أخلاق الصائمين
فقال داود الطائي يا بن أخي ! إنَّ لي في البيت عشرين سنة ما تأملت سقفه مالك وله رحمك الله ؟ «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
أخلاق الصائمين
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وعند الترمزى وغيره من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»
أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك يطيب لنا أن نكشف للناس عن الغاية العظمى من وراء الصيام الذى يصوموه ومن وراء العناء الذى يكابدوه فى نهار رمضان ..
يوم أمرنى ربى سبحانه وتعالى بالصيام كان الغرض أن أفهم أنى لن أصوم عن طعامي وشرابي فقط لكنى سأصوم أيضاً عن كل فاحش من القول والعمل . .
يوم أمرني ربى أن أمسك في رمضان كان الغرض أن أفهم أنى لن أمسك فقط عن المفطرات لكنى سأمسك أيضاً عن كل ما لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه ..
ومن هنا كان حديثنا اليوم أيها المؤمنون :
عن أخلاق المسلمين الصائمين .. كيف تكون ؟ كيف يتكلمون ؟ وفيم يتكلمون ؟ وكيف يصون الصائمون صيامهم عن المفسدات ؟
قال النبى « الصيام جنّة فإذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنيّ امرؤ صائم إنيّ امرؤ صائم»
لا أخفيكم سراً أيها المؤمنون أنى جعلت أقلب فى كتب السنن :
وجعلت أنظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تتكلم عن القيم النبيلة وعن الأخلاق الحميدة فوجدت حديثاً قوياً فى هذه الباب نحن بحاجة ماسة إليه في كل وقت وخاصة فى رمضان هذا الحديث قَالَ فيه رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « « مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ » ».
نور من أنوار النبوة وأَصْلٌ عظيمٌ مِنْ أُصولِ الأَدَبِ، « مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ » هذا حديث جامع لمعانٍ عظيمة لا غنى للمسلم عن فهمها والعمل بها ، وهو من روائع جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وقد تعددت عبارات الأئمة في بيان منزلة هذا الحديث من الدين حتى قالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِنَّ جِماعَ آدابِ الخيرِ كلها تَتَفرَّعُ مِنْ أَربعَةِ أَحاديثَ وذكروا منها حديث
« «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ » »
الإمام أبو داودَ صاحب السنن يقول : كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مئة ألف حديثٍ انتخبتُ منها ما ضَمَّنْتُهُ كتاب " السنن " فجمعت فيه أربعةَ آلاف وثمانمائة حديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يواصل أبو داود حديثه فيقول ويكفي الإنسانَ لدينه مِنْ كل هذه الأحاديث أربعةُ:
أحدُها قوله صلى الله عليه وسلم « إنما الأعمال بالنِّيَّات » والثاني قوله صلى الله عليه وسلم « مِنْ حُسن إسلامِ المرءِ تركُهُ ما لا يعنيه» والثالث قولُه صلى الله عليه وسلم « لا يكونُ المُؤمِنُ مؤمناً حتّى لاَ يرضى لأخيه إلاّ ما يرضى لنفسه» والرَّابع قوله صلى الله عليه وسلم « الحلال بيِّنٌ ، والحرامُ بيِّنٌ »
ما أحوج الإنسان منا أيها المؤمنون :
فى أى وقت وفى رمضان خاصة لأن يشغل نفسه بنفسه ما أحوجنا فى رمضان وفى غير رمضان لأن نهتم بأنفسنا فننظر فيها ونصلح عيوبها قبل أن ننظر إلى عيوب الناس والى أخطاء الناس ..
ورد فيما صح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال « يا معشرَ من آمن بلسانه ، ولم يدخُلِ الإيمانُ في قلبه لا تغتابوا المسلمينَ ولا تتبعُوا عورات المسلمينَ فإنَّه منِ اتَّبَع عورات المسلمينَ تتبَّع الله عورته ومن تتبَّع الله عورته يفضحه في بيته »..
وقال عون بن عبد الله [ما أحسب أحداً تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه ..
وقال بكر بن عبد الله المزني: [إذا رأيتم الرجل مولعاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه؛ فاعلموا أنه قد مكر به ..
كم يظلم الإنسان منا نفسه :
وكم يفوت الانسان على نفسه من المكاسب والبركات .. وقت الفراغ الذى يفترض أن يُغتنم ويستغل فى الصلاة فى قراءة القرآن فى ذكر الله فى الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه سلم كما قال الله تعالى { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
وقت الفراغ الآن يُستغل والعياذ بالله فى قيل وقال وفى الغمز واللمز وفى السخرية وفى الدخول فيما لا يعنينا وصدق رسول الله { نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس : الصِّحَّةُ والفراغ}
غاب عنا أننا صائمون غاب عنا أن كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وأن يظن به إلا خيراً ..
فى صيامنا أيها المؤمنون وفى سائر أحوالنا من لم يشغل نفسه بالحق شغلته نفسه بالباطل فى صيامنا أيها المؤمنون من استسلم لضعف نفسه توسوس له وتزين له أن يعين نفسه حارساً على الناس ورقيباً على حركاتهم وسكناتهم وتزين له نفسه أن يتدخل فيما لا يعينه يخسر كثيراً من الحسنات التى يكسبها فى صيامه ولربما ضاع منه رمضان وغير رمضان بسبب هذه السقطات وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم ..
ذكر الذهبي فى السير أن كعب بن عجرة :
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عـن نفسه أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوما فرأيته متغيرا قلت بأبي وأمي يا رسول الله مالي أراك متغيرا ؟
فقال صلى الله عليه وسلم: « يا كعب ما دخل جوفي شئ منذ ثلاث " قال كعب فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلا له قال فسقيت له الإبل على أن يأجرنى تمراً أرجع به إلى رسول الله قال فجمعت تمراً كثيراً حتى أتيت به رسول الله ليأكله فلما جعلته أمامه .. قال النبي : أتحبني يا كعب " ؟ قلت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال يا كعب إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه، وإنك سيصيبك بلاء يا كعب فأعد له تجفافا "
وبعد أيام فقد النبي صلى الله عليه وسلم كعباً فسأل عنه قال أين كعب ؟ فقالوا مريض فأتاه الرسول فقال له " «أبشر يا كعب» " فقالت أمه هنيئا لك الجنة يا كعب
«فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من هذه المتألية على الله ؟ " قال كعب هي أمي يا رسول الله فقال " ما يدريك يا أم كعب، لعل كعبا قال مالا ينفعه، أو منع مالا يغنيه "
ويقول أنس ابن مالك استشهد منا رجل يوم أحد فوجد الناس على بطنه صخرة مربوطة من الجوع فلما رأته أمه مسحت التراب عن وجهه وقالت هنيأ لك يا بني الشهادة فى سبيل الله وهنيأ لك يا بني الجنة فقال النبي وما يدريك يا أمه ؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره ..
حتى الشهادة فى سبيل الله لم تشفع لصاحبها الذى كان يتدخل فيما لا يعنيه فهل لك أخى أن ترحم نفسك ؟ هل لك أن تحافظ على حسناتك وأعمالك ؟ هل لك أن تشتغل بعيوب نفسك فتصلحها هذا والله ما يفعك لا يضرك ..
قال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم « المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف وفي كُلٍّ خير احرص على ما ينْفَعُك واستعن بالله ولا تَعْجز»
إذا رأيت أخى فى الناس ذنوباً إذا رأيت أخى فى الناس عيوباً فاذكر مثلها وأكثر منها عندك فلست ملاكاً ولا صديقا ولا أنت معصماً قال عبد الله بن عباس إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك أولاً . .
وقيل للربيع بن خثيم ألا تذم الناس ؟ قال والله ما أنا عن نفسي براضٍ فأذم الناس ؟ إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس وأمنوه على ذنوبهم . .
إذا رمت أن تحيا سليما من الأذى ٭ ٭ ٭ ودينك موفور وعرضك صيّن
فـلا ينطقن منك اللسان بسوءة ٭ ٭ ٭ فكلك سوآت وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائباً ٭ ٭ ٭ فدعها وقل: يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ٭ ٭ ٭ ودافع ولكن بالتي هي أحسن .
ليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء أو ترك التناصح والتناصر بين المسلمين فالمؤمن مرآة لأخيه ومن حق المؤمن على أخيه المؤمن أن ينصح له وأن ينصره «انصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال يا رسولَ الله أنصُرُهُ مَظلوماً فكيف أنصره ظالماً ؟ قال تمنعه عنِ الظُّلم فذلك نصرُك إيَّاه » كما قال النبى صلى الله عليه سلم
فتناصحوا فيما بينكم أيها المؤمنون وتناصروا لكن بلا تطفل بلا قساوة بلا تجسس تناصحوا فيما بينكم أيها المؤمنون وتناصروا لكن بلا تتبع لعورات الناس وسقطاتهم ..
لا يسلم صياما ولا يكمل إيماننا ولا إسلامنا إلا بهذا ولا تسلم لنا حسناتنا والمسلم مَنْ سلمَ المُسلمونَ مِنْ لسانهِ ويدهِ ..
الخطبة الثانية
دخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فكان وجهه يتهلَّل فقِيل له ما لوجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال ما من عملِ شيءٍ أَوْثق عندي من اثنتين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وكان قلبي للمسلمين سليماً .
ودخل رجل فضولي على داود الطائي رحمه الله زائراً فقام الرجل يتفقد البيت ثم قال يا إمام إن في سقف بيتك جِذعاً مكسوراً
فقال داود الطائي يا بن أخي ! إنَّ لي في البيت عشرين سنة ما تأملت سقفه مالك وله رحمك الله ؟ «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
بقى لنا فى ختام الحديث عن أخلاق الصائمين أن نقول إن خيراً كثيراً ينتظرك أخى إن اشتغلت بنفسك عن الناس إن خيرا كثيراً يهيأ لك متى أصلحت من عيوب نفسك عندها يحسن إسلامك وتعطى من الحسنات ما لم تكن تحتسب ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله» ..
متى أصلحت من عيوب نفسك أخي عندها يحسن إسلامك ويكمل إيمانك ويتجاوز الكريم سبحانه وتعالى عن زلاتك وهفواتك
قال ابن مسعود رضي الله عنه قلنا يا رسول الله ! أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال أما من أحسن منكم بعد الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام )
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه .
- التصنيف: