مظاهر غلو الصوفية في النبي صلى الله عليه وسلم
فضائل النبي ﷺ لا تُحصى ولا تُعدُّ، والحديث عن عظمته يحتاج إلى مؤلَّفات ومجلَّدات، ومع هذا كلِّه، فلا نقول فيه إلاَّ ما يُرضي الله عز وجل ورسوله ﷺ.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
النبي صلى الله عليه وسلم سيِّد الخلق أجمعين، وإمام المرسلين، وحبيبُ ربِّ العالمين، ورسولُه إلى الخلق، ختم الله به الرسالة، وأتم به النِّعمة، وأوجب على الأُمَّة محبَّتَه، واقتفاءَ أثره، والاهتداءَ بهديه، فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأول شفيع ينشق عنه القبر، وهو صاحب الشفاعة العظمى، والحوض المورود، ومن أبرز الأدلة الواردة في فضائله صلى الله عليه وسلم وتفضيله على سائر الأنبياء والمرسلين، جميع الخلائق، ما يلي:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يومَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ من يَنْشَقُّ عنه الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» [1].
2- عن أبي سَعِيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يومَ الْقِيَامَةِ؛ وَلاَ فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ؛ وَلاَ فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ: آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ؛ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِي، وأنا أَوَّلُ من تَنْشَقُّ عنه الأَرْضُ؛ وَلاَ فَخْرَ» [2].
3- عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كُنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ وَخَطِيبَهُمْ، وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ، غَيرَ فَخْرٍ» [3].
4- عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ في الْجَنَّةِ، لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أنَا هُوَ» [4].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! وما الْوَسِيلَةُ؟ قال: «أَعْلَى دَرَجَةٍ في الْجَنَّةِ، لاَ يَنَالُهَا إِلاَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ» [5].
5- عن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ؛ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» [6].
وفضائله صلى الله عليه وسلم لا تُحصى ولا تُعدُّ، ومنزلتُه صلى الله عليه وسلم ليس لها حد، والحديث عن مظاهر عظمته صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى مؤلَّفات ومجلَّدات، ولا نوَفِّه حقَّه، ولا نُعطيه قدرَه صلى الله عليه وسلم.
ومع هذا كلِّه، فلا نقول فيه إلاَّ ما يُرضي الربُّ تبارك وتعالى، ثم يُرضيه هو نفسُه صلى الله عليه وسلم، فنحن مُطالَبون بحبِّه وتعظيمِه وإجلالِه وَفْقَ منهجه دون ابتداعٍ من عند أنفسِنا؛ لذا وجدناه يُحذِّرنا من الغلوِّ فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» [7].
قال ابن الجوزي رحمه الله: (الإطراء: الإفراط في المدح. والمراد به ها هنا: المدح الباطل. والذين أطروا عيسى عليه السلام ادَّعوا أنه ولدُ اللهِ، تعالى اللهُ عن ذلك، واتَّخذوه إلهاً، ولذلك قال: "فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ")[8].
وعن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلاً قال: يَا مُحَمَّدُ! يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا! وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا! فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ، وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي التِّي أَنْزَلَنِي اللهُ عز وجل» [9].
ومِثلُ هذه الأحاديث النبوية تؤكِّد بأنَّ (دينَ الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه؛ فإنَّ النصارى: عظَّموا الأنبياء حتى عبدوهم، وعبدوا تماثيلهم، واليهود: استخفُّوا بهم حتى قتلوهم، والأُمَّة الوسط عرفوا مقاديرهم، فلم يغلوا فيهم غُلُوَّ النصارى، ولم يجفوا عنهم جفاءَ اليهود)[10].
إذاً، فنحن مطالَبون شرعاً بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره، ولا يكون ذلك إلاَّ باثنتين: الأُولى: اتباعُ هديه واقتفاءُ أثره، ونشر سُنَّتِه، والعمل بها. والثانية: محبَّتُه وتعظيمُه وَفْقَ منهجه وهديه صلى الله عليه وسلم.
وقد خرجت الصوفية عن هذا المنهج وخالفته، فوقعت في المحظور الذي نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث غالت فيه غُلوًّا مُستنكراً مُخالِفاً لما عليه أهل السُّنة والجماعة.
مظاهر غلو الصوفية في النبي صلى الله عليه وسلم:
وغلو الصوفية في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يتَّخذ عدَّة مظاهر، ومن أهمها:
المظهر الأول: التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم:
من البدع الشركية التي أحدثها الصوفية بدافع محبتهم للنبي وتعظيمهم له: التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو بجاهه، أو بالإقسام على الله به. ويُدخلون في هذا التوسل الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم، وطلب الحاجات منه، ولا يقتصر الأمر على ذلك؛ بل يُجَوِّزون الشِّركَ بالأولياء والصالحين تحت اسم التوسل بهم، طالما ثبت التَّوسُّل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن يتعدى ذلك إلى الأولياء من بعده.
والتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو سؤال الله بجاه نبيه، أو الإقسام على الله بالنبي، كلُّ ذلك غير مشروع؛ لفقدان الدليل على مشروعيته، ولم ترد به سنة صحيحة، ولم يكن يفعله الصحابة رضي الله عنهم لا في حياته صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته، لا عند قبره، ولا في أيِّ مكانٍ آخر. ولم يُنقل ذلك عنهم بوجهٍ صحيح يُعتمد عليه عند أهل العلم. بل الثابت عنهم أنهم رضي الله عنهم عدلوا عنه إلى غيره؛ كما فعل عمرُ مع العباسِ رضي الله عنهما[11].
التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
ينقسم التوسل غير المشروع بالنبي – من حيث الحكم عليه – إلى قسمين:
القسم الأول: التوسل البدعي: ومن أنواعه: التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأن يقول القائل: "اللهم أتوسَّل إليك بنبيك". أو سؤال الله بجاه نبيه؛ كأن يقول: "اللهم بجاه نبيِّك اغفر لي". أو الإقسام على الله بالنبي؛ مثل قول القائل: "اللهم بنبيك أو بحقِّ نبيك اشفني أو اقض حوائجي".
سبب كونه بدعة: إنَّ التوسل بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسؤال الله بجاهه لم يرد له ذِكْرٌ في الكتاب والسُّنة، ولم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَدْع الناس إليه، ولم يَعُدَّه من القربات؛ كما فعل ذلك المتأخرون من الصوفية ومَنْ تابعهم، وكذلك لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعون ولا تابعوهم بإحسان؛ بل الثابت عنهم هو عدولهم عنه إلى التوسل المشروع؛ كالتوسل بالإيمان بالنبيِّ وطاعته ومحبته، وهو فرض عين على كل مسلم، إذ جعل الله الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته وسيلةً إلى كلِّ خير ورحمة في الدنيا والآخرة. أو يتوسَّل بذلك في الدعاء؛ كأن يقول: "اللهم بإيماني بنبيك وطاعتي له وحبِّي إياه اغفر لي".
والأنبياء – عليهم السلام – وإن كان لهم جاهٌ ومكانةٌ عند الله تعالى إلاَّ أنَّ الله لم يجعل ذلك الجاه سببًا مناسبًا لإجابة دعاء مَنْ توسَّل به، وإنما جعل اللهُ الإيمانَ بهم وحُبَّهم واتِّباعَهم سببًا لإجابة الدعاء، بخلاف السؤال والتوسل بذواتهم وجاههم.
وأما القَسَم على الله بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بحقِّه فهذا مما لا يجوز شرعًا؛ لأنه قَسَم بالمخلوق على الخالق سبحانه وتعالى، وإذا كان القَسَم على المخلوق بمخلوق مثلِه لا يجوز؛ فكيف يجوز ذلك في حق الخالق سبحانه[12].
القسم الثاني: التوسل الشركي: مثل طلب الحاجات من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو دعائه؛ لكشف الضُّر، أو بث الشكوى إليه، وغير ذلك من ألوان الشرك الأكبر الذي حرَّمه الله ورسوله.
وإذا طلب الإنسانُ من النبي صلى الله عليه وسلم - في حياته - ما لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى؛ كان هذا شركاً، فكيف بمَنْ يطلب ذلك منه بعد موته، ويُنشدون في ذلك الأشعار، ويسوقون الحكايات والأخبار، ويَنْعَتون كلَّ مُوَحِّدٍ بالجفاء للنبي صلى الله عليه وسلم وآلِه الأخيار.
ومن أمثلة "التوسل الشركي" ما نظمه "البرعي"[13] مخاطباً النبيَّ صلى الله عليه وسلم:
يا صاحبَ القبرِ المنيرِ بيثرب
يا مُنتهى أملي وغايةَ مَطلَبي
يا مَنْ به النائبات توسُّلي
وإليه مِنْ كلِّ الحوادث مَهْرَبي
يا مَنْ نُرَجِّيه لكشف عظيمة
ولحل عقد ملتو متعصب
يا من يجود على الوجود بأنعم.
خضر تعم عموم صوب الصيِّب
يا غوثَ مَنْ في الخافقين وغيثَهم
وربيعَهم في كل عامٍ مُجدِب
يا مَنْ نناديه فيسمعنا على
بُعْدِ المسافة سمع أقرب أقرب[14]
المظهر الثاني: ادِّعاؤهم رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقظة:
من البدع التي يزاولها الصوفية بدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقادهم وإيمانهم بحياة النبي – بعد موته – حياةً تامَّة لها كل خصائص الأحياء؛ ولذلك هم يدَّعون بأنهم يرون النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقظة، ويجتمعون به فيُرشدهم في طريقتهم، ويحضر حضراتهم والموالد التي يُقيمونها.
وعلى هذه البدعة أُسِّسَت طرقٌ صوفية كثيرة، سُمِّيت بالطرق المحمدية؛ لأنها كما يزعمون أُخِذَت من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة، وذلك كالطريقة التيجانية[15]، والطريقة الأحمدية الإدريسية[16]، وغيرهما من الطرق.
ولقد زعمت الصوفية أنَّ "الحضرة" التي يقيمونها يحضرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ إمَّا بروحه، وإمَّا يقظةً بجسده وروحه؛ ولذلك سُمِّيت حضرة.
كما زعمت أنَّ "المَولِد" الذي يقرؤونه يحضره صلى الله عليه وسلم؛ ولا سيما عند ذِكْرِ ولادته صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقومون لمجيئه؛ ويقول قائلهم: جاء الرسول. حضر الرسول.
وحتى يُمعِنوا في تضليل الناس بهذه البدعة؛ يقولون: بأن الرسول لا يراه إلاَّ الكُمَّل من العباد، أمَّا القاصِرون والمنكِرون فهم محجوبون عن رؤيته صلى الله عليه وسلم، واعتقادهم في هذا يُشبه اعتقادهم في "القطب الصوفي" المُغَيَّب عن الأبصار، الذي لا يجتمع به إلاَّ كبار الأولياء على زعمهم؛ مثلما يعتقد الرافضة في "الإمام الغائب المُنتظَر"[17].
قال ابن تيمية رحمه الله: (وَالضُّلاَّلُ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ: إمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا غَيْرُهُ مِنْ الأنْبِيَاءِ يَقَظَةً، وَيُخَاطِبُهُمْ وَيُخَاطِبُونَهُ. وَقَدْ يَسْتَفْتُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أَحَادِيثَ فَيُجِيبُهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّ الْحُجْرَةَ قَدْ انْشَقَّتْ وَخَرَجَ مِنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَانَقَهُ هُوَ وَصَاحِبَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلامِ حَتَّى وَصَلَ مَسِيرَةَ أَيَّامٍ وَإِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ... وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَ خَلْقٍ كَثِيرٍ؛ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُكَذِّبُ بِهَذَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إذَا صَدَّقَ بِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الآيَاتِ الإلَهِيَّةِ، وَأَنَّ الَّذِي رَأَى ذَلِكَ رَآهُ لِصَلاحِهِ وَدِينِهِ. وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ بِحَسَبِ قِلَّةِ عِلْمِ الرَّجُلِ يُضِلُّهُ الشَّيْطَانُ.
وَمَنْ كَانَ أَقَلَّ عِلْمًا قَالَ لَهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ خِلافًا ظَاهِرًا. وَمَنْ عِنْدِهِ عِلْمٌ مِنْهَا لا يَقُولُ لَهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ وَلا مُفِيدًا فَائِدَةً فِي دِينِهِ؛ بَلْ يُضِلُّهُ عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ الشَّيَاطِينِ، وَهُوَ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَفَادَ شَيْئًا فَاَلَّذِي خَسِرَهُ مِنْ دِينِهِ أَكْثَرُ. وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْخَضِرَ أَتَاهُ، وَلا مُوسَى، وَلا عِيسَى، وَلا أَنَّهُ سَمِعَ رَدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ. وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ - إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ - وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّهُ يَسْمَعُ الرَّدَّ. وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ. وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ... مِمَّنْ قَلَّ عِلْمُهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ، فَأَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ؛ كَمَا أَضَلَّ النَّصَارَى فِي أُمُورٍ لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الأنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ)[18].
فما يدَّعيه الصوفية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيتهم له يقظةً هو مَحْضُ خرافة، وما بنوه على أساس هذه الخرافة باطل، وهذا من تلاعب الشياطين بهم؛ لأنهم ليسوا على التوحيد والسُّنة في عقائدهم وعبادتهم، وإلاَّ لو كان هذا صحيحاً؛ لحصل لأفضل الخلق بعده صلى الله عليه وسلم وهم صحابته رضي الله عنهم، الذين كانوا على الصراط المستقيم؛ ولذلك لم تطمع الشياطين في إضلالهم بمثل هذه الخرافات والبدع.
والسبب في إغواء الشيطان لهم هو هجرهم للسُّنة؛ إذ لو تسلَّحوا بها وتحصَّنوا بدروعها لَمَا تمكَّن الشيطان منهم؛ وهنا يتبيَّن لنا السبب وراء عجز الشيطان عن التلبيس على الصحابة والسلف الصالح من أهل السُّنة؛ لِمَا يمتلكون من عِلمٍ بسُنَّة نبيِّهم وهديه، أمَّا المتصوِّفة فَلِقِلَّة بضاعتهم بعلم الحديث ولِجهلهم بسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم تمكَّن منهم الشيطانُ ولَبَّسَ عليهم دينَهم، وهنا يتَّضح لنا خطر هجر السُّنة على صاحبه.
[1] رواه مسلم، (4/ 1782)، (ح 2278).
[2] رواه ابن ماجه، (2/ 1440)، (ح 4308)؛ والترمذي، (5/ 587)، (ح 3615) وقال: (حسن صحيح). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (3/ 486)، (ح 3615).
[3] رواه أحمد في (المسند)، (5/ 137)، (ح 21283)؛ وابن ماجه، (2/ 1443)، (ح 4314)؛ والترمذي، (5/ 586)، (ح 3613). وحسنه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (3/ 405)، (ح 3500).
[4] رواه مسلم، (1/ 288)، (ح 384).
[5] رواه الترمذي، (4/ 586)، (ح 3612). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (3/ 484)، (ح 3612).
[6] رواه البخاري في (التاريخ الكبير)، (1/ 44)، (ح 82)؛ والترمذي، (4/ 628)، (ح 2443). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (2/ 584)، (ح 2443).
[7] رواه البخاري، (3/ 1271)، (ح 3261).
[8] كشف المشكل من حديث الصحيحين، (1/ 65).
[9] رواه أحمد في (المسند)، (3/ 153)، (ح 12573)؛ وقال محققو المسند، (20/ 23)، (ح 12551): (إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (3/ 88)، (ح 1097).
[10] اقتضاء الصراط المستقيم، (1/ 335).
[11] انظر: محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، (ص 253).
[12] انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ابن تيمية (ص 109، 110).
[13] هو عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم البرعي، شاعر متصوف، مات سنة (830 هـ). انظر: الأعلام، (3/ 343).
[14] انظر: شرح ديوان البرعي في المدائح الربانية والنبوية والصوفية، محمد سعيد كمال (ص
88).
[15] (التيجانية): نسبةً إلى أبي العباس أحمد بن محمد بن المختار التيجاني المغربي، شيخ الطريقة التيجانية، وُلد سنة (1150 هـ)، كان فقيهاً مالكياً عالماً بالأصول والفروع، مُلِماً بالأدب، صوفيًّا. طريقته منتشرة في المغرب، والسودان، ومصر، وغيرها. مات سنة (1230 هـ). انظر: الأعلام، (1/ 245).
[16] (الأحمدية الإدريسية): نسبةً إلى أحمد بن إدريس الحسني، صاحب الطريقة الأحمدية الإدريسية ولد بفاس، وانتقل إلى مكة، ثم رحل إلى اليمن فسكن "صَبْيا" إلى أن مات. وهو جدُّ الأدارسة الذين كانت لهم إمارة عسير ونواحيها، وكان صوفيًّا على دِين ابن عربي. من مؤلفاته: "العقد النفيس"، و"السلوك"، و"روح السنة"، طريقته منتشرة في المغرب والسودان وغيرهما. مات سنة (1253 هـ). انظر: الأعلام، (1/ 95).
[17] انظر: محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، (ص 245، 247).
[18] مجموع الفتاوى، (27/ 391-393).
- التصنيف: