الجوع الكاذب
عزيزي، ألم أخبرك أن جوعنا كاذب، وأننا إلى الآن لم نعرف الجوع الحقيقي؟ لو جُعنا، لشعرنا بآلام الجوعى، وأطفأنا لهيب بطونهم بكِسْرة خبز، لو جُعنا لتقطَّعَتْ قلوبُنا حزنًا، وبكينا دمًا على فقرائنا!
منذ نعومة أظفارنا عَلَّمُونا أن نهربَ من الجوع، وأنه قد يتسبَّب في موت أحدِنا؛ لذا عندما يعود أحدُنا من عمله يصيح: "أنا جوعان"، وإذا خرج للنُّزهة سويعاتٍ قليلةً عاد يصرخ: "أنا جوعان"، وبعد تناوُل آخر وجبة طعام بسويعاتٍ قليلة يصرخ ويقول: "أنا جوعان، أكاد أموت جوعًا"، أو كما يقولون: "غنَّتْ عصافيرُ بطني جوعًا".
أقول لك: آسف يا عزيزي، لقد كنا مخدوعين! لماذا نحن مخدوعون؟ لأننا لم نعرف الجوع الحقيقي! حقًّا، لم نعرف من الجوع إلا اسمَه! هذا يا عزيزي ليس جوعًا حقيقيًّا! إذن فما الجوع الحقيقي؟
يبدأ الشعور بالجوع بعد آخر وجبة طعام بساعتين؛ ولكنه جوعٌ كاذبٌ! لأن هذا الشعور سببه نقص هرمون اللبتين، وهو مجرد شعور بالحاجة للطعام؛ أي: فتح شهيتك للطعام، وزيادة قابلية المعدة للتلذُّذ بأشهى المأكولات، وليس جوعًا حقيقيًّا! أما آلام الجوع الحقيقي، وتقلُّصات المعدة، فلا تحدث عادةً إلا بعد 12 إلى 24 ساعةً من آخر وجبة طعام، وهذا الشعور يزداد أكثر مع نقص السُّكَّر في الدم، وتصل هذه التقلُّصات وتلك الآلام القاتلة إلى ذروتها بعد 3 إلى4 أيامٍ.
الجوع الحقيقي هو الجوع الذي يُمزِّق الأمعاء تمزيقًا، فلا تُغنِّي عصافير البطن؛ بل تشعر وكأن كلبًا ينهش في أحشائك نَهْشًا!
الجوع الحقيقي الذي يجعل المرء حين يمشي في الشارع أو الزقاق لا ينظر إلى ما حوله أو أمامه؛ وإنما ينظر إلى الأرض وحدها، لماذا؟ لعلَّه يعثر على كِسْرةِ خُبْزٍ، أو حبة فاكهة، أو عظمة! فإذا وجد قطعةَ خبزٍ أو فاكهة عطِنة زهدت فيها الكلاب، أسرَعَ إلى التقاطها!
ولكي تعرف الفرق بين الجوع الحقيقي والجوع الكاذب انتبه إلى هذه الكلمات.
مرَّتْ سيارةُ إحدى السيدات الموسِرات بجوار كوخٍ حقير، في هذا الكوخ امرأة شاحبة اللون، ناحلة الجسد، حولها أطفالها يرتدون ملابسَ باليةً، يتضوَّرون جوعًا ويبكون؛ لأنهم لا يجِدون ما يأكلون، ويرتجفون من شِدَّة البرد! فأسرعت السيدة إلى قصرها، وأصدرت أمرها إلى أحد الخَدَم أن يجمع ما يلزم من الزاد والملابس، لماذا؟ ليحمله إلى ذلك الكوخ، ويُعطيه إلى تلك المرأة وصغارها!
دخلت السيدة إلى مخدعها، وقد أُشعلت فيه المدفأة، وأحضروا لها ما لذَّ وطابَ من المأكولات، فأكلت هنيئًا مريئًا، وسرى الدِّفْء في جسمها، وهنا أسرعت فقرعت الجرس، فأتى الخادم على الفور، فقالت للخادم: لا حاجة إلى حمل الزاد والملابس إلى المرأة وصغارها، فقد دفئ الجوُّ وسكن الجوع! يا الله! دفئتْ فظنَّت المقرورين قد دفِئوا، وشبعت فتوهَّمَتِ الجياعَ قد شبعوا.
عزيزي، ألم أخبرك أن جوعنا كاذب، وأننا إلى الآن لم نعرف الجوع الحقيقي؟ لو جُعنا، لشعرنا بآلام الجوعى، وأطفأنا لهيب بطونهم بكِسْرة خبز، لو جُعنا لتقطَّعَتْ قلوبُنا حزنًا، وبكينا دمًا على فقرائنا!
إننا نرتكب جُرْمًا، إذا تركنا إخواننا الفقراء جوعى، ويزداد جُرْمنا عندما نجد مَنْ يموت بيننا جُوعًا! إنَّ أشدَّ أنواع الموت هو الموت جوعًا، فلماذا يا تُرى؟ لأن صاحبه يفقد الحياة ببطءٍ شديد، وكل يومٍ يمرُّ عليه يزداد ألمُه، ويشتدُّ وجَعُه، وتَهِنُ قوَّتُه، ويهزل جسدُه، ويفقد ماء الحياة حتى يتلاشى!
زار الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بلادَ الشام والمجاعة تطحنها بسبب الحرب، فكان مما كَتَب: "وميتةُ الجوع شَرٌّ من ميتة القتل في الحرب، فإن أكثر الذين يُقتلون في الحرب هذا الزمان تُزهَق أرواحُهم في طرفة عين بغير ألمٍ يُذكَر، وأما موتى الجوع فلا يموتون إلا بعد آلام بدنية ونفسية شديدة طويلة الأمد، فيهزلون ويضوون أولًا من قلة الغذاء، ثم بفقده، حتى إذا ما وَهَت قواهم الحيوية، وضعف تماسُك عضل أبدانهم، دبَّ فيها الورم كما يدبُّ في جثث الموتى، ومنهم مَن يُصاب قبل ذلك بالكلب، أو ما يشبهه، ومن يعتريهم الجنون والعياذ بالله تعالى، ولا فائدة الآن في إطالة وصف هذا الرجز الأليم".
أخي الكريم، هل شعرت الآن بخطورة الجوع؟ هل عرَفتَ خطورة الجوع على المساكين والفقراء؟
إن الجوع إذا تملَّك من الإنسان جعله كالوحش يفترس كُلَّ شيءٍ! اقرأ التاريخ إن شئت، لقد ذُهلت وكدْتُ لا أصدِّق، لولا أن الكلام مسطور في الكتب، هل علمتَ يا عزيزي من قبل أن الجوع جعل الإنسان يأكل الصراصير والقِطَط والكِلاب! هل علمتَ أن الجوع جعل الناس تأكل بعضها بعضًا! فالأُمُّ الرحيمةُ أكلَتْ صِغارَها، والرجلُ أكل زوجتَه، والزوجةُ أكلَتْ زوجَها، ويقتتل الرجلان فيأكل القاتلُ لحمَ المقتول! هل علمت أن الجوع جعل الناس تنبش القبور وتأكل الموتى!
معذرةً يا أخي، فأنا لا أستطيع أن أكمل كلماتي! ولا تعجل في حكمك على كلماتي أنها ضربٌ من الخيال، فإن هذه الكلمات لا شيء مما كُتب عن المجاعات والجوع في الكتب، ولا تعجب! فإن الجوع قد يقود المرء إلى الكُفْر! ولا أدري كيف نمنع الطعام عن إخواننا ونتلذَّذ به والجوع يقتلهم قتلًا؟! فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كانَ له فَضْلُ مَاءٍ بالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيل...»؛ (صحيح البخاري).
ودخلت النارَ امْرأةٌ في هِرَّةٍ، حبستها فلم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فكيف ببني آدم؟! وكيف بمسلم له حرمة وولاء وأخوَّة ونصرة؟!
قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى: فإذا وجدنا إنسانًا جائعًا وجب علينا جميعًا أن نُطعمه، وإطعامه فرض كفاية إذا قام به مَن يكفي سقط عن الباقين، فإن لم يقُمْ به أحدٌ تَعيَّن على مَن عَلِمَ بحالِه أن يُطعمَه، وكذلك أيضًا كسوة العاري وهو فرض كفاية؛ (شرح رياض الصالحين).
ودخلت الجنة بغيٌّ من البغايا بسُقيا كلب، رأت المرأة هذا الكلب يقف بجوار البئر، وقد أخرج لسانه يلهث من العطش، فوقعت الرحمة في قلبها ورقَّت لحاله؛ فنزعت خُفَّها، وربطته بغطاء رأسها؛ لتجلب الماء من البئر، وتسقي الكلب، فشكر الله صنيعَها، فغفر لها.
وغفر الله لرجل سقى كلبًا يلهث من العطش، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينَما رجلٌ يمشي بِطريقٍ اشتَدَّ بهِ العَطشُ، فوجدَ بئرًا فنزلَ فيها، فشرِبَ ثمَّ خرجَ، فإذا كلبٌ يلهَثُ، يأكُلُ الثَّرَى من العَطشِ! فقال الرَّجُلُ: لقد بلغَ هذا الكلبُ من العَطشِ مِثلَ الَّذي كان بلغَني، فنزلَ البِئرَ فملأَ خُفَّهُ ثمَّ أمسكَه بفِيه فسَقَى الكلبَ فشكرَ اللهُ لهُ، فغَفرَ لهُ»، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وإنَّ لنا في البهائمِ أجرًا؟قال: «في كُلِّ كَبِدٍ رطبَةٍ أجرٌ»؛ (البخاري ومسلم).
• رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يملأ الحياض بالماء ليسقي إبله، فتأتي الإبل التائهة فتشرب من حياضه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: فَهَل لي من أجرٍ إنْ سَقيتُها؟ قالَ: «نعَم، في كلِّ ذاتِ كبدٍ حَرَّى أجرٌ»؛ (صحيح ابن ماجه).
فإذا كان الأجر العظيم في إطعام الطير والحيوان، فكيف بمَن أطعم إنسانًا؟ وكيف بمَن أطعم أفواهًا جائعةً؟ وكيف بمَنْ أنقذ نفسًا من الموت بكِسْرة خُبْزٍ؟ {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة: 32].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذَرٍّ، إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جِيرانَكَ»؛ (صحيح مسلم).
لماذا يُكْثر مرقها؟ ليُعطي جيرانه، فلربَّما كان جارُكَ يتيمًا أو أرملة أو مسكينًا، فيشَم رائحة لحمك؛ فيغتم ويحزن لحرمانه! وربما كان جارُك يبيت يتألَّم من شدَّة الجوع وأنت لا تدري؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما آمَنَ بي مَن باتَ شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به»؛ (صحيح الجامع).
أخي الحبيب، إن كان النبي نفى الإيمان الكامل عن الذي يبيت شبعان وجاره جائع، فكيف بمَن يَقتل الجوع إخوانهم بينهم؟!
__________________________________________________
الكاتب: محمد ونيس
- التصنيف: