المؤمن والنخلة والنحلة
ففي التشبيهين إجمال لصفات عدة يحظى بها المؤمن، وإن حظيت بها مجتمعاتنا اليوم وزرعنا مقصد رسول الله ﷺ في نفوس أبنائنا، فهلم بنا نصعد عالياً نحو الغمام نعطي الإنسانية من ثمارنا وصلاحنا وننعم بعيش رغيد في ظل خليتنا الإسلامية.
في كتاب الله تعالى نجد من الأمثال ما فيه الإيضاح لزيادة الفهم وتوسيع المدارك لدى الإنسان، فمن دقة التشبيه وفصاحة البيان يفهم المجتمع المؤمن صفاته التي ينبغي أن يتحلى بها، وقد قال الله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]، وكذلك فقد اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب التشبيه في تربية الأمة فهو: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣، ٤]، وكان من أدق التشبيهات التي وردت في الأثر النبوي التربوي التعليمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبيهه للمؤمن بالنخلة والنحلة.
فقد جاء في الصحيحين عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار، - وهو قلب النخلة -، وفي رواية: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يأكل جماراً، فقال صلى الله عليه وسلم : «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي»؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت. وفي رواية ابن عوانة: فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتي به. وفي رواية: فأردت أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم. وفي رواية: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم - يعني أصغرهم سناً -، وفي رواية: فرأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: «هي النخلة». فلما قمنا حدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا.
فبهذا الحديث الشريف ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً له عميق فكر في العقل والنفس ما إن تفكرنا في طبيعة النخلة وطبيعة المؤمن الموحد المتبع لمنهج الله تعالى، فنجد أن الترادف والتشابه قد وقع في خصائص المشبه والمشبه به، نجمله في النقاط التالية:
أولاً: ورق النخلة لا يسقط ويبقى يانعاً يافعاً وكذا المؤمن لا تسقط له دعوة ولا ثوابت.
ثانياً: جعل الله تعالى في ثمار النخلة وورقها المنفعة في كل وقت ومكان تكون فيه، فالورق تغطى به الأسقف والثمر يؤكل رطباً وتمراً ويخزن إلى أوقات السنة، والمؤمن ينتفع بكلامه وسمته وحركاته ومظهره طيلة حياته وأينما حل، وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24، 25]، «فالنخلة دائمة النفع ونفع المؤمن لا ينقطع أيضاً.
ثالثاً: النخلة طيبة في حياتها نافعة وكذلك في مماتها ففي حياتها نجني الثمر ونأخذ الورق والليف..إلخ، وفي مماتها تكون أخشابها حطباً ويأخذ من قلبها الجمار فيأكل وما إلى ذلك من استخدامات، والمؤمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله تعالى ويصلح في الأرض فإن مات يظل أثره الطيب من عمله الصالح وعلمه والخير الذي قدمه وسيرته الحسنة التي تبقى في الأرض كما سير الأنبياء والصحابة والصالحين، وكذلك يبقى أولاده الذين رباهم على الكتاب والسنة ينشرون الخير من بعده ويستفاد أيضاً من ماله الحلال الذي اكتسبه فيقسم على ورثته أو من أوقافه التي أوقفها فيظل ريعها يؤخذ لنفع المجتمع.
رابعاً: مظهر النخلة وهي ثابتة شامخة تواجه الرياح العاتيات كالمؤمن الثابت الشامخ الذي لا تهزه أعتى الفتن والمحن، وثبات المؤمن وتمسكه بعقيدته كالنخلة في رسوخ جذورها في جوف الأرض يصعب اقتلاعها.
خامساً: قال الشاعر:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً *** بالطوب يرمى ويرمي أطيب الثمر
والمؤمن مترفع على دناءة الأخلاق، فنفسه كريمة سمحة لا تقبل الإيذاء، تبذل الإحسان أمام الإساءة.
أما القبس الثاني الذي أخذناه من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهو النحلة وتشبيهها بالمؤمن، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمن مثل النحلة إن أكلت أكلت طيباً، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره»، فالنحلة مخلوق فطره الله تعالى على السعي خلف الطيب فلا نجده يقع على الأقذار والمؤمن يتحرى الطيب والحلال ولا يأكل إلا حلالاً ولا يكسب إلا حلالاً خالصاً من حرام ومن أي شبهة كانت كما لمسنا ذلك في سير الصالحين، وكما أن النحلة في تنقلها من زهرة لزهرة مثل المؤمن في سعيه نحو الاستزادة من الخير فيتنقل ويسعى طالباً للعلم وما يعينه على تفتيح عقله وزيادة روحه حلاوة وإيماناً، والنحلة بنقلها اللقاح بين الشجر وما ينتج عنه من ديمومة الثمر والبركات كالمؤمن في سيره في كل أرجاء الأرض يبلغ رسالات الله تعالى، والنحلة كما أخبر ربنا - سبحانه وتعالى - ذات شفاء: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ} [النحل: 69]، والمؤمن بكلامه المستنبط من الشريعة وتوجيهه الناصح لإخوانه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر هو شفاء للحيران وتذكرة للغافل ومواساة للمهموم، وأيضاً نجد أن النحل بطبيعته متماسك مترابط كمثل المجتمع المسلم الذي ينبغي له الوحدة والتآخي، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد»، فالمؤمن إذا ما تماسك مع إخوانه فإن شوكة الإسلام تقوى ويصبح الدفاع عنها أكثر فاعلية كما دفاع النحل عن خليته وهجومه على كل اعتداء بشكل جماعي، ومن اللافت في هذا التشبيه البليغ قلة مؤونة النحل وكثرة عطائه فالمؤمن قليل الطعام قليل الأخذ كثير البذل والعطاء.
والنحلة كما قال صلى الله عليه وسلم : «إن وقعت على عود نخر لم تكسره»، والمؤمن خفيف الظل متواضع غير متكبر أو متعالٍ.
ففي التشبيهين إجمال لصفات عدة يحظى بها المؤمن، وإن حظيت بها مجتمعاتنا اليوم وزرعنا مقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أبنائنا، فهلم بنا نصعد عالياً نحو الغمام نعطي الإنسانية من ثمارنا وصلاحنا وننعم بعيش رغيد في ظل خليتنا الإسلامية.
_______________________________________________
الكاتب: محمد البحيصي
- التصنيف:
- المصدر: