حاجة الإنسان إلى العبادة
في محراب العبادة أحست تلك القِلَّة الشاكرة بغِنى من غير مالٍ، وبقوَّةٍ من دون خَوَلٍ ولا رجالٍ، حتى قالوا في عنفوان النعيم الروحي: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف...
تعيش الرُّوح الإنسانية في عالم التكليف وحشةً مستمرة، تلهث فيه عن أُنس يُزيح عنها دياجي القَلَق والخوف التي استولت عليها، وتبقى تائهةً في متاهات الضلال الممتدة إلى أنحاء العمر الذي ينتظر الأجل، تبحث في تلك الآفاق عن الوجهة المخلِّصة التي تُنهي قصة تَيَهانها المرعب.
وتصبح كلَّ يوم يمرُّ عليها في فقر مُفْقِع مُدْقِع تتشوَّف عبر نوافذه المحطَّمة عن غِنى ينتشلها من أصفاد العَوَز الذي شلَّ حركتها عن بلوغ أمانيها.
وتضحي في ظمأ شديد يُعذِّبها بمُرِّه، ويحرقها بحَرِّه، تتوق في غليله إلى كأس ريٍّ ترتوي منها ما يُطفئ لهيب صَداها وأوارَ عناها.
وتظل تسمع صفير الرياح المخيفة في جوانبها التي تعاني الخواء الفسيح، حتى ترى ما يملأ ذلك الفراغ الواسع، فتحس عند ذلك بالدفء والامتلاء.
وتبيت في جدبٍ، تيبس في عتوه زهورها الجميلة، وتعبس فيه شفاه ما لديها من خميلة، تستسقي في عنفوان سنيها علَّها تجد غيث سحابة تنعم بدموعه التي تُنبت لها الخصب الذي يطرد عنها جيش القحط الغازي.
وتمسي في ظلام دامس يلقي عليها من آلام إرهابه ما ترجو بين أشداق استكباره شروق قوة محررة من فجر هدى يُنسيها قبضة ليلها المخيف، وشدة تتابُعه الكثيف.
في ظل هذه المعاناة المتعددة التي تتألم فيها الرُّوح الإنسانية استطاع قليلٌ من عباد الله الشاكرين أن يهتدوا إلى باب الخلاص الذي ينيلهم الراحة التامة مما يجرعهم عناؤه، ويلهب أنحاءهم شقاؤه.
لقد وصلوا إلى باب العبادة الكبير الذي يَلِجُون منه إلى واحات سعادة لا مثيل لها في الدنيا، تلك السعادة المرومة ترد لهم أرواحهم السليبة في أيدي الغفلة والعصيان، فيسعدون بلقائها أيما سعادة، وتعيد لهم طعم الحياة بعد أن كانوا لا يجدون للحياة طعمًا.
نعم، لقد جرَّبوا كل الشهوات، وسلكوا كل الطرقات التي يظنون بها وصولًا إلى طيب الحياة؛ ولكنهم لم يلفوا ما ينشدون إلا في طريق العبادة.
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
في محراب العبادة صار الشاكرون القليلون مستئنسين، ولو كان الواحد منهم وحده؛ بل لا يرون لذة الاستئناس إلا هناك، هناك في ظلال صلاة خاشعة في جوف الليل البهيم، وقراءة لآيات الذكر الحكيم، وذكر ودعاء وتضرُّع بين يدي الرب الكريم، حتى يترنم كل منهم:
وأخْرُجُ مِنْ بَيْنِ البُيُوتِ لَعَلَّني *** أُحَدِّثُ عَنْكَ القلبَ بالسِّرِّ خاليا
يا حُسنَهم والليلُ قد جنَّهــــمُ *** ونورُهمْ يفوقُ نورَ الأنجـــــــمِ
ترنَّموا بالذِّكر في ليلهــــــــــمُ *** فعيشُهم قد طابَ في الترنُّـــمِ[1]
قال ثابت البناني رحمه الله: ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل، وقال سفيان رحمه الله: إذا جاء الليل فرحتُ، وإذا جاء النهار حزنتُ، وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: لَأهلُ الطاعة بليلهم ألذُّ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببتُ البقاء في الدنيا"[2].
في محراب العبادة أحست تلك القِلَّة الشاكرة بغِنى من غير مالٍ، وبقوَّةٍ من دون خَوَلٍ ولا رجالٍ، حتى قالوا في عنفوان النعيم الروحي: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف[3].
في محراب العبادة رويت الروح، واطمأنَّتْ، وأمنت، وخَضِلَتْ، فكَتبَ الضياءُ على قسمات الوجوه معاني تلك السعادات بمِدادٍ من نورٍ، يعجب منه كُلُّ مَنْ تأمَّلَه ورآه.
قيل للحسن: ما بال المتهجِّدين أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خَلَوا بالرحمن، فألبسهم نورًا من نوره[4].
وقالوا: من كثُرتْ صلاتُه بالليل حَسُن وجهُه بالنهار[5].
وحين وجدَتْ أرواحُ تلك الفئة العابدة حاجتَها في رياض العبادة أَلبست الجسد آثارها النديَّة، وخِلعها السَّنيَّة، فاستقام سير العابد إلى الله، وسعد به مَنْ حوله من الأقارب والأباعد، فحين صلحت علاقتُه بالله صلحت علاقتُه بالناس.
فلماذا إذن يُعْرِضُ الناس عن العبادة وهي عنوان سعادتهم، ومنهل راحتهم، وطريق صلاح دنياهم وأُخْراهم؟
أصرَفهم عنها حبُّ السكون في أحضان الراحة من التكاليف، أم صدفهم عنها ما ران على قلوبهم من أغشية الخطايا التي منعت بحُجُبِها الكثيفة وصولَ داعي الموعظة إلى الأفئدة، أم حال بينهم وبينها جليسُ سوءٍ، أم سوء ظن بالعبادة وأهلها؟
ليتهم تجرَّدوا للحقيقة، فجربوا طعم العبادة الخالصة؛ حتى يعرفوا ما هم فيه من الحاجة الشديدة التي لا يسدها إلا العيش تحت ظلال النُّسُك الوارفة.
إن الإنسان عابد صالح ما دام واقفًا عند حدود الله، ممتثلًا أوامره، مجتنبًا نواهيه.
غير أن هناك روابي للعبادة عالية، ومرتقيات لها سامية فوق ما وصل إليه هذا الإنسان، يجد تلك المنازل العليَّة في مواسم العبادة التي تخضل بكثرتها، أو مضاعفة الأجر فيها.
هذه المواسم هي للعابدين أعيادُ الروح التي ينتظرونها بشغف؛ إذ فيها تفرح الروح؛ لكونها تجد فيها محطَّات للتزوُّد بوقود الهِمَّة العالية نحو الاستمرار في دَرْبِ العبادة، ومنهل عَذْب تروى بنميره الرقراق إن مسها ظمأ في سائر الأيام، وتخط فيها على صفحات كتاب حسناتها أعمالًا مضاعفة الثواب، يعوضها عن قصر العمر المكتوب على هذه الأمة.
وقد تفضل الله تعالى- وله الحمد - على عباده بمواسم سنوية للخيرات كأنها معرض ينتظر المسارعين إلى اقتناء ما فيها من نفائس سينتهي العرض بانتهاء أيامها المعدودة.
ومن تلك المواسم: العشر الأوائل من ذي الحجة التي هي خير أيام العام، وأخصبها فضلًا، وأنداها خيرًا، ففيها يجتمع من أمهات العبادات ما لا يجتمع في غيرها، إضافة إلى شرف الزمان؛ إذ ذو الحجة من الأشهر الحُرم، فكيف لو زيد على ذلك شرف المكان كمكة المكرمة حرسها الله.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: (( «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ» )), فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟, قَالَ: (( «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ, إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ, فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» ))[6].
فما أجملها من هدية سنوية! فأين شاكروها الذين يحسنون استقبالها ووداعها، ويعمرون لحظاتها الثمينة بالمسابقة إلى عناق القربات، والغرام بدوام الطاعات؟
أيام مباركة تفيض بعطايا إلهية لا تستحق منا إلا التشمير عن ساعد الجد لاغتنام فضلها، وفسح المجال لها في جدول أوقاتنا الممتلئ بما يمكن إرجاؤه إلى وقت آخر، أما من كان ذا فراغ فأحسنُ ما يشغل به فراغه هذه الأيام المسارعةُ إلى العمل الصالح المتنوع من نوافل الصلاة والصيام، وقراءة القرآن، وكثرة الذكر والصدقات والدعاء، وغير ذلك من أصناف الطاعة وألوانها.
فالمائدة موضوعة، فأين أصحاب العزائم الأقوياء، والسوق قائمة، فأين تجَّار الآخرة الفُطناء، والعرض بدا مغريًا، ومستغله - بلا شك - سيغدو مثريًا، فطوبى لمن استجاب، وخيبة لمن أعرض عن ولوج هذا الباب.
[1] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 46).
[2] لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).
[3] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 197).
[4] فضل قيام الليل والتهجد للآجري (ص: 5).
[5] قاله شريك بن عبدالله القاضي، الإرشاد في معرفة علماء الحديث، للقزويني (1 /171).
[6] رواه البخاري والترمذي وأحمد وابن ماجه.
- التصنيف: