالتالي توقفهم عن الفتوحات، فقد تحول العالم الإسلامي إلى كتل متصارعة (الصفويون، والمماليك والعثمانيين بداية ثم الدول القومية بعد ذلك) واستعان بعضهم بالغربيين على بعضهم.
ورابعها: وهو الأهم ضعف منظومة القيم الإسلامية حين جاءها الغربيون محتلين، ثم تبدلها بعد ذلك، وعلى يد المصلحين من أبناء الأمة كما جمال الدين الإيراني، ومحمد عبده والذين من بعدهم، والمبتعثين للغرب، والذين تلقوا ثقافة المحتل وأعجبوا بها، ومن أعجب ما يرصد هنا أن المفكرين الذين ظهروا على أنهم مدافعين عن الإسلام كعباس العقاد وحسين هيكل حاولوا تسكين البعثة المحمدية في المذاهب الفكرية العلمانية التي اعتنقوها، فقرأ كل واحدٍ منهم الإسلام بمنظور مذهبه العلماني، وهذا الأمر شديد الوضوح في عبقريات عباس العقاد وافتراءات سيد القمني وخليل عبد الكريم، وتيارٍ كامل أفرزه المحتل.

انتشرت مقولات ابن خلدون مع قدرتها المحدودة جدًا في التفسير.. مع أنها لا تفسير إلا قليلًا من الظواهر الاجتماعية والسياسية، فضللت المؤمنين به وأخذتهم بعيدًا عما يريدون من إصلاحٍ.
ألا إننا لسنا بحاجة لابن خلدون، ولا نستطيع أن نأخذ منه علمًا نافعًا نبني عليه عملًا صالحًا.

محمد جلال القصاص
شعبان 1443هـ
 ‏9‏/مارس‏/2022م

 

  • 19
  • 0
  • 3,902

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً