من صفات عباد الرحمن: التواضع
أوَّلُ وَصْفٍ من أوصاف عباد الرحمن: التواضُع، قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أي: ساكنين متواضعين لله ولعباده.
الحمد لله الذي رَفع قَدْرَ كُلِّ مُتواضِعٍ، سبحانه وتعالى جعل في التواضع خيرًا كثيرًا ومنافع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخافض الرافع، شهادةً تُنَوِّرُ وجوهنا وجوارحنا يوم القيامة بنورٍ ناصِعٍ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه خير شافعٍ، وسيد المتواضعين لله ولخلقه وأفضل طائع، كان يُبَيِّن أن مَنْ تواضَعَ لا يزدادُ إلا قدرًا، وفي الشرف طالع، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابِه وكل تابِع، وعلى مَنْ تَبِعَهم بإحسان ما دامت للنجوم مَغارِبُ ومَطَالع {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات، في أواخر سورة الفرقان، تَحدَّث الله تعالى عن عباد الرحمن، الذين يفوزون بدخولِ الجنة ونعيمِها، وَيُلَقَّوْنَ فيها تحيةً وسلامًا، خالدين فيها، فما هي أوصاف عباد الرحمن؟ وكيف نكون منهم؟
أوَّلُ وَصْفٍ من أوصاف عباد الرحمن: التواضُع، قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، فقوله تعالى: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]؛ أي: ساكنين متواضعين لله ولعباده[1].
والتواضُع معناه: ألَّا يرى الإنسانُ لنفسه على أحد فضلًا، ولا يقع في اعتقاده أنه خير من أحد[2]، وعليه فإن المؤمن مُطالَب بأن يتواضَعَ لعبادِ الله جميعِهم، ولا يتكبَّر عليهم، مُطالبٌ بأن يُوَقِّر كبيرَهم، ويَحترمَ صغيرهم، ويُجِلَّ عالِـمَهم، ويَحْنُوَ على فقيرهم، ويرحمَ ضَعيفهم، ويَحْفَظَ لكلِّ ذي مكانةٍ منزلتَه.
وإن آياتِ القرآن العظيم، وأحاديثَ النبيِّ الكريم، تَحُثُّ على التواضُع وتأمرُ به، وتُبَيِّنُ عاقبته في دنيا الإنسان وآخرتِه، قال الله سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] وخَفْضُ الجَنَاح: كنايةٌ عن التواضُعِ ولِينِ الجانب[3]،ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ»[4].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته متواضِعًا، هيِّنًا ليِّنًا سهلًا، وكان يَحلُب شاته ويخيطُ نَعْلَه، ويُرَقِّعُ ثوبَه، ويأكُلُ مع أصحابه، ويخالط الناس ويُصافِحُهم، ويقضي حاجاتِهم، ولا يُفرِّق في ذلك بين صغير وكبير، أو غني وفقير.
جاءه مرةً رجل يرتعد -لأنه يعتقد أنه سيُقابل مَلِكًا من الملوك- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ»[5].
ويقول أَبُو رِفَاعَةَ الْعَدَوِي رضي الله عنه: «انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَجُلٌ غَرِيبٌ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ... قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ... وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ، فَأَتَمَّ آخِرَهَا»[6] الله أكبر! رسولُ ربِّ الأرض والسماوات، يقطع خطبته وينزل على المنبر، ليعلم أعرابيًّا أمور دينه، ويقضي حاجته! إنه التواضُع يا عباد الله.
وهذا درس لكل صاحب منصب، لكل موظف في إدارته، لكل صاحب جاه، لكل صاحب مكانة وعِزَّة في المجتمع، أن يتواضعَ للناس، ويقضيَ حاجاتِهم، ويُيَسِّرَ أمورهم، ورحم الله من قال:
تَواضَعْ إِذَا مَا نِلْتَ فِي النَّاسِ رِفْعَةً ** فَإِنَّ رَفِيعَ الْقَوْمِ مَنْ يَتَوَاضَعُ
وَدَاوِمْ عَلَى حَمْدِ الإِلَهِ وَشُكْـــــــرِهِ ** وَذِكْرٍ لَهُ فَهْوَ الذِي لَكَ رَافِــعُ[7]
أيها المؤمنون! لو وقفنا وقفةً نبحثُ فيها عن السبب الذي يدفع بعض الناس إلى التكبُّر والتعالي والغرور، لوجدنا أنه يتمثَّل في شعور المتكبِّر بأن الله فَضَّلَه على الناس بنعمة من النِّعَم، فمنهم من يتكبَّر بماله، ومنهم من يتكبَّر بعلمه، ومنهم من يتكبَّر بقوته أو بجاهه أو نسبه أو منصبه... هؤلاء جميعُهم نسوا أن الله تعالى يُبغِض المتكبِّرين، ويجعل النار مصيرهم، قال الله سبحانه: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
وقد كان في التاريخ قبل هؤلاء المتكبرين، مَن هم أشدُّ منهم قوة، وأكثرُ منهم مالًا، وفوقَهم علمًا ومنصبًا؛ لكنَّ كِبْرهم لم يجلبْ عليهم إلا لعنةَ الله وعذابَه، وغضبه وعقابَه.
لما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لأبينا آدم -سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتعظيم- سجدوا كلُّهم إلا إبليس امتنع عن السجود كِبرًا؛ لأنه يرى نفسه خيرًا من آدم، فَلَعَنَهُ اللهُ وطرده من رحمته.
وهؤلاء قوم عاد أعطاهم الله مَنَعَةً وعِزَّةً، وقوة عظيمة، فتكبَّروا وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً...} [فصلت: 15] فأهلكم الله سبحانه {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6].
وآتى الله قارونَ مالًا كثيرًا، قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]؛ لكنه سعى في الأرض كِبرًا، وعلوًّا وفسادًا، فأهلكه الله بأن خسف به وبدارِه الأرض.
وهكذا تكون نهايةُ المتكبِّرين الذين يتكبَّرون بما عندهم من النِّعَم، وقد كان الأَوْلى لكل مَنْ خَصَّه الله بمزيد من نِعَمِه وفضلِه، وإحسانِه وجوده، أن يتواضَع ويغتنمَ كل ذلك في التقرُّب إلى الله وابتغاءِ مرضاته.
فها هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه "كان قبل الخلافة يَحْلُبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فلما وَلِيَ الخلافة قالت جَارِيَةٌ: الآن لا يحلُب لنا، فسمعها أبو بكر رضي الله عنه، فقال: بلى والله لأحْلُبَنَّها كما كنت أصنع من قبل، وأرجو ألا يُغَيِّرَني الله عن خُلُقٍ كنت عليه قبل الخلافة"[8] الله أكبر! هكذا يكون المؤمن لا يتكبَّرُ ولا تتغيرُ أخلاقه بالمنصب والمال والمكانة والجاه؛ بل إنه يُلازم التواضُع وأفضل الأخلاق في جميع الأحوال، فاللهُمَّ اجعلنا ممَّن تواضع فرفعته، نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن العظيم، وبحديث سيِّد المرسلين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين، ادعوا الله يستجِب لكم.
فيا عباد الله، هناك اختبار بسيط يَعرف به الإنسانُ نفسه، هل هو من المتواضعين أم من المتكبِّرين؟ انظُر إلى مَن حَولك مِن الناس، مِن إخوانك وجيرانك وأصحابك وغيرِهم، كيف تراهم؟ فإن كنت تراهم أفضل وخيرًا وأتقى منك، فأنت متواضِع، وإن كنت ترى نفسك أفضل وخيرًا وأتقى منهم فأنت مُتكبِّر، وقد ورد في الأثر: «مَن ظنَّ أنه خيرٌ من غيره فقد تكبَّر»[9].
عباد الله، مَن وجد نفسه مُتكبِّرًا فليتُبْ إلى الله تعالى، وليجلسْ مع نفسه جلسةً يُصلح فيها فساده؛ لأنه في خطر عظيم إن لم يتداركْ نفسه، يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ»[10].
ومن وجد نفسه متواضِعًا، مُتَّصِفًا بالصفة الأولى من صفات عباد الرحمن، شَكَر الله تعالى على نعمته، وسأله المزيد من فضله، وَلْيَبْشَرْ بقول الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، فاللهم اجعلنا جميعًا من أهل الجنة يارب العالمين.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على النبي الأمين، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] اللهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين.
[1] ينظر تفسير السعدي.
[2] نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم: 1/ 23.
[3] تفسير ابن كثير.
[4] صحيح مسلم.
[5] المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري.
[6] صحيح مسلم.
[7] من كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان.
[8] الطبقات الكبرى لابن سعد.
[9] كتاب موارد الظمآن لدروس الزمان.
[10] سنن ابن ماجه
_________________________________________________
الكاتب: محمد بن أحمد زراك
- التصنيف: