صلاة التراويح هي اجتماع للنافلة في الليل في شهر رمضان
إن في التراويح ترويحًا عن النفس، واستطبابًا لها، وسموًّا بها، وراحةً فيها، وانشراحًا، ترى الناس زرافاتٍ ووُحدانًا إلى المساجد لصلاتها، فتمتلئ بالمصلِّين، فتلِين القلوبُ، ويكثُر الخشوعُ والتقرب إلى الله، وتعود النفوس إلى خالِقِها وبارئها علَّامِ الغيوب.
وسُمِّيت بالتراويح؛ لأن الناس كانوا يُراوحُون بين كل تسليمتين، أو أربع، وقيل: لأنهم كانوا يُراوحُون بين أرجُلِهم من طُول القيام، وفي (القاموس المحيط): "وتَرْويحةُ شَهْرِ رمضانَ: سُمِّيَتْ بها؛ لاسْتراحةٍ بَعْدَ كُلِّ أرْبَعِ رَكَعاتٍ"، وفي (لسان العرب): "لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، والتراويح جمع تَرْوِيحة، وهي المرة الواحدة من الراحة تَفْعِيلة منها؛ مثل: تَسْلِيمة من السَّلام".
وأقول: إن في التراويح ترويحًا عن النفس، واستطبابًا لها، وسموًّا بها، وراحةً فيها، وانشراحًا، ترى الناس زرافاتٍ ووُحدانًا إلى المساجد لصلاتها، فتمتلئ بالمصلِّين، فتلِين القلوبُ، ويكثُر الخشوعُ والتقرب إلى الله، وتعود النفوس إلى خالِقِها وبارئها علَّامِ الغيوب.
وفي هذه الكلمات أحببْتُ أن أتكلَّم عن إطالة التراويح وقِصَرها؛ فقد كثُر الكلامُ عنها، وشاع، وذاع، واشتد النزاع والإقذاع! فأقول مستعينًا بالمعين: إن صلاة التراويح سُنَّةٌ نبويَّةٌ، وراشِديَّةٌ عُمَرِيَّةٌ؛ فقد صلَّاها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تركها؛ خشية أن تُفرَض، ثم جاء الصِّدِّيق، وشُغِل بحرب الرِّدَّة وغيرها من الأمور؛ فلم يجمع الناس على صلاتها، حتى جاء عمر بن الخطاب، فأعادها كما كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس على إمام، ولم تزل، ولن تزال، ولا تزال إلى قيام الساعة، وصارت شعارًا لأهل السنة والجماعة.
وقد كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في القيام طويلةً حسنةً؛ فقد قالت عائشة: "كان يُصلِّي اثنتين فلا تَسَلْ عن طولهنَّ وحُسْنِهن ..."؛ متفق عليه، وكذلك كان هَدْي أصحابه رضي الله عنهم، ومن تَبِعهم بإحسان، كانت صلاتهم نحو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ميمون بن مهران رحمه الله: "أدركت القارئ إذا قرأ خمسين آيةً، قالوا: إنه لَيُخفِّف! وأدركت القرَّاء في رمضان يقرؤون القصة كلها قَصُرت أو طالت، فأما اليوم فإني أقْشعر مِن قراءة أحدهم، يقرأ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]، ثم يقرأ في الركعة الأخرى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12]!! (مختصر قيام الليل، لمحمد بن نصر المروزي: ٢٢٤).
وراجع بابًا كاملًا في كتابه الآنف الذكر؛ ففيه الكثير من آثار السلف، وحكاية أقوالهم، ونقل أفعالهم.
قال أبو نعيم - كان الله له ومعه -: التطويل والإطالة هي الأصل في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاة الصَّحب الكرام، وهذا هو المسطَّر في تواريخهم، والمدوَّن في دواوينهم.
ولكنك تجد أن هناك حالات خرجوا فيها عن الطول إلى القِصَر، بل ذُمَّ مَن أطالها، كما يَعلَمُه مَن طالَع سِيَر القوم وأخبارهم، ونحن في هذا الزمان الغابر الحاضر الآخر، ضَعُفَ الناس، وخارَتِ العزائم، وفتَرَت الهِمَمُ، وكثُرت المشاغل، ولا قوة إلا بالله؛ فاحتاج الناس إلى تقصير الصلاة وتخفيفها؛ ليدركوها كاملةً مع الإمام حتى ينصرف؛ ليُكتَبَ لهم قيامُ ليلة، فإذا أطال الإمام شقَّ عليهم ذلك، حتى جعل الراغب في الإتمام يخرج من الصلاة وهو أسيف كسيف! والله المستعان.
وربما كان في تكثير القراءة وإطالة الصلاة؛ حدرٌ شديدٌ، فكان حذرًا أكيدًا، أو إسراعٌ مُخِلٌّ، فكان إثمًا مضلًّا، وربما وصل إلى الهَذْرَمة والقَرمَطةِ، وتآكُلُ الحروف مُؤدٍّ إلى الحُتُوف!
وربما مَنْ طالت قراءتُه؛ قلَّ عنده المصلون غالبًا، وخاصة العَجَزةَ، وكبارَ السِّنِّ، وذوي الأعذار، وإن كانوا جيرانًا للمسجد.
وإن كان طول القراءة هو الأفضل والأكمل، كما هو هَدْي النبي عليه الصلاة والسلام، مع مراعاة تجويد الحروف، ومعرفة الحدود، ومواطن الوقوف، ومراعاة الزمان والمكان في العبادات أمرٌ ينتبه إليه، وينظر إليه بعين الاعتبار؛ قال أبو داود: سُئِل أحمد بن حنبل عن الرجل يقرأ القرآن مرتين في رمضان يؤمُّ الناس؟ قال: هذا عندي على قدر نشاط القوم، وإن فيهم العمَّال.
قال ابن رجب الحنبلي مُعلِّقًا: "وكلام الإمام أحمد يدل على أنه يُراعي في القراءة حال المأمومين، فلا يشقَّ عليهم، وهذا قاله أيضًا غيرُه من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم"؛ (لطائف المعارف: ١٨).
وهذا كلام متين للإمام الكاساني في مقدار ما يُقرأ:
قال في: (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: ٣ /١٥٠): "أن يقرأ في كل ركعة عشر آيات، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وقيل: يقرأ فيها كما يقرأ في أخفِّ المكتوبات وهي المغرب، وقيل: يقرأ كما يقرأ في العشاء؛ لأنها تَبَعٌ للعشاء، وقيل: يقرأ في كل ركعة من عشرين إلى ثلاثين؛ لأنه رُوي أن عمر رضي الله عنه دعا بثلاثة من الأئمة فاستقرأهم، وأمر أولهم أن يقرأ في كل ركعة بثلاثين آيةً، وأمر الثاني أن يقرأ في كل ركعة خمس وعشرين آيةً، وأمر الثالث أن يقرأ في كل ركعة عشرين آية، وما قاله أبو حنيفة سُنةٌ؛ إذ السنةُ أن يختَمَ القرآن مرة في التراويح، وذلك فيما قاله أبو حنيفة، وما أمر به عمر، فهو من باب الفضيلة، وهو أن يختم القرآن مرتين أو ثلاثًا، وهذا في زمانهم، وأما في زماننا، فالأفضل أن يقرأ الإمام حسب حال القوم من الرغبة والكسل، فيقرأ قدرَ ما لا يُوجِب تنفير القوم عن الجماعة؛ لأن تكثير الجماعة أفضلُ من تطويل القراءة"؛ ا ه.
قلت: هذا في زمنه رحمه الله، فكيف بزمننا الذي أصبحنا فيه في غربة وكربةٍ، ولا نشاط أو دُرْبة، ولكننا ننشد التوبة لنصل إلى القُربة، والله وحده المستعان!
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: هل ينبغي للإمام مراعاة حال الضعفاء من كبار السن ونحوهم في صلاة التراويح؟
فأجاب: "هذا أمرٌ مطلوب في جميع الصلوات، في التراويح، وفي الفرائض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيكم أمَّ الناس فليُخَفِّفْ؛ فإن فيهم الضعيفَ والصغيرَ وذا الحاجة»؛ (رواه البخاري ومسلم)؛ فالإمام يُراعِي المأمومين ويرفُق بهم في قيام رمضان، وفي العشر الأخيرة، وليس الناس سواء، فالناس يختلفون؛ فينبغي له أن يُراعي أحوالهم، ويُشجِّعهم على المجيء، وعلى الحضور؛ فإنه متى أطال عليهم، شقَّ عليهم، ونفَّرهم من الحضور؛ فينبغي له أن يُراعيَ ما يُشجِّعهم على الحضور، ويُرغِّبهم في الصلاة، ولو بالاختصار وعدم التطويل، فصلاة يخشع فيها الناس ويطمئنون فيها - ولو قليلًا - خيرٌ من صلاة يحصل فيها عدم الخشوع، ويحصل فيها الملَلُ والكسل"؛ ا هـ. (من مجموع فتاوى ابن باز: ١١ /٣٣٦).
وقال الإمام محمد العثيمين: "ويجب على الأئمة الذين يُصلُّون بالناس صلاة التراويح، يجب عليهم أن يتَّقوا الله فيمن جعلهم الله أئمةً لهم، فيصلون التراويح بطُمَأْنينة وتَأَنٍّ؛ حتى يتمكَّن مَنْ خَلْفَهم مِن فِعْل الواجبات والمستحبَّات بقدر الإمكان، أما ما يفعله كثيرٌ من الناس اليوم في صلاة التراويح، تجد الواحِدَ منهم يُسرع فيها إسراعًا مُخِلًّا بالطمأنينة، والطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصِحُّ إلا بها؛ فإن هذا محرَّم عليهم:
أولًا: لأنهم يتركون الطمأنينة، وثانيًا: لأنهم ولو قُدِّر أنهم لا يتركون الطمأنينة، فإنهم يكونون سببًا لإتعاب مَن وراءهم، وعدم قيامهم بالواجب، ولهذا فالإنسان الذي يُصلِّي بالناس ليس كالإنسان الذي يُصلِّي منفردًا، فيجب عليه مراعاة الناس؛ بحيث يؤدِّي الأمانة فيهم، ويقوم بالصلاة على الوجه المطلوب، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه يُكْرَه للإمام أن يُسرِعَ سرعةً تمنع المأموم من فِعْل ما يُسَنُّ، فكيف إذا أسرع سرعةً تمنع المأموم من فِعْل ما يجب؟!"؛ ا هـ. (من مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين).
وهذا ضابِطٌ حَسَنٌ من الشيخ عبدالعزيز بن باز طيب الله ثراه:
السؤال: ما الضابط في عدم التطويل، فبعض الناس يشكون من التطويل؟
الإجابة: العبرة بالأكثرية والضعفاء، فإذا كان الأكثرية يرغبون في الإطالة بعض الشيء، وليس فيهم من يُراعَى مِن الضَّعفة والمرضى، أو كبار السِّنِّ، فإنه لا حرج في ذلك، وإذا كان فيهم الضعيف من المرضى أو من كبار السن، فينبغي للإمام أن ينظر إلى مصلحتهم؛ ولهذا جاء في حديث عثمان بن أبي العاص: قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اقْتَدِ بأضعفهم»، وفي الحديث الآخر: «فإن وراءه الضعيفَ والكبير» كما تقدم، فالمقصود أنه يُراعِي الضعفاء من جهة تخفيف القراءة والركوع والسجود، وإذا كانوا مُتقاربين يُراعِي الأكثرية"؛ ا ه.
قلت: وهذا فِقْهٌ غاب عن الكثير ممَّن يحرِص على قراءة جزء مُعيَّن كلَّ ليلة، وفي كل سنة، فلا يترك قيدَ أُنملة مما هو عليه.
وعليه: فلا يُنكَر على مَن قصَّر الصلاة، وخفَّف القراءة، ولا يُشنَّع عليه، ولا يُنال منه، بل {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]، وكلٌّ يُصلِّي قدر استطاعته وطاقته، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ما لم يقع في المحذور، أو يخالف المأمور، ولا يُلام أو يُنتقَد مَنْ أطال الصلاة، وطوَّل القراءة؛ بل يُدعَى لهم بالتوفيق والإعانة، ومن لم يستطع أن يُصلِّي معهم؛ فليذهب حيث يستطيع، فليست كل المساجد على حالٍ واحدة في الطول؛ بل بعضها يُطيل، والآخر يُقصِّر، فاذهب حيث أردْتَ، دون اتهامٍ بالتنطُّع والتشدُّد، أو التساهُل والتبدُّد، فلا يصل الأمر إلى حد الانتقاص من فريق، أو النظرة الدونيَّة لمن قصَّر أو أطال؛ بل نعمَل وندعو الله أن يتقبَّل، و {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
هذا ما منَّ به المنَّان مِن القيل والنيل، وأسأله سبحانه أن يهدينا سُبُلنا، وأن يُعيذَنا من شُرُور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________________________
الكاتب: وليد بن عبده الوصابي
- التصنيف: