الحياء من الله حق الحياء
كما أن الماء حياة الأرض، فكذلك الحياء حياة القلب.. فقلب لا حياء عنده هو قلب لا حياة فيه.
الحمد لله حمدا يبلغ رضاه، وصلى الله على نبيه ومصطفاه.. وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلم تسليما كثيرا لا يدرك منتهاه.. وبعد:
فقد روى الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حق الحياء...» الحديث)(رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني).
الحياء مَلك الأخلاق الحميدة، وسلطان الأخلاق الرشيدة، وسيد الأخلاق المجيدة، وهو خلق الإسلام الذي اختص به كما في الحديث: «إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء» (وهو في الموطأ وصحيح ابن ماجة).
والحياء في اللغة مأخوذ من الحياة، ولذلك يسمى الغيث حَيَا؛ لأن به حياةَ الأرض والنبات والدواب.
قال العلماء: كما أن الماء حياة الأرض، فكذلك الحياء حياة القلب.. فقلب لا حياء عنده هو قلب لا حياة فيه.
وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة الحياء، وقلة الحياء من علامات موت القلب، وكلما كان القلب أحيا"يتصف بالحياء" كان أحيا "أتم حياة".
وأما الحياء في اصطلاح الشرع فهو: «خُلق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق»[فتح الباري:1/68].. ويدل على هذا المعنى ما جاء في الحديث النبوي (إنَّ مما أدرَكَ الناسُ من كلامِ النبوةِ الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)(أصله في البخاري).
وعليه فالحياء من أبرز الصفات التي تنأى بالمرء عن الرذائل، وتحجبه عن السفاسف، كما أنه من أقوى البواعث على طلب المعالي والفضائل.
قال أبو حاتم: إذا لزم المرء الحياء كانت أسباب الخير منه موجودة، كما أن الوقح إذا لزم البذاء كان وجود الخير منه معدوما، وتواتر الشر منه موجودا، لأن الحياء هو الحائل بين المرء وبين المزجورات كلها، فبقوة الحياء يضعف ارتكابه إياها، وبضعف الحياء تقوى مباشرته لها. "روضة العقلاء".
الحياء من الله:
والحياء يكون من الله، ومن الملائكة، ومن النفس، ومن الناس.. وأعظمها وأنفعها على الإطلاق الحياء من الله سبحانه وتعالى.
ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم به؛ فقال: «استحيوا من الله حق الحياء» قُلنا : يا رسولَ اللَّهِ إنَّا لنَستحيي والحمد لله قالَ : «ليسَ ذاكَ، ولَكِنَّ الاستحياءَ منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظ الرَّأسَ، وما وَعى، وتحفَظَ البَطنَ، وما حوَى، ولتَذكرِ الموتَ والبِلى، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فَعلَ ذلِكَ فقدَ استحيا يعني: منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ» (أخرجه الترمذي وصححه الألباني) .
وجاء إليه رجل فقال: أوصني.. قال: «أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك» (رواه أحمد في الزهد وحسنه الألباني).
وذلك أن من استحيا من الله حق الحياء لا يفرط في فريضة، ولا يصر على خطيئة لأنه يعلم أن الله ناظره وشاهده ثم هو سائله ومحاسبه، ومقرره فيخجل منه.. وهذا هو الحياء الحقيقي.
وفي حديث معاوية بن حيدة قال: (قلتُ يا رسولَ اللهِ!! عوراتُنا ما نأتي منها وما نذرُ؟ قال: «احفظْ عورتَك إلا من زوجتِك أو ما ملكت يمينُكَ» . قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ إذا كان القوم بعضُهم في بعضٍ؟ قال: «إنِ استطعتَ أن لا يَرينَّها أحدٌ فلا يَرينَّها» . قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ إذا كان أحدُنا خاليًا؟ قال: «اللهُ أحقُّ أن يُستحيا منهُ منَ الناسِ» (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني).
قال كعب: "استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم".
أسباب الحياء من الله:
وللحياء من الله أسباب إذا لاحظها العبد واستحضرها عظم حياؤه، وزادت مراقبته لربه وكان أبعد ما يكون عما يسخطه ويغضبه.. فمن ذلك:
أولا: مشاهدة المنة والإحسان:
فإن كل نعمة في العبد فإنما هي من الله تعالى تفضل بها عليه، وأحسن بها إليه {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] .
فمن نظر إلى إحسان الله له، وفضله عليه ونعمه المترادفة والمتوالية يستحي من أن يقابل نزول النعم عليه بصعود المعاصي منه إلى ربه، فلا يقابل الإحسان بالإساءة إلا لئيم. {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن:60] .
قال الجنيد: "الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء".
وهو ما جاء في حديث سيد الاستغفار: «... أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي» (البخاري).
ثانيا: استعظام الجناية:
فإذا نظر العبد إلى عظمة الله وكمال قدرته عليه وتمكنه منه، وسهولة العقوبة مع تمام القدرة وعدم المانع، ثم نظر في كثرة ما يعانيه من الزلل والعصيان، ومخالفة الرحمن، استعظم جنايته في حق مولاه، وتقصيره في حق سيده، فكان هذا باعثا على الحياء منه سبحانه.. وقد قيل قديما: "لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من تعصيه".
ومن هذا الباب اعتذار الأنبياء عن الشفاعة للناس عند ربهم يوم الحشر، فحملهم الحياء على عدم التجرؤ والتقدم في هذا المقام العظيم.
حضر الفضيل الموقف بعرفة فرفع رأسه إلى السماء، وقبض على لحيته وهو يبكي بكاء الثكلى ويقول: "واسوأتاه وإن عفوت".
وكان يقول رحمه الله: "لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة، وبين ألا أبعث، لاخترت ألا أبعث".
ولما احتضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: وما لي لا أجزع؟ ومن أحق بذلك مني؟ والله لو أوتيت بالمغفرة من الله تعالى لأهمني الحياء منه مما صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييا منه.
سأل أبو حامد الخلقاني الإمام أحمد عن الغناء. فقال أحمد: مثل ماذا؟ قال:
إذا مــا قـــال لـي ربــي .. .. أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي .. .. وبالـعـصـيـان تـأتيـني
فدخل أحمد حجرته وجعل يرددها ويبكي.
ثالثا: خوف المقام بين يدي الله
وهوالمقام الذي قال الله فيه: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . فإن الجنة هي المأوى} [النازعات:40ـ41]، وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، قال مجاهد: "هو الرجل يخلو بمعصية الله فيذكر مقام الله فيدعها فرقا من الله".
وقال عليه الصلاة والسلام مبينا هذا المقام: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة» (متفق عليه).
قال الحسن: "لو لم نبك إلا للحياء من ذلك المقام، لكان ينبغي أن نبكي فنطيل البكاء".
رابعا: العلم باطلاع الله عليه:
فهو سبحانه العليم الخبير، والسميع والبصير، والرقيب الشهيد، والحفيظ والمحيط، والمحصي الحسيب.. {لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}، و {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض}، {وهو معكم أينما كنتم}، القلوب إليه مفضية، والسر عنده علانية، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}، لا فرق عنده بين السر والإعلان {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}، {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} .
فمن علم أن معبوده مطلع عليه في كل حال، ومشاهد لعبادته تعين عليه تزيين ظاهره بالخشوع، وباطنه بالإخلاص والحضور؛ فإنه سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قال بلال بن سعد: "لا تكن وليا لله في العلانية وعدوه في السر".
فأهل الحياء يراقبون الله في خلواتهم كما يراقبونه في جلواتهم، ويتعاملون معه سبحانه على مشهد الإحسان.. قال ابن المبارك: "راقب الله تعالى". فسئل عن تفسيره؟ فقال: "كن أبدا كأنك ترى الله عز وجل".
قال ابن عمر: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يعلم أن الله تعالى يراه؛ فلا يعمل سرا ما يفتضح به يوم القيامة".
قيل للجنيد: بم أستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك للمنظور إليه.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة.. .. والنفس داعية إلى العصيان
فاستح من نظر الإله وقل لها .. إن الذي خلق الظلام يرانـي
- التصنيف: