تأريخ الاختلاف وأنواعه في الإسلام
مما لا شك فيه أن الأصل في الناس الاختلاف، فالناس مختلفون في أشكالهم وألوانهم، وأطوالهم وأجسامهم وعقولهم وأفهامهم وقوتهم وضعفهم، وفقرهم وغناهم... إلخ، فهذه هي سنة الله في خلقه.
تأريخ الاختلاف:
لم يكن فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يؤدي إلى الاختلاف بالمعنى الذي ذكرناه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع الجميع بالاتفاق، فإذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في شيء ردُّوه إليه صلى الله عليه وسلم فبيَّن لهم وجه الحق فيه، وأوضح لهم سبيل الهداية[1]، وأمَّا الذين نزل بهم من الأمور ما لا يستطيعون ردَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لبُعْدهم عن المدينة المنورة، فكان يقع الاختلاف بينهم؛ كاختلافهم في تفسير ما يعرفونه من كتاب الله، أو سنة رسوله وتطبيقه على ما نابَهم من الأحداث، وقد لا يجدون في ذلك نصًّا؛ فتختلف اجتهاداتهم، هؤلاء إذا عادوا إلى المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه ما فهموه من النصوص التي بين أيديهم أو ما اجتهدوا فيه من القضايا، فإمَّا أن يُقِرَّهم على ذلك فيصبح جزءًا من سُنَّتِه، وإمَّا أن يُبيِّن لهم وجه الحق والصواب فيطمئنون لحكمه، ويأخذون به، ويرتفع الخلاف[2].
ومن أمثلة ذلك: عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «لا يُصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نُصلِّي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نُصلِّي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعنِّفْ واحدًا منهم[3].
أمَّا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي فقد اضطر خلفاؤه ومن كان معهم من أصحابه أو جاء بعدهم من المفتين والقضاة والفقهاء إلى أن يطبقوا ما حفظوه عنه على ما استجدَّ من الحوادث وواجهوا من الوقائع على اختلاف ألوانها وتبايُن ظروفها وتباعُد مواطنها، وذلك إنما يقوم على النظر والموازنة بين ما حدث في زمن الرسالة وما حدث بعدها، والتحقيق من وجود المماثلة بين الحوادث السابقة والحوادث اللاحقة واشتراكها في مناط الأحكام وعللها بعد معرفتها أو انتقائها، ثم البحث عن المقتضيات والموانع، وعن معاني النصوص وما يُراد منها، وصلة بعضها ببعض بيانًا وإطلاقًا وتقييدًا وتخصيصًا وتعميمًا ونسخًا، فوجد بسبب ذلك الخلاف والتنوُّع، فمنه الخلاف في الوقائع السابقة وتحقيق مناط الأحكام النازلة فيها وعقد وجوه المماثلة بينها وبين ما استجدَّ من الحوادث، ومنه الخلاف فيما نقل من أحكامها، وما صحَّ نقله وما لم يصح، وما استقرَّ عليه الأمر وما لم يستقر، ومنه خلاف تعرف مناط الأحكام النازلة وما له من شروط وما يعرض له من موانع، ومنه الخلاف في اتخاذ تلك المماثلة أساسًا شرعيًّا تتعدَّى بها الأحكام إلى غير محالها النازلة فيها، وفي ربط تلك الأحكام بما استنبط من عِلَلِها وحكمها وعدم ربطها، إلى غير ذلك من مواطن الخلاف[4].
أنواع الاختلاف:
مما لا شك فيه أن الأصل في الناس الاختلاف، فالناس مختلفون في أشكالهم وألوانهم، وأطوالهم وأجسامهم وعقولهم وأفهامهم وقوتهم وضعفهم، وفقرهم وغناهم... إلخ، فهذه هي سنة الله في خلقه، وصدق سبحانه حيث قال مؤكدًا على هذا المعنى بقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118].
فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدًا، مع أنه لو أراد أن يجعلهم متفقين لكان على ذلك قديرًا؛ لكن سبق العلم القديم أنه إنما خلقهم للاختلاف[5].
يدل على أن الاختلاف في الأمة سُنَّة من سنن الله عز وجل، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مَرَّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربَّه طويلًا، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم: «سألت ربِّي ثلاثًا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربِّي ألَّا يهلك أُمَّتي بالسُّنَّة فأعطانيها، وسألته ألَّا يهلك أُمَّتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألَّا يجعل بأْسَهم بينهم فمنعنيها»[6].
ثم قد يتنازع هؤلاء في بعض المسائل فإن هذا أمر لا بُدَّ منه في العالم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن هذا لا بُدَّ من وقوعه، وأنه لما سأل ربَّه ألَّا يلقى بأسهم بينهم منع ذلك فلا بُدَّ في الطوائف المنتسبة إلى السُّنَّة والجماعة من نوع تنازع؛ لكن لا بُدَّ فيهم من طائفة تعتصم بالكِتاب والسُّنَّة كما أنه لا بُدَّ أن يكون بين المسلمين تنازع واختلاف؛ لكنه لا يزال في هذه الأمة طائفة قائمة بالحق لا يضرها مَن خالفَها ولا مَنْ خذَلَها حتى تقوم الساعة[7].
وأن هناك نوعين من الاختلاف:
• اختلاف التنوُّع: عبارة عن الآراء المتعدِّدة التى تصبُّ في مشرب واحد[8]، أو الاختلاف في العبارة: أن يعبر كل من المختلفين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه[9]، مثال الاختلاف في القراءات المتواترة، وصفة الأذان، واستفتاح الصلاة، ويعرف بالخلاف الصوري، والخلاف اللفظي، والخلاف الاعتباري[10].
واختلاف التنوُّع: هو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضًا للأقوال الأخرى؛ بل كل الأقوال صحيحة[11].
وهذا الاختلاف ليس فيه مذمَّة؛ وإنما الذم فى بغي الناس بعضهم على بعض بسببه[12].
والاختلاف في الفقه الإسلامي اختلاف تنوُّع وغِنًى وليس اختلاف تضادٍّ وتناقض؛ ذلك أن في الإنسان ثوابت، هذه الثوابت لا علاقة لها، لا بمكان ولا بزمان ولا ببيئة ولا معطيات، ويُعرَف أيضًا بالاختلاف المحمود[13]، وهو الاختلاف الحاصل نتيجة الاجتهاد، وتفاوت الأفهام، وتبايُن الآراء، في قضايا متفاوتة[14].
شروط الاختلاف المحمود:
للاختلاف المحمود شرطان: أولهما يتصل بموضع الاختلاف، وثانيهما بالقائل (المخالف):
الأول: فهو الذي يُعبِّر عنه الأصوليُّون بمسألة: المجتهد فيه ما هو؟ أي: الموضع الذي يجوز فيه الاجتهاد، وإذا وجد الاجتهاد وجد الاختلاف غالبًا[15].
الثاني: وهو ما يتعلَّق بالمخالف، فشرطه: الأهلية فلا بُدَّ من توفر أصول تلك الشروط للمجتهد، وكذلك لو أقام نفسه مقام المرجح بين اجتهادات الأئمة، كما هو حلُّ كثيرٍ من المتطفِّلين اليوم[16].
• اختلاف التضاد: فهو عبارة عن الآراء أو الأقوال المتنافية المتنافرة، سواء أكان في أصول الدين أم فروعه[17].
والخلاف في أصول الدين يشمل الخلاف مع غير المسلمين كلهم، ومع الفِرَق والجماعات المخالفة لمنهج أهل السُّنَّة والجماعة[18]؛ كالقائلين بخَلْق القرآن، ونفي القدر، وتأويل الأسماء والصفات أو تعطيلها أو تشبيهها، وتقديم العقل على النقل، وأصحاب الذوق الكشف[19]، والخلاف في فروع الدين يشمل ما هو مجمع عليه؛ كتحريم المسكر وتحريم الرِّبا[20]، ويشمل كذلك مخالفة النص الثابت؛ كإباحة ربا الفضل، ونفي خيار المجلس، ويشمل الخلاف فى المسائل الاجتهادية[21].
ويعرف بالاختلاف المذموم: وهو الاختلاف في أصول الدين، وهذا شرُّ وداء، إذا حلَّ بالأُمَّة، وكذلك يدخل في الاختلاف المذموم الاختلاف الناتج عن اتباع الهوى والتعصُّب الممقوت لشخص أو جماعة، أو تقليد أعمى، الذي يؤدي إلى إشعال الفتن[22].
[1] أدب الاختلاف في الإسلام، طه جابر العلواني (33)، الناشر: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر، الطبعة: الأولى، 1405هـ.
[2] المصدر السابق (34).
[3] الجامع الصحيح (صحيح البخاري) المؤلف: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبدالله، رقم الحديث (946)، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماء (ج2، ص 19) الناشر: دار الشعب – القاهره الطبعة: الأولى، 1407ه – 1987م.
[4] أسباب اختلاف الفقهاء، المؤلف علي الخفيف (ص 7ــ8)، الناشر: دار الفكر العربي، الطبعة الأولى (بدون سنة الطبع).
[5] الاعتصام، المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (ج2، ص 670) تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، الناشر: دار ابن عفان، السعودية، الطبعة: الأولى، 1412هـ - 1992م.
[6] الجامع الصحيح المسمَّى (صحيح مسلم)، المؤلف: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، رقم الحديث (7442)، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (ج8، ص171)، الناشر: دار الجيل بيروت + دار الأفاق الجديدة، بيروت، الطبعة: الأولى.
[7] مجموع الفتاوى لابن تيمية، تحقيق عبدالرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي (ج4، ص 167)، الناشر: دار الصفوة – القاهرة، الطبعة: الأولى.
[8] الأضواء الأثرية في بيان إنكار السلف بعضهم على بعض في المسائل الخلافية الفقهية لأبي عبدالرحمن فوزي بن عبدالله بن محمد الأثري (ص 38)، الناشر: مكتبة الفرقان، الطبعة: الأولى.
[9] الائتلاف والاختلاف: أسسه وضوابطه، صالح بن غانم السدلان (ص 43)، الناشر: دار بلنية، الطبعة: الثانية، الرياض.
[10] فقه التعامل مع المخالف عبدالله بن إبراهيم الطريقي (ص 21)، الناشر: دار الوطن الرياض، الطبعة: الأولى.
[11] الأضواء الأثرية في بيان إنكار السلف بعضهم على بعض في المسائل الخلافية الفقهية (ص 39).
[12] فقه التعامل مع المخالف (ص 21).
[13] الأضواء الأثرية (ص 40).
[14] حديث افتراق الأُمَّة الى نيف وسبعين فرقة للإمام المحدِّث محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق وتخريج: سعد بن عبدالله سعد سعدان (ص 5)، الناشر: دار العاصمة، الرياض، الطبعة: الأولى 1415 هـ.
[15] أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين محمد عوامة (ص 49).
[16] المصدر السابق (ص 53).
[17] فقه التعامل مع المخالف (ص 22).
[18] الأضواء الأثرية (ص 40).
[19] فقه التعامل مع المخالف (ص 22).
[20] الأضواء الأثرية (ص 40).
[21] فقه التعامل مع المخالف (ص 22).
[22]حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقةً (ص 14).
___________________________________________________________
الكاتب: مسلم الهوراماني
- التصنيف: