مواعظ رمضانية لابن الجوزي (2)

منذ 2023-04-04

شهرٌ أقبل على المقبولين بكثرة الأجور، وعلى أهلِ الصدقِ بتوفير النور، وعلى المتقين بالفرح والسرور، وعلى التائبين بتقويم الأمور، وعلى العامل المخلص بتوفير نصيبه، وعلى المؤمن المُحب لربه بالقرب مِنْ حبيبه.

1- عباد الله:

إن شهر رمضان قد أقبل ببركاته إليكم، وقد أشرف بشريف بِره عليكم، فتلقوه بالعزم الصادق على الخير، واصرِفوا همَمكم فيه لفعل الطاعات لا غَيْر، فإنه شهرٌ بالبركات الوافرة قد زُفَّ، وبأنواع الكرامات الطاهرة قد حُفَّ.

 

2- عبادَ الله:

قد مضى عنكم رجبُ وشعبان، ولعل أكثر أيامهما مضتْ في اللهو والخسران، وها أنتم الآن في شهر رمضان، شهر الإعتاق مِنَ النيران، لِمَنْ ترك الذنوبَ والعصيان، واستحيا مِنْ عالم السر والإعلان.

 

3- شهرٌ أقبل على المقبولين بكثرة الأجور، وعلى أهلِ الصدقِ بتوفير النور، وعلى المتقين بالفرح والسرور، وعلى التائبين بتقويم الأمور، وعلى العامل المخلص بتوفير نصيبه، وعلى المؤمن المُحب لربه بالقرب مِنْ حبيبه.

 

4- فيه يتم الإسعادُ والتكريم، ويتفضلُ فيه بالإنعام الملِكُ الكريم، ويُصفدُ فيه كل ماردٍ لئيم، ويُرْغَمُ فيه أنفُ الشيطان الرجيم، ويُعافَى فيه مِنْ مرضِ المعاصي كل سقيم، إذا امتَثل ما أُمر به مِنْ طبيبه.

 

5- شهرٌ فيه تتوفر العطايا والمنح، ويتحصل فيه كل مأمول مقترح، ويتم للعابدين فيه بالثواب السرورُ والفرح، ويُغفَرُ للعاصي ما جناه واجترح، ويُعادُ على مَنْ صلح بإدنائه وتقريبه.

 

6- شهرٌ فيه الأحبابُ بالدعاء يعجون، وبالتضرع في جميع أوقاته يضجون، وفي نهاره الرحمةَ يرتجون، وفي دياجيه للهِ يناجون وإليه يلتجون، إذا سكنَ كل حبيبٍ إلى حبيبه.

 

7- شهرٌ شريفُ القدْرِ عظيم، فيه يَغفِرُ الغفورُ الرحيم، فاحفظوا حرمتَه لتحصل لكم جناتُ النعيم، وتنجوا مِنْ هول الجحيم، إذا انزعجتِ القلوبُ لهيبةِ لهيبه.

 

8- لقد سعد مَنِ اتقى فيه ونجا، ولقد نال مؤملُ الغفران مِنْ ربه ما رجا، ولقد تَمَّ حالُ مَنْ أفطر على السؤال واللجا، وتسحرَ في ظُلَم الدجى بتضرُّعه وبكائه ونحيبه.

 

9- فصحِّحوا - رحمكم الله - الفروضَ والنوافل، واحترِزوا في هذه الأيام عن الأفعال الرذائل، وتحصنوا مِنْ سهام الغفلات القواتل، وتيقَّظوا مِنْ سِنَةِ الجهالة قبل لُحوق الأواخر بالأوائل، قبل أن يُرد معتذرُ المعاصي بتكذيبه.

 

10- وإياكم والغيبةَ؛ فإنها تُحبط الأجر، وجانِبوا أكلَ الحرام؛ فإنه سبب الطرد والهجر، وعظِّموا شهرَكم هذا فإنه عظيم القدر، وانتظروا بحسن التيقظ فيه ليلةَ القدر؛ فإنها غريبةُ غريبِه، وعجيبةُ عجيبِه.

 

11- وإياكم فيه وفضولَ الكلام، واجتهِدوا في حفْظ الصلاة والصيام، فإذا سَلِمَ لكم هذا الشهرُ، فقد سَلِمَ لكم جميعُ العام، لعله يقيكم غدًا شرَّ الوقوف على الأقدام، يوم يفر الأخ مِنْ أخيه، ويفر النسيبُ مِنْ نسيبه.

 

12- ولازِموا في صيامكم التقوى والورع، وجِدُّوا في الخدمة قبل يومِ الفزع، وراقِبوا الله سرًّا وجهرًا، واتركوا الطمع، فلعل الله سبحانه وتعالى أن يهبَ لكم أحسنَ الخلع، فهو الذي أخبر عنه السيدُ الكاملُ بتأديبه، بقوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» [1].

 

13- يا له مِنْ وقت عظيم الشان، تجب حراستُه مما إذا حل شان، كأنكم به قد رحل وبان، ووجه الصلح ما بان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

14- مِنَ اللازمِ فيه أن تُحرس العينان، ومِنَ الواجب أن يُحفظ اللسانُ، ومن المتعينِ أنْ تَمنعَ مِنَ الخَطَا خُطى القدمان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

15- زِنوا أفعالكم في هذا الشهر بميزان، واشتروا خلاصَكم بما عز وهان، فإن عجزتم فسَلوا المعين وقد أعان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

16- يا واقفًا في مقام التحير، هل أنت على عزمِ التغير؟ إلى متى ترضى بالنزول في منزل الهوان؟ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

17- هل مضى مِنْ يومك يومٌ صالح، سلمتَ فيه مِنْ جرائم القبائح؟ تالله لقد سبق المتقي الرابح، وأنت راضٍ بالخسران، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

18- عينك مطلقةٌ في الحرام، ولسانك منبسطٌ في الآثام، ولأقدامك على الذنوب إقدام، والكل مثبتٌ في الديوان،{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

19- قلبك غائبٌ في صلواتك، وفكرك ينقضي في شهواتك، فإن ركن إليك معاملٌ في معاملاتك، دخلتَ به خان مَنْ خان،{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

20- أكثرُ كلامك لغوٌ وهذر، والوقت بالتفريط شَذَر مَذَر، وإن اغتبت مسلمًا لمْ تُبْقِ ولمْ تذر، الأمان منك الأمان،{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

21- تالله لو عقلتَ حالَك، أو ذكرتَ ارتحالَك، أو تصورتَ أعمالَك، لبنيْتَ بيتَ الأحزان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

22- سيَشهدُ رمضانُ عليك، بنُطقِ لسانك ونظرِ عينيك، وسيُشَارُ يومَ الجمع إليك: شَقِيَ فلانٌ وسَعِدَ فلان،{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185][2].

 

23- تُصفدُ فيه الشياطين، وتُغض فيه أبصار الناظرين، وتُحبسُ فيه كلماتُ الفضوليين، ويَظهرُ الخشوعُ على الصائمِ ويَبين، وخيرُه مبثوثٌ في كل مكان،{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

24- للتلاوة فيه حلاوةٌ، وعلى وجه الصائم نورٌ وطلاوة، ويبسُ الشفتين أحسنُ النداوة، وكل الخيرات فيه نقاوة، تُفتح الجنةُ وتُغلق النيران، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

25- مَنْ عجزَ عن الصيام افتدى، ومَنْ مَرِضَ اليوم صام غدًا، يا له مِنْ شهرٍ عظيم الخير والجَدا[3]، كثير الأجر، قصير المدى، وأف لعاملٍ وقع فيه بالخسْر، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

 

26- تصبَّروا لكل شدة؛ فما أقصرَ المدة، واتخذوا الثبوتَ فإنه أكرم عُدة، وصوموا، {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185][4].

 

27- إخواني، إنما شُرع الصومُ ليقعَ التَقللُ، فأما مَنْ أَوثق الرزْمةَ[5]، فما له نيةٌ في البيع، إذا استوفيتَ العشاءَ تكدر الليلُ بالنوم، وإذا استوفيتَ السحورَ تخبط النهارُ بالكسل، وإنما شُرع السحورُ ليتقوى المتقلل مِنَ العشاء، ولينتبه الغافلُ، وما أرى رمضان إلا زادك شبعًا وغفلةً!

 

28- واعجبًا! لو عُرض عليك أن تشربَ شَربةَ ماءٍ في رمضان، لمَا شربْتَ ولو ضُربتَ، وأنت فيه تَغُش في البيع وتطفف في الميزان، فإذا خرج شربتَ الخمر في شوال! أمَا كان الناهي عن هذا هو الناهي عن ذاك؟ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85][6].

 


[1] (١-١٢) من كتاب (النور، صـ ٣٨، ٤٥، ٤٦، ٤٧)؛ ت. الدكتور/ عبدالحكيم الأنيس - حفظه الله.

[2] (١٣-22) من كتاب (التبصرة ٢/ ٥٢٨).

[3] الجَدا: العطاء.

[4] (23-26) (المرتجل، ق/ ٩٧)، ومجلس شهر رمضان منه، منشور على شبكة الألوكة، بتحقيق الدكتور عبدالحكيم الأنيس حفظه الله.

[5] الرزْمَةُ: ما جُمِعَ في شيءٍ واحد، والمقصود: جمْع الطعام إلى الطعام.

[6] (29-28) من كتاب (التبصرة ٢/ ٥١٨، ٥٢٢).

_____________________________________________________
الكاتب: أحمد أبو زيد كامل

  • 4
  • 0
  • 623

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً