وقفة مع الشتاء

منذ 2022-12-02

قال ﷺ: «اشتكت النَّارُ إلى ربَّها، فقالت يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشِّتاء، ونفس في الصَّيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزَّمهرير»

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «اشتكت النَّارُ إلى ربَّها، فقالت يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشِّتاء، ونفس في الصَّيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزَّمهرير»؛ (رواه البخاري)، والمراد بالزمهرير: شدة البرد.

 

هذا الحديث يخبرنا عن أمرٍ من الأمور الغيبية التي لا تعرف إلا عن طريقِ الوحي، ولا شك أنَّ شدة الحر والبرد لهما أسبابٌ طبيعية يعرفها أهلُ الهيئة والفلك والطبيعة ونحوهم، ووجودها بأسبابها من تمام حكمة الله - عزَّ وجلَّ - وبيان أنه - سبحانه وتعالى - خلق الخلقَ على أكمل نظام، وليس هناك مانعٌ أبدًا من أن يكونَ ذلك مصاحبًا لما ورد من نحو هذه الأمور الغيبية.

 

كما أنَّ هذا الحديث يُخبرنا أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد أعذر إلى النَّاس؛ إذ به يلزمهم تذكر الآخرة، وتذكر النَّار، ولا يقتصرُ هذا على فصلٍ من الفصول، لا، بل يستوي فيه الصيفُ والشتاء، فأشد ما نجدُ من الحرِّ ما هو إلاَّ نفس من أنفاس جهنَّم، وأشد ما نجد من البردِ أيضًا ما هو إلاَّ نفس من أنفاس جهنم، ولفظ الترمذي: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «فأمَّا نفسها في الشتاءِ فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسَمُوم».

 

إذا عُلم ذلك، وجب نسبةُ كلِّ أمرٍ من أمور هذا الكون الفسيح إلى الله - عزَّ وجلَّ - ليرتاح عقل المرء، وإلا وقع في حيرةٍ واضطراب، وجرى وراء تلك الدعاوى الزائفة والكهانات الباطلة التي تتبادرُها كثيرٌ من وسائلِ الإعلام؛ من نحو هلاك العالم بمُذنَّبِ كذا، أو بنجم كذا، في وقت كذا وكذا، وما أقرب أن يبين زيف كل دعوة من هذه الدعاوى!

 

عن زيد بن خالد الجهني، قال: صلَّى بنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلاةَ الصبح بالحديبية في إثرِ السَّماءِ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على النَّاسِ، فقال: «هل تدرون ماذا قال ربُّكم» ؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فأمَّا من قال: مطرنا بفضلِ الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافر بالكوكب، وأمَّا من قال: مطرنا بنَوْء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب».

 

قال ابنُ حجر: "يُحتمل أن يكونَ المرادُ بالكفرِ هنا كفر الشرك بقرينةِ مقابلته بالإيمان...، ويحتمل أن يكونَ المرادُ به كفر النعمة...، وفي روايةِ أبي هريرة  - رضي الله عنه - عند مسلم: «قال الله: ما أنعمتُ على عبادي من نعمةٍ إلا أصبح فريقٌ منهم كافرين بها»، وعلى الأول حمله كثير من أهلِ العلم، وأعلى ما وقفتُ عليه من ذلك كلام الشافعي، قال في "الأم": (من قال: مُطرنا بنَوْء كذا وكذا؛ على ما كان بعضُ أهل الشرك يعنون من إضافةِ المطر إلى أنه مطر نوء كذا، فذلك كفرٌ، كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ النَّوْء وقتٌ، والوقت مخلوق لا يملكُ لنفسِه ولا لغيره شيئًا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقتِ كذا، فلا يكون كفرًا، وغيره من الكلامِ أحب إلي منه)؛ يعني حسمًا للمادة، وعلى ذلك يحملُ إطلاق الحديث".

 

فانظر إلى ورعِ الشافعي - رحمه الله - وحرصه على مخالفةِ أهل الجاهليةِ حتى في اللفظ.

 

فالله - عزَّ وجلَّ - هو الذي خلق الخلقَ، وقدَّره على هذه الهيئةِ الجليلة المهيبة، يقول العلامةُ ابنُ القيم - رحمه الله - في "مفتاح دار السعادة":

"ثم تأمَّلْ بعد ذلك أحوال هذه الشمسِ في انخفاضِها وارتفاعها لإقامةِ هذه الأزمنة والفصول، وما فيها من المصالحِ والحكم، إذ لو كان الزمانُ كله فصلاً واحدًا لفاتت مصالحُ الفصولِ الباقية فيه، فلو كان صيفًا كله لفاتت منافعُ مصالح الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصَّيفِ، وكذلك لو كان ربيعًا كله أو خريفًا كله.

 

ففي الشتاء: تغورُ الحرارة في الأجوافِ وبطون الأرض والجبال، فتتولَّد موادُ الثمار وغيرها، وتبرد الظَّواهرُ ويستكثف فيه الهواء، فيحصل السحابُ والمطر والثلج والبرد، الذي به حياةُ الأرض وأهلها، واشتدادُ أبدانِ الحيوان وقوتها، وتزايدُ القوى الطبيعية، واستخلاف ما حلَّلته حرارةُ الصيف من الأبدان.

 

وفي الربيع: تتحرَّكُ الطبائعُ، وتظهر الموادُّ المتولدة في الشتاءِ، فيظهر النباتُ، ويتنور الشجر بالزهرِ، ويتحرك الحيوانُ للتناسلِ.

 

وفي الصيف: يحتد الهواءُ ويسخن جدًّا، فتنضج الثمارُ وتنحل فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في الشتاءِ، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيونُ والآبار ولا تهضم المعدةُ الطعام التي كانت تهضمُه في الشتاءِ من الأطعمةِ الغليظة؛ لأنَّها كانت تهضمها بالحرارةِ التي سكنت في البطون.

 

فلما جاء الصيفُ خرجت الحرارةُ إلى ظاهرِ الجسد، وغارت البرودةُ فيه.

 

فإذا جاء الخريف: اعتدل الزَّمانُ، وصفا الهواء وبرد، فانكسر ذلك السَّموم، وجعله الله بحكمتِه برزخًا بين سموم الصيف وبرد الشتاء؛ لئلا يتنقل الحيوانُ وهلةً واحدة من الحرِّ الشديد إلى البرد الشديد، فيجد أذاه ويعظم ضرره، فإذا انتقل إليه بتدريجٍ وترتيب لم يصعب عليه، فإنه عند كلِّ جزء يستعد لقَبولِ ما هو أشد منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول، حكمة بالغة وآية باهرة، وكذلك الربيعُ برزخ بين الشتاءِ والصيفِ، ينتقلُ فيه الحيوانُ من بردِ هذا إلى حرِّ هذا بتدريج وترتيب، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين".

 

وإذا أردنا أن نعتبرَ من هذا الشتاء، هلعنا إلى كتابِ ربنا لننظر ما حوى من مواعظ في هذا الأمر.

 

مطر الرحمة ومطر العذاب:

لما نظرتُ في المعجم المفهرس لألفاظِ القرآن حول مادة مطر، رأيت أنَّ هذه الكلمةَ ومشتقاتها ما جاءت إلا في العذاب - سوى آية واحدة، وهي لا تخلو من معنى التأذي بالمطر؛ وهي قوله - تعالى -: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء : 102]، (فحمل السِّلاحِ حال الحرب واجبٌ إلا من عذر، وقد ذكر الله طرفًا من هذا العذرِ في الآيةِ الكريمة؛ أي: إذا أصابكم أذًى من مطرٍ تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاحِ مع ثقله في ثيابِكم، وربما أفسدَ الماءُ السِّلاحَ؛ لأنَّه سبب الصدأ، فحمل السلاح في هذه الحالة يشق)؛ المنار والظلال.

 

غير هذا الموضع، كلُّ كلمةِ مطر جاءت تحملُ معنى عذاب الأمم، فعذاب أمم كثيرة سابقة كان بالإمطار، وإذا كان مطرًا فلا تسَل: هل هو مطر ماء أو حجارة أو غيرها، المهم أنه مطرٌ يأمر الله السماءَ أن تمطرَه:

 

في قوم لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف : 84]، {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء : 173] [النمل: 58]، {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود : 82]، {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان : 40].

 

ومع أنَّ إهلاكَ قومِ عاد كان بالريح الشديدة، سماها القرآن مطرًا: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف : 24-25]، وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا رأى مخيلة - وهو السَّحابُ الذي يخال فيه المطر - أقبل وأدبر وتغيَّرَ وجهُه؛ عن عائشةَ - رضي الله عنها - زوج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: "ما رأيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم"، قالت: "وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف في وجهِه"، قالت: "يا رسولَ الله، إنَّ النَّاسَ إذا رأوا الغيمَ فرحوا رجاء أن يكونَ فيه المطر، وأراك إذا رأيتَه عرف في وجهِك الكراهية!"، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ( «(يا عائشة، ما يؤمِّنُني أن يكونَ فيه عذاب؟ عُذِّب قومُ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا»؛ (البخاري) .

 

وقد كان الفيضانُ في زمنِ سيدنا نوح الذي مسح الوجود من على الأرض، وأنجى الله به نوحًا ومن معه من المؤمنين عبارة عن ماء من السَّماء والأرض: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر : 11-12].

 

وربما يأتي العذابُ بمنع القطر من السَّماء:

قال الله - تعالى -: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون : 18]، "يذكر - تعالى - نعمَه على عبيدِه التي لا تعدُّ ولا تُحصى، في إنزالِه القطر من السَّماءِ، {بِقَدَرٍ}؛ أي: بحسب الحاجة، لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار، بل بقدرِ الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به"؛ ابن كثير.

 

فهذا الماءُ جندٌ من أجنادِ الله، يعذِّبُ به من شاء وكيف شاء، ولو أمسكَه عن النَّاس ومنعهم منه لعذبَّهم.

 

وقال - سبحانه -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك : 30]؛ والغَوْر: هو الغائرُ في باطن الأرضِ الذي يصعبُ استخراجُه، بل ربما يستحيل، "حيث يغور الماءُ ولا يستطيع الإنسانُ له طلبًا، وهو ما عُرف في أميركا باسم: (الثقب الكبير)، أو (مخروط سَحب الماء الجوفي العظيم)، فقد غار الماءُ غورًا شديدًا في شمالِ ولاية اليونس الأميركية، ففي منطقةِ مترو شيكاغو، انخفض مستوى الماءِ الجوفي من 250 مترًا فوق مستوى سطحِ البحر إلى مستوى 30 مترًا تحت مستوى سطحِ البحر، وتكوَّنَ مخروط سَحب عملاق؛ بمعنى أنَّ الماء انخفض 280 مترًا عن وضعِه الأول، وفي السنواتِ العشر الأخيرة فقط انخفض المستوى 30 مترًا، ويعد هذا الانخفاضُ في مستوى الماء الجوفي شيئًا مدهشًا؛ لأنه في منطقةٍ رطبة يصيبُها قسطٌ وفير من ماء المطر"؛ بتصرف من مقالٍ للأستاذ: حسن حمدان؛ أستاذ الجيولوجيا بجامعةِ المنصورة، صحيفة الجمهورية بتاريخ 14 مارس 2002م، نقلاً عن بحثٍ في معجزاتِ الماء للشيخ محمد الحسيني، سلسلة البحوث الإسلامية، الأزهر الشريف.

 

يقولون: إنَّ من أسبابِ فشل مشروع توشكى هو الماء الغائر؛ إذ يصعبُ وجود مضخَّاتٍ مائية لسَحبِ الماء للأراضي من باطن الأرض.

 

أليس هذا الأمرُ يحتاجُ إلى توبة؟ إننا نتعاملُ مع جنود الله - عزَّ وجلَّ - التي لا تُقهر، روى ابنُ ماجه عن عبدالله بن عمر  - رضي الله عنهما - قال: أقبل علينا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: «يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ إذا ابتُليتم بهنَّ - وأعوذُ بالله أن تدركوهنَّ - ...، ولم يمنعوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنعوا القطر من السماءِ، ولولا البهائم لم يُمطروا».

 

لا بد من اليقينِ والثقة في شرعِ الله - عزَّ وجلَّ - لا يقتصر الأمرُ على الأسبابِ المادية وحدها، كفانا غفلة! إنَّ الإسلامَ لا يعرف لأتباعِه هذه الأمورَ السطحية المجرَّدة البعيدة كل البعد عن شرعتِه الرَّبانية، فما أحوجَنا إلى أن ننعمَ ببركاتِ الله سبحانه! لو عُدنا إلى شريعتِه.

 

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «حدٌّ يعمل به في الأرضِ خيرٌ لأهلِ الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحًا»؛ [الصحيحة: 231].

 

ألم نقنعْ بعد بقدرةِ الله - عزَّ وجلَّ؟! قال الله - تعالى -: {...فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم : 48 - 50]؛ ومبلسين أي: شاكين في نزولِه.

 

في هذه الآيةِ نداءٌ إلى وجوبِ استشعار أثرِ رحمة الله سبحانه، وقدرته على إجراءِ الماء وإنزال المطر، تقرؤها مع هذه الآية: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن : 16]؛ "والضميرُ يعودُ على القاسطين سواء أكانوا من الإِنسِ أم من الجن، والماءُ الغدق: هو الماءُ الكثير، والمراد: لأعطيناهم نعمًا كثيرة؛ أى: ولو أنَّ هؤلاء العادلين عن طريقِ الحقِّ إلى طريقِ الباطل استقاموا على الطريقة المثلى؛ التي هي طريق الإِسلام، والتزموا بما جاءهم به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من عندِ ربه، لو أنَّهم فعلوا ذلك، لفَتَحْنا عليهم أبوابَ الرِّزق، ولأعطيناهم من بركاتِنا وخيراتنا الكثير، وخص الماء الغدق بالذِّكر؛ لأنَّه أصل المعاش والسعة"؛ الوسيط.

 

حينها تعرفُ ما هو سببُ نزولِ المطر: الثقة في قدرةِ الله، واللجء إليه، والاستقامة على طريقتِه، وهذا واضحٌ في صلاةِ الاستسقاء.

 

جاء في "النجوم الزاهرة": أنه لما ولي عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مصر، أتاه أهلُها، فقالوا له: أيها الأمير، إنَّ لنِيلِنا عادةً أو سُنَّةً لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنَّه إذا كان في اثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر - يعني بؤونة - عمدنا إلى جاريةٍ بِكر من عندِ أبويها وأرضَيْنا أبويها وأخذناها، وجعلنا عليها من الْحُلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النِّيلِ فيجري، فقال لهم عمرو بن العاص: إنَّ هذا لا يكون في الإسلام، وإنَّ الإسلامَ يهدمُ ما كان قبله، فأقاموا بؤونةَ وأبيب ومسرى لا يجري النيل قليلاً ولا كثيرًا حتى هموا بالجلاء، فلمَّا رأى ذلك عمرو - رضي الله عنه - كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فكتب إليه عمر بن الخطاب: (قد أصبتَ؛ إنَّ الإسلامَ يهدمُ ما قبله، وقد أرسلنا إليك ببطاقةٍ ترميها في داخلِ النيل إذا أتاك كتابي)، فلمَّا قدم الكتابُ على عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فتح البطاقةَ فإذا فيها: (من عبدالله عمر أمير المؤمنين إلى نيلِ أهل مصر، أمَّا بعد، فإن كنتَ تجري من قِبلك فلا تجر، وإن كان اللهُ الواحد القهَّار الذي يجريك، فنسألُ اللهَ الواحد القهَّار أن يجريَك)، فعرفهم عمرو بكتابِ أمير المؤمنين وبالبطاقة، ثم ألقى عمرو - رضي الله عنه - البطاقةَ في النيل قبل يوم عيد الصليب بيوم، وقد تهيأ أهلُ مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقيمُ بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلةٍ واحدة، وقطع تلك السُّنة القبيحة عن أهلِ مصر ببركة دعاء سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه.

 

متى حصل هذا؟ لما أقاموا شرعَ الله - عزَّ وجلَّ - واستقاموا على طريقتِه الرَّبانية.

 

تتأمل ذلك وتتذكر ما يدورُ الآن من مفاوضاتٍ ومحاولات لأجل إقامةِ سدٍّ من قِبل بعضِ دول حوض النيل، ومطالبة مصر بإحصاء النسبة التي تستهلكُها من النِّيل لأجل أن تُصرفَ لها على قدر حاجتِها فقط، وتصبح مصر مهددة بين عشيةٍ وضحاها!

 

هل نكونُ مبالغين إذا قلنا: إنه لو قدَّر الله أمرًا، فلن يستطيعَ أحدٌ أن يحولَ بينه وبين إجرائه؟!

 

إنَّ المسألةَ لا تحتاجُ إلى كثيرٍ من الإستراتيجيات أو الأيديولوجيات أو السياسات أو المفاوضات أو أوراقِ العمل أو شيئًا من هذه المصطلحات الإعلامية الضخمة المحدثة، إنها مسألةُ إيمانٍ بقدرة الله - عزَّ وجلَّ - وثقة في شريعتِه، ومن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، ألا تلحظُ أنَّ هذا كان مبدأ عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب  - رضي الله عنهما - في هذه الواقعة؟

 

الشَّاهدُ أنَّ هذا الماء جندٌ من أجنادِ الله سبحانه لا يجري بقدرتِه إنما بقدرة الله سبحانه، وكم من سدودٍ وحدود لم تُغْن عن أصحابها شيئًا!

 

أودُّ أن أختمَ بهاتين الكرامتين لبيانِ أنَّ الاستقامة على أمر الله ورسوله، من أعظمِ أسباب التأثير على الأمور الملموسة المادية:

• روى ابنُ ماجه في سننِه ضمن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى، قال: "كان أبو ليلى يسمرُ مع علي بنِ أبي طالب - رضي الله عنه - فكان يلبسُ ثيابَ الصَّيفِ في الشتاء وثيابَ الشتاءِ في الصيف، فقلنا لو سألتَه، فقال: إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - بعث إليَّ وأنا أرمد العين يوم خيبرٍ، قلت: يا رسولَ الله إنِّي أرمدُ العين، فتَفَلَ في عيني، ثم قال: «اللهمَّ أذهبْ عنه الحرَّ والبرد»، قال: فما وجدتُ حرًّا ولا بردًا بعد يومئذ".

 

• وعن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: "كنَّا عند حذيفة فقال رجلٌ: لو أدركتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قاتلتُ معه وأبليتُ، فقال حذيفة: أنت كنتَ تفعلُ ذلك؟ لقد رأيتُنا مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليلةَ الأحزابِ، وأخذتنا ريحٌ شديدة وقُر - برد - فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ألا رجلٌ يأتيني بخبرِ القوم جعله الله معي يوم القيامة» ؟، فسكتنا فلم يجبْه منَّا أحدٌ، ثم قال: «ألا رجلٌ يأتيني بخبرِ القوم جعله الله معي يوم القيامة» ؟، فسكتنا فلم يجبه منَّا أحد، ثم قال: «ألا رجلٌ يأتيني بخبرِ القوم جعله الله معي يوم القيامة» ؟، فسكتنا فلم يجبه منَّا أحد، فقال: «قمْ يا حذيفة فأتِنا بخبرِ القوم»، فلم أجدْ بدًّا إذ دعاني باسمي أن أقومَ، قال: «اذهب فأتني بخبرِ القوم، ولا تذعرْهم عليَّ»، فلمَّا وليتُ من عنده، جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيتُ أبا سفيان يصلي ظهره بالنَّارِ، فوضعتُ سهمًا في كبدِ القوس، فأردتُ أن أرميَه، فذكرتُ قولَ رسولِ الله: «ولا تذعرْهم علي»، ولو رميتُه لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام[1]، فلمَّا أتيتُه فأخبرته بخبرِ القوم وفرغت قُرِرت - بردت - فألبسني رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من فضلِ عباءة كانت عليه يصلِّي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحتُ، فلمَّا أصبحت، قال:  «قمْ يا نومان»".

 

إنها ليست مكاشفة ولا مماطلة ولا مماحلة؛ ولكنَّه إيمانٌ باللهِ جلَّ ذكرُه.

 


[1]- لم يجد البرد الذي يجده النَّاسُ، ولا من تلك الريحِ الشديدة شيئًا، بل عافاه الله منه ببركةِ إجابته للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذهابه فيما وجهه له، ودعائه - صلَّى الله عليه وسلَّم - له، واستمرَّ ذلك اللطفُ به ومعافاته من البردِ حتى عاد إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا عاد ووصل، عاد إليه البردُ الذي يجدُه النَّاس.

_____________________________________________

الكاتب: مصطفى إبراهيم رسلان

  • 8
  • 0
  • 2,020

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً