استراتيجية اليابان العسكرية الجديدة.. وعواقب خروج المارد من القمقم
تخلت اليابان عن استراتيجيتها العسكرية السلمية لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وصكت لنفسها استراتيجية عسكرية وأمنية جديدة، فما عواقب خروج المارد الياباني من القمقم؟
تخلت اليابان عن استراتيجيتها العسكرية السلمية لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وصكت لنفسها استراتيجية عسكرية وأمنية جديدة، فما عواقب خروج المارد الياباني من القمقم؟
لمعرفة إجابة هذا السؤال لابد من أن نرجع لذاكرة السياسة ألا وهي أحداث التاريخ، ولاشك أن مراحل التاريخ المختلفة شهدت صراعًا أزليًا بين اليابان والصين للهيمنة على منطقة شرق آسيا ولكن إذا وصلنا إلى مرحلة القرن الـ19م نجد أنه في عام 1894 نشبت حرب بين اليابان والصين وبانتصار اليابان في هذه الحرب برزت اليابان كقوة كبرى في آسيا في الحقبة الحديثة، وبسببها تنازلت الصين عن شبه جزيرة كوانتونغ لليابان وجرى توقيع معاهدة شيمونوسيكي في 17 أبريل 1895، وذلك رغم أن الصين أكبر من اليابان في المساحة وفي عدد السكان وفي الموارد الطبيعية.
وفي الفترة 1904-1905 سحقت اليابان روسيا القيصرية في حرب شرسة وأجبرتها على توقيع معاهدة بورت سموث التي كرست هيمنة اليابان على الشرق الأقصى واحتلت اليابان بموجبها كوريا وأجزاء من منشوريا والنصف الجنوبي من جزيرة سخالين رغم أن روسيا أكبر من اليابان في المساحة الجغرافية والموارد الطبيعية.
وفي الحرب العالمية الأولى (1914-1918) انضمت اليابان للحلفاء ضد ألمانيا وامبراطورية النمسا واجتاحت المستعمرة الألمانية في الصين واستولت عليها، وكانت اليابان وقتها أول دولة في العالم تشن غارات جوية تنطلق من حاملة طائرات وذلك في شرق آسيا، كما أرسلت أسطولاً بحريًا إلى البحر المتوسط قدم الدعم والمساندة لحليفتها بريطانيا بطول البحر المتوسط كله من شرقه إلى غربه.
وفيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية اتجهت اليابان للتوسع في منشوريا عام 1931 ثم منغوليا الداخلية عام 1936، ثم جيهول عام 1933، ثم الصين عام 1937.
وانضمت الإمبراطورية اليابانية عام 1940 للحرب العالمية الثانية (1939-1945) متحالفة في ذلك مع دول المحور (ألمانيا وإيطاليا) وسحقت اليابان الصين واحتلت معظمها لعدة سنوات، كما احتلت اليابان معظم جنوب شرق آسيا بما في ذلك كوريا والفلبين وهونج كونج وأجزاء واسعة من الهند وغيرها.
ورغم هزيمة ألمانيا حليفة الإمبراطورية اليابانية في الحرب العالمية الثانية واستسلامها فإن اليابان لم تستسلم إلا بعد أن قصفتها الولايات المتحدة بقنبلتين نوويتين ليصبح اول قصف نووي في تاريخ البشرية وذلك بقصف هيروشيما ونجازاكي في أغسطس 1945، ودفع هذا القصف النووي إمبراطور اليابان "هيروهيتو" لإعلان استسلام اليابان في 15 أغسطس 1945.
وبعد الدمار الرهيب الذي حدث لليابان في الحرب العالمية الثانية واستسلامها للولايات المتحدة الأمريكية نهضت اقتصاديًا وتكنولوجيًا ووطنت التكنولوجيا الحديثة بها وصارت حتى وقت قريب هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى أن أزاحتها الصين منذ سنوات قليلة عن هذه المرتبة الاقتصادية إلى المرتبة الثالثة لتصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم.
وكل هذا فإنما يدل على أن اليابان هي مارد الشرق الأقصى الذي أدخلته القنبلتين النوويتين على نجازاكي وهيروشيما إلى القمقم لمدة 77 عامًا وحتى عام 2022، حيث بدأت تحولات كبرى في العقيدة العسكرية والاستراتيجية الدفاعية والأمنية اليابانية وذلك خلال النصف الأخير من عام 2022، وتعتبر أبرز محطة لانطلاق هذه العقيدة والاستراتيجية العسكرية الجديدة لليابان هي المصادقة في 16 ديسمبر الماضي على تغييرات جذرية في سياسات التقيّد العسكري التي تتبعها اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتقضي هذه التغيرات بتحقيق القدرة على تنفيذ "هجوم مضاد" ليجعلها قادرة على شن هجمات على أراضي العدو الذي استهدفها.
ويمكن لمس المعالم الكبرى لهذه الاستراتيجية الدفاعية والأمنية الجديدة لليابان في:
* قرار رفع ميزانية اليابان العسكرية لتبلغ 315 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة بزيادة 57%.
* مضاعفة الإنفاق العسكري لدولة اليابان بحلول 2027 ليصبح 2% من الناتج القومي الياباني سنويا وهو ما يعادل نحو 80 مليار دولار في العام لتحتل بذلك المرتبة الثالثة على مستوى العالم في الانفاق على التسلح تالية في ذلك لكل من الولايات المتحدة والصين.
* توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع المملكة المتحدة تسمح بوجود جنود كل من البلدين على أراضي البلد الآخر بهدف الدفاع المشترك، مع التعاون الدفاعي في حال تعرض أي من البلدين لأي هجوم، وهي شبيهة باتفاقية دفاع مشترك موقعة بين اليابان والولايات المتحدة وكذلك أستراليا.
* التوافق مع المملكة المتحدة وإيطاليا على المشاركة في مشروع لتطوير أحدث طائرة مقاتلة في العالم، كي تدخل الخدمة في عام 2035، وهو أول مشروع مشترك في مجال الصناعة العسكرية بين الدول الثلاث.
* طلبت اليابان من الولايات المتحدة 500 صاروخ كروز توماهوك أرض-أرض، هو يتيح لليابان أن تصل إلى أهداف داخل كوريا الشمالية وفي البر الرئيسي للصين.
* دخل اليابانيون في مجموعة شراكات أمنية مع دول المنطقة من أستراليا إلى الهند.
* تدعو اليابان للمحافظة على "منطقة المحيطين الهندي والهادي حرة ومفتوحة"، وهذا أمر تدعو إليه الولايات المتحدة الأمريكية أصلاً.
* تكثف اليايان المناورات العسكرية في منطقة جنوب شرق آسيا بالاشتراك مع حلفائها خاصة الولايات المتحدة، كما كثفت التعاون العسكري والاستخباراتي مع كوريا الجنوبية رغم الخلافات العالقة بينهما.
وتأتي هذه التحولات في السياسات اليابانية الدفاعية والأمنية بسبب ما اعتبرته اليابان مخاطر جديدة أصبحت تهدد البيئة الإقليمية والدولية في المرحلة الراهنة لا سيما منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ قال رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا: "إن بيئة الأمن في العالم تمر بتغيير كبير، وأن ما يحدث في أوكرانيا اليوم قد تشهده آسيا غدًا".
وأكد أن "المحاولات أحادية الجانب لتغيير الوضع الراهن غير مقبولة"، مشيرًا إلى أن "السلام والاستقرار في تايوان مهمان للمجتمع الدولي".
ومن المؤكد أن هناك عدة أحداث دقت جرس الإنذار في عقول القادة اليابانيين ومنها إطلاق الصين وروسيا ست قاذفات ثقيلة بالقرب من اليابان في مناورة مشتركة في 24 مايو الماضي، في وقت كانت طوكيو تستضيف اجتماعًا للشراكة "الرباعية" بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، وفي أغسطس الماضي أطلقت الصين خمسة صواريخ على المنطقة الاقتصادية الخالصة اليابانية خلال سلسلة من التدريبات العسكرية بعد أن زارت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي الأمريكي تايوان، ثم في نوفمبر الماضي أرسلت روسيا والصين قاذفتين صينيتين ثقيلتين وطائرتين روسيتين فوق بحر اليابان، ودائمًا ما تختبر كوريا الشمالية صواريخ باليستية وتطلقها لتحلق فوق الأراضي اليابانية.
ولقد استثمرت اليابان كثيرًا في تقنيات الدفاع الجوي ضد الطائرات والصواريخ لكنها باتت تدرك الآن أن الدفاع وحده ليس كافيًا بل لابد من بناء قدرات الردع.
وكانت ردود الفعل متباينة من قبل القوى الإقليمية والدولية المتعددة تجاه التحولات اليابانية في سياسات الأمن والدفاع فبينما رحبت وشجعت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه التحولات فإن الصين وروسيا لم ترحبا بها، واتهمتا اليابان بالعودة إلى العسكرة التي هيمنت على الحكم فيها حتى عام 1945، وهو ما يسمونه "ماضي اليابان المظلم".
وإذا كانت هذه هي التحولات في العقيدة والاستراتيجية العسكرية لليابان وموقف الأطراف الدولية والإقليمية منها فما هو موقف الشعب الياباني اليوم من هذه التحولات؟
في الواقع إنه رغم وجود قدر من المعارضة من بعض شرائح الشعب الياباني للعقيدة العسكرية الجديدة لكن هذا يكاد ينحصر في الأجيال الأكبر سنًا، بينما تؤيد أغلبية أجيال الشباب العقيدة العسكرية اليابانية الجديدة، إذ عبر 90% من اليابانيين في استطلاع أجري في يونيو2022 عن اعتقادهم بأن بلادهم يجب أن تستعد لغزو صيني لتايوان، في حين أظهر استطلاع للرأي أن 75% من المستطلعة آراؤهم من الأعمار بين 18 و 29 يؤيدون زيادة الإنفاق الدفاعي لليابان، وأن أكثر من 60% من تلك الفئة العمرية فضلوا امتلاك اليابان القدرة العسكرية على الرد على العدو.
وأيًا كانت ردود الأفعال على هذه التحولات العسكرية اليابانية فلا شك أن المارد الياباني عاد اليوم للخروج من قمقمه بهذه الاستراتيجية العسكرية الجديدة وبتحريض من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وغيرهما من حلفائهما، فما هي عواقب خروج هذا المارد الياباني من القمقم؟؟
وهل يعود المارد الياباني لسيرته الأولى من التوسع الإمبريالي في شرق آسيا؟؟ أم أن هناك توجهات مختلفة للمارد الياباني في هذه المرة؟
يرى العديد من الخبراء الغربيين أن اليابان اليوم عضو موثوق به في المجتمع الدولي، لأنها دولة رائدة عالميًا في الحوكمة والتنمية والتقنية والفنون والثقافة، وحتى مع هذه التغييرات الأمنية والدفاعية الأخيرة، فإن سياستها الأمنية ستستمر ترتكز على التحالف الأمريكي الياباني، ولذلك فإنهم يرون أن اليابان بعيدة كل البعد عن شبح ماضيها العسكري الإمبريالي، معتبرين أنها تتفاعل فقط مع التهديدات الإقليمية المتصاعدة من حولها.
و لاشك أن اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت تحولات فكرية وحضارية واسعة صارت بها اليوم جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الغربية الأوروبوأمريكية فهي إن مارست إمبريالية أو هيمنة ما في بقعة ما فإنما ستمارسها على الطريقة الأوروبوأمريكية الحالية، ولاشك أن الطريقة الأوروبوأمريكية سعيها مشكور وذنبها مغفور وفق أعراف النظام الدولي الراهن.
عبد المنعم منيب
- التصنيف: