المنقود

منذ 2022-08-19

الفلاحُ الحاصلُ بإنكارِ المنكَر، والأمرِ بالمعروف هو: أمرٌ يُنال في الدنيا وفي الآخرة، صلاح في الدنيا، وفوز بالجَنَّة في الآخرة.

كثيرًا ما كانتْ تُستَخدم هذه الكلمة في الماضي؛ للتعبير عمَّا لا يَتقَبَّله العُرْف من الأفعال والأقوال، فنجد الناسَ يَصيحُون بها، فاتحي أعيُنهم باستنكارٍ، فاغري أفواههم بعجبٍ وغضب: "منقود"، وربما أَرْفَقَتْها النِّساءُ بلطْم الخد، أو رفْع اليدَين، وضرْب الرأس؛ فزعًا مِن هَول الفعل.

 

والمنقود هو: الشيء المخالِف للعادات والأعراف، وتُقال الكلمة بمعنى: "عيب".

يقول الشاعر منصور الرويلي:

بعض القصائد تحتوي كل منقود   ***   وبعض القصائد ذات معنى وقيمه[1]

 

لقد كان الناسُ حَريصِين على البُعد عن أيِّ فعلٍ مِن شأنه أن يُعرِّضهم لتَلقِّي هذه الكلمة من الآخرين، خاصةً في المجتمَعات الصغيرة؛ كالقُرى، أو الأحياء المتقارِبة البيوت، حيث يَتَعارَف فيها الجميع، فيُنكرون على بعضهم أيَّ فعلٍ لا يليق، أو لا يتَّفق مع العُرف، ولَم يكنْ يُخالِف ذاك العُرفَ إلا الشواذ القليلون، والذين يتجنَّبهم المجتمعُ الصغير؛ خشية انتقال عدواهم إلى بقية الأفراد، فكان مَن يأتي فعلًا منكرًا يُقاطَع مِن قِبَل الأهالي إذا عُرض عليه الرجوع ولَم يرْجعْ عن غَيِّهِ وفِعْله، وربما "عزَّرُوه"[2] لفِعْله؛ لذلك عاشتْ تلك الأجيال في أمان - نوعًا ما - مما استَشرَى في المجتمعات الكبيرة الحالية، التي لَم يَعُد الجارُ فيها يَعْرف جارهُ، فلَمْ يَعُد الأفراد يَستَحيُون مِن إتيان الأفعال المُخِلَّة والمخْجلة أمام الملأ، دون مراعاةٍ للذَّوْق والأدب، ولا حتى للدِّين، وصَدَق القائل: "مَن أمِن العقوبة أساء الأدَب".

 

وحقًّا، فقد ساء الأدب العامُّ كثيرًا، وطالعتْنا أجيالٌ مِن الشباب يَسِيرُون شِبْهَ مكشوفي العورات، مُتَقَلِّدينَ السلاسل والقلائد والأساور كالنساء، وقد اعتلتْ رُؤُوسَهم غمامات وهالات مِن الشعور المنكوشة الملوَّنة والمُمَوَّهة، أو استَرسَلَت شعورهم على أمتانهم بميوعة و"غنج"، أو رُبطت بما تَربِط به الفتياتُ شعورَهنَّ مِن الشرائط والخرَز، وربما ثقب أحدُهم أذنَه وأنفه؛ لِيعُلِّق بها الأقراط.

 

شباب كالهوام، يسيرون في الأسواق دون هدَف ولا غاية، يؤذون هذا، ويُضايقون ذاك، يُلقون بالعبارات البذيئة، ويُمارسون الحركات البغيضة، والإشارات الدَّنيئة دون حياء، وتَتَعالَى صرخاتُهم وضحكاتهم في كلِّ مكان، يَسيرون ويخربون ويكتبون ويحطمون الممتَلكات العامَّة والخاصة، لا يَسلم مِن أيديهم جدارٌ ولا حاوية، ولا متنَزه ولا حديقة، بل ولا عاملُ نظافة، أو عابرٌ في الطريق.

 

شباب عابثٌ لاهٍ، لا يتوَرَّع عن فعلٍ أو قولٍ، لا يَدْرُون ما يفعلون؛ لأنهم فقط يُقَلِّدون، ويتَتَبَّعون ما تُلقيه الحضارةُ مِن أوباء، نُكِتَتْ في عُقُولهم كالسموم، يتلَقَّوْنَها بالأيدي والأفواه، حتى أغرقتْهم إلى رُؤُوسهم فيها، غير آبهين بقبولِ أو رفضِ المجتمع لما يفعلون، أو يلبسون.

 

ومنَ الفتيات مَن اخشَوْشَنَتْ واستَرْجَلَتْ بكُلِّ ما تعنيه الكلمة، فاستمرأتْ لبس الرِّجال ومشيَهم، وقصَّت شعرَها كشعورهم، وتعَطَّرَت بعُطُورهم، وبدأتْ تُمارس حياتها كرجلٍ مثلهم، فلم تَعُد تشعُر بخَجَلٍ من الاتِّصاف بهذه الصِّفة التي تُعرِّضها للَّعن والطرد مِن رحمة الرحمن، ومنهن مَن لَم يَعُد لها بالبيت قرار، تطُوف بالأسواق والمحالِّ والتجار، تجادل و"تفاصل"، وتأخذ وتناول، ضاقت عباءَتُها عن احتوائِها، وعلا صوتُ ضحكاتها، تجول هنا وهناك، بلا خوف ولا وَجَل، ولا ما كان يُتَوِّجُها مِن حياء وخَجَل.

 

قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مما أدرك الناسُ مِن كلام النبُوة الأولى: إذا لَم تَستَحِ، فافْعل ما شئتَ» [3]، وقد فعلوا ما شاؤوا، دون رادع أو وازع.

 

إنَّ أكبر اللوم في رأيي يعُود على الآباء، الذين لَم يحْتَوُوا أبناءَهم، ولَم يكُونوا أمناء على ما استُؤْمِنُوا عليه، فضيَّعوا مَن يَعُولون، ومَن تركوهم بلا رقيب ولا حسيب، تُرَبِّيهم وسائل الإعلام الحديثة كما تشاء.

 

اللَّوْم لِمَن لَم يخجلوا مِن ظُهُور أبنائهم بهذه الأشكال المنفِّرة، وإتيانهم الأفعال المنكرة، دون أن يُنكروا عليهم فِعْلهم أو ينقدوهم، وليس لأحدهم حجَّة بأنه لا يَعلم بفعْل ابنِه؛ لأنَّ واجبه أن يَعلمَ ما يفعله ابنُه وابنتُه، وما يفكرون فيه، وما يميلون إليه، وواجبهم الأكبر زرْعُ المفاهيم والأخلاق والسلوكيَّات السليمة، وتصحيح المغلوطة والمخالفة للدِّين والعُرف، ولكنَّ المؤسِف أنَّ الشُّعور بالعَيْب قد قلَّ، حتى في داخل البُيُوت.

 

والحقُّ أنَّ كثيرًا منهم يَعلمون، ولكنهم "يَتَعامَون" ويَتَغافَلون، والبعضُ للأسف قد "سدَّ أذنًا بطينٍ، وأخرى بعجينٍ"، إزاء كل ما يسمع مِن شجْب لِفعلِ أبنائِه، والأمرُّ والأدْهَى والأقسى أن البعض يُشجِّع فعْلهم؛ بحُجَّة مواكبة الحضارة المعاصرة، والتي بدأتْ رائحةُ نَتَنِها تخنق البيوتَ، فأصبح مِن الأبناء مَن لا يحترمون آباءهم، ومَن يؤذون أمَّهاتهم، وقلَّت التقوى في حياتهم، فلَم تَعُد لديهم أيُّ خطوط حمراء يقِفُون عندها.

 

إنَّ الإنكار، ونقْد الفعْل الخاطئ، والإصرار على رفْضه - يجعل في داخل نُفُوس الأبناء معيارًا لقياس الأمور، يَعلمون معه أيُّ الأمور لا يجوز الاقتراب منه، فضلًا عن ارتكابه.

 

إنَّ إنكار المجتمع على المخطئ هو ما يحثُّ عليه القرآن، في قول الله تعالى: ﴿  {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}  ﴾[4]، والمعروف ما عُرف حُسْنُه شرعًا وعقلًا، والمُنْكَر ما عُرف قُبحه شرعًا وعقلًا.

 

والفلاحُ الحاصلُ بإنكارِ المنكَر، والأمرِ بالمعروف هو: أمرٌ يُنال في الدنيا وفي الآخرة، صلاح في الدنيا، وفوز بالجَنَّة في الآخرة.

 

والأمر يبدأ أولًا مِن داخل البيوت التي هي لَبِناتُ المجتمع، ويمتدُّ إلى كل شرائح المجتمع، فلو عُوِّد الأبناءُ الحياءَ، وزُرِع في نفوسِهم، لتَمَكَّن مِن أفعالهم، وهَذَّب سُلُوكهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بِخَيْر» [5]، وإنه لَمِن أهمِّ الخصال التي تؤدِّي إلى الاستقامة، ونبْذ المعصية، وترْك كل منكَر قبيح.

 

فليت الأجيال تعُود إلى ذلك الحياء، الذي يَمنع الأبناءَ مِن ارتكاب أيِّ فعلٍ منقودٍ مِن قِبَلِ المجتمع، إذًا لصِرْنا بخير، وكما يقال: "كَبيرُ الحظِّ مَنْ حافظ على نفسه مِن المنقود".

 


[1] البيت من الشعر النبطي "الشعبي".

[2] التعزير المقصود هنا هو: دفْع مبلغ مالي مُحَدَّد، يُقرِّرُه غالبًا الشيخُ أو العمدة.

[3] صَحَّحه الألباني، "صحيح أبي داود"، 4797.

[4] [آل عمران: 104].

[5] رواه البخاري - الجامع الصحيح - 6117.

______________________________________________________
الكاتب: شريفة الغامدي

  • 1
  • 0
  • 856

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً