الشريعة الإسلامية يجب أن تكون مصدر القوانين
يستنكر البعض استمداد القوانين من الشريعة الإسلامية ،وكأنها كارثة ستحل ببلادنا ،ظناً منهم أننا بهذا سنتحول إلى دولة دينية بمفهومها الغربي ،أوأن هذا يتعارض مع حقوق الأقليات ...إلخ ةهذه المقالة تجيب باختصار عن بعض هذه التساؤلات.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين:
يستنكر البعض استمداد القوانين من الشريعة الإسلامية، وكأنها كارثة ستحل ببلادنا، ظناً من بعضهم أننا بهذا سنتحول إلى دولة دينية بمفهومها الغربي، أو أن هذا يتعارض مع حقوق الأقليات ... إلخ. وهذه المقالة تجيب باختصار عن بعض هذه التساؤلات. فأقول، وبالله التوفيق. أولاً: إننا جميعاً مسلمون، نحرص على ديننا ولا نبغي به بدلاً، ولكن بعضنا يخطئ فهم الدين، ويظن أنه لا يتجاوز ما يقام فينا من شعائر العبادة، وما يهتف به الوعاظ والخطباء من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ويخيل إلى بعضنا أنه لا شأن للدين بالمعاملات المدنية، والحقوق الاجتماعية، والعقوبات، ولا صلة له بشؤون الحرب، ولا بالسياسة الداخلية والخارجية.
كلا، إن الإسلام ليس على ما يظنون. ففي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات؛ كأحكام البيع والربا والرهن والإشهاد، وأحكام النكاح والطلاق والمواريث، وعقوبة القتل وقطع الطريق، بل في القرآن آيات حربية. وأما السنة النبوية الصحيحة ففيها تفصيلات أكثر؛ مما يدلك على أن مَن يدعو إلى فصل الشريعة الإسلامية عن السياسة إنما تصور ديناً آخر غير الإسلام؛ فالإسلام دين وسياسة، وتشريع وحكم وسلطان، وهو لا يرضى من متبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضا ببعض أحكامه فقد أباه كله.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء].
وقال تعالى: {... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} [المائدة:44]. وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]
وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49]. وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلًا ...} [الأنعام:114]
وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (51)} [النور].
هذه بعض آيات الله وأوامره، قد سمعناها كثيراً، وقرأناها كثيراً. ولست الآن بصدد تفسيرها أو شرحها، فهي آيات محكمة صريحة بينة، فيها عبرة لنا وعظة لو تأملناها، وفكرنا في حالنا من طاعتها أو عصيانها، وفيما يجب علينا حيالها.
ثانياً: من العجيب أن بعض غير المسلمين أعلم بأهمية التزام أوامر الشريعة أكثر من بعض المسلمين! لكن الأعجب أن بعضهم كان يعلم هذا قبل أربعة عشر قرناً! فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: خرج جيش من المسلمين أَنا أَميرهم، حتى نزلنا الإسكندرِية, فقال عظيم من عظمائهم: أَخرِجُوا إِليَّ رجلاً أُكَلِّمُهُ ويُكَلِّمُنِي، فقلت: لا يخرج إِليه غيرِي، فخرجت ومعي تُرجماني، ومعه تَرجُمَانُهُ، حتى وُضِعَ لنا مِنْبَرَان،
فقال: ما أَنتم؟ فقلت: نحنُ العربَ، ونحن أَهل الشوكِ وَالْقَرَظِ، ونحن أَهلَ بيتِ اللَّه، كُنا أَضيقَ الناسِ أَرضاً، وأَشدَّهم عيشاً، نأكلُ الميتةَ والدم، ويغِيرُ بعضُنَا على بعض، بأشدِّ عيش عاش به الناسُ، حتى خرج فينَا رجلٌ ليس بأَعظمِنَا يَومَئذٍ شرفاً، ولا أَكثَرِنَا مالاً، قال: [ أَنا رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم ], يأْمرنَا بما لا نعرِف, وينهَانَا عما كنا عليه وكانت عليه آباؤنا، فكذبناه فرددْنَا عليه مقالتهُ، حتى خرج إليه قومٌ من غيرِنَا، فقالُوا: نحنُ نصدقكَ، ونُؤمنُ بك، ونتبعكَ، ونقاتلُ مَنْ قاتلكَ، فخرجَ إِليهم، وخرجنا إِليه، فقاتلناه، فقتلنا، وظهر علينا وغلبنا، وتناولَ مَنْ يَلِيَهُ مِنَ العربِ فقاتلهُم حتى ظهرَ عليهِم، فلو يعلمُ مَنْ وَرَائِي مِنَ العرب ما أَنتم فيه مِنَ العيشِ لم يَبقَ أَحدٌ إِلا جاءَكُم، حتى يُشرِككُم فيما أَنتُم فيه مِنَ العَيشِ!
فضحك، ثُم قال: إِن رَسُولَكُم قد صدق، قد جاءتنا رُسُلُنَا بمِثل الذي جاء به رَسولُكُم، فَكُنا عليهِ حتى ظهرَ فِينَا ملوكٌ، فجعلُوا يعملونَ بأَهوائهِم, ويترُكُونَ أَمرَ الأنبِياء؛ فإِن أنتم أخذتم بأمر نبيِكم، لم يقاتلكُم أحدٌ إلا غَلَبْتُمُوه، ولم يُشَارِرْكُم أَحَدٌ إلا ظهرتُم عليه، فإذَا فعلتُم مثلَ الذي فعلنا, فتركتم أَمرَ نَبِيكُم، وعملتم مثلَ الذي عَمِلُوا بأَهوائِهِم, يخُلِّي بيننا وبينكم، فلم تكونوا أكثرَ عَدَداً منا، ولا أَشَدَّ منا قوةً. قال عمرو بن العاص: فما كلمتُ رجُلاً قط أمكرَ - أذكى - مِنهُ. [أخرجه أبو يعلى في مسنده (7353)، وابن حبان في صحيحه (6564)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (221/6) فيه محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات].
ثالثاً: لقد جعل البعض تردي أحوال بعض البلاد التي نادت بتطبيق الشريعة الإسلامية حجةً على ضرورة فصلها عن السياسة ولم ينسب ذلك إلى سوء التطبيق - كالشخص الذي يترك الصلاة لأنه يعرف شخصاً يصلي ويشرب الخمر - وفي نفس الوقت عزى انهيار بلادنا إلى سوء تطبيق فصل الشريعة الإسلامية عن السياسة، وليس إلى الفصل ذاته! وأيضاً، لا يتكلم عن الدول التي طبقت العلمانية ومع ذلك فهي أكثر تخلفاً وتدهوراً!
لقد كان المسلمون في ذروة مجدهم حينما كانوا يحكمون الشريعة الإسلامية، ولا يتصوروا التحاكم إلى غيرها، ثم تراجعوا حينما كثرت الأخطاء والانحرافات في التطبيق، ثم انهاروا حينما نحوا الشريعة؛ حتى أصبحوا كغثاء السيل أو كادوا! فعن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن». فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت». [ حديث حسن. أخرجه أحمد في مسنده (22397)، وأبو داود في سننه (4297)].
رابعاً: لا يعني استمداد القوانين من الشريعة الإسلامية أننا سنصبح دولة دينية بمفهومها الغربي، فالإسلام لا يعرف هذه الدولة؛ وهو أن يتولى الحكم رجال بأعيانهم - رجال الدين - أو رجال ينطقون باسم الإله، فهناك فرق بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية؛ لذا كانت القرون الوسطى على أوروبا ظلماً وظلاماً وضلالة، وعلى المسلمين عدلاً ونوراً وهدى، وهذه نماذج تبين الفرق بين حكامهم في ظل الدولة الدينية، وبين حكامنا في ظل الدولة الإسلامية.
قال لويس الخامس عشر ملك فرنسا في ديسمبر 1770م: "إننا لم نتلق التاج إلا من الله، فسلطة سن القوانين هى من اختصاصنا وحدنا بلا تبعة، ولا نخضع في عملنا لأحد"
وقال جيمس الأول ملك أنجلترا: "مركز الملكية أسمى شيء على الأرض، إذ ليس الملوك فقط نواب الله على الأرض ويجلسون على عرش الله، ولكن حتى الله نفسه يدعوهم الآله"
أما عندنا، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حينما بويع له بالخلافة عام 632م:" أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني" [البداية والنهاية ( 5/218)، (6/305)]
خامساً: يتساءل البعض كيف سنطبق الشريعة الإسلامية وفي بلادنا أقليات غير مسلمة؟ وكأن الدولة الإسلامية عبر تاريخها لم يكن فيها أقليات، وكأن الأقليات ظهرت فجأة، وكأنهم لا يعلمون أن الشريعة الإسلامية كفلت للأقليات حرية الاعتقاد والعبادة والأحوال الشخصية، وأن التشريعات التي تحكم المجتمع وتحدد علاقاته الخارجية هي التي تستمد من الشريعة الإسلامية، شأن هذه الشريعة بالنسبة للأقليات شأن أي تشريع آخر ينظِّم الحياة الاجتماعية؛ فما الذي يضير أية أقلية في أن يكون التشريع المدني والتجاري مثلاً مستمداً من الشريعة الإسلامية؟! وأي فرق لديهم بين أن تستمد الدولة تشريعاتها من التشريع الإسلامي أو من التشريع الفرنسي مثلاً؟ وهل عانت الأقليات - حالياً - من القوانين المطابقة للشريعة الإسلامية في القانون المدني أو التجاري مثلاً؟!
يقول ول ديوارانت:" لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيراً لها في البلاد المسيحية في هذه الأيام؛ فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم..... وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم». قصة الحضارة (131/12).
سادساً: إن القوانين الوضعية إذا حُكِمَتْ بها أمة السنين الطوال تغلغلت في القلوب، ونَكَتَت فيها آثاراً، وصُبِغَتْ بها الروح، ومرنت عليها النفْسُ. وهذه القوانين أثَّرت أسوأ الأثر في نفوس الأمة، وصبغتها صبغة مادية بحتة، ونزعت من بعض القلوب خشية الله والخوف منه؛
وكان التشريع الإسلامي يدخل القلوب ويرققها ويطهرها من الدنايا. فكان المسلم إذا حَكم الحاكم أو قضي القاضي، علم أن دينه يأمره في دخيلة نفسه أن يسمع ويُطيع، وأنه مسؤول عن ذلك بين يدي الله يوم القيامة، قبل أن يكون مسؤولاً عند الناس. وعلم أنه إن عصَى ماقضى به قاضيه كان عاصياً لربه، حتى لو أيقن أن القاضي مخطئ في قضائه. وكان المقضي له مأموراً من قِبَل دينه أن لا يأخذ ماقُضي له به إن كان يعلم أنه غيرُ حقه، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قَطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذْه؛ فإنما أقطعُ له به قطعة من النار».
هذه تربية الشريعة للأمة. فانظروا تربية القوانين الوضعية، لم يحترمها المسلمون فـي عقيدتهم ودينهم، وإنما رَهِبوها وخافوا آثارَها الظاهرة، ولم يعتقدوا وجوبَ طاعتها في أنفسهم، فكان ما نرى من اللَّدَدِ في الخصومة، والإسراف في التقاضي، واتباع المطامع، والتغالي في إطالة الإجراءات، والتَّفَصِّي بالحيل القضائية عن تنفيذ الأحكام، ذلك أن الناس مردت نفوسهم على الباطل، وفقدوا قلوبهم، فاتبعوا شهواتهم وأسلسُوا لشيطان المادة مقادهم.
سابعاً: إن هذه القوانين الوضعية كادت تقضي على مابقي في أمتكم من دين وخُلُق، فأُبيحت الأعراض، وسُفكت الدماء. لم تَنْه فاسقاً، ولم تزجر مجرماً؛ حتى اكتظت السجون، وصارت مدارس لإخراج زعماء المجرمين. ونزَعَت من الناس الغيرة والرجولة، وشاع التحرش والزنا حتى لا مُزْدَجَر. وصرتم تقرؤون ماتقرؤون في الصحف والمجلات والكتب، وترون ماتَرَوْن في الشوارع والشاشات، بما يَسَّرت من سُبُل الشهوات، حتى صار المنكر معروفاً والمعروف منكراً.
ثامناً: هذه جرائمُ السرقة، ليست بي حاجةٌ أن أُفصِّل لكم ماجنَتْ كثرتها على الأمة وعلى الأمن، وها أنتم أُولاء تسمعون حوادثها وفظائعها، وتقرؤون من أخبارها في كل يوم، وتَروْن السجون قد مُلئَت بأكابر المجرمين العائدين، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين، ثم كلما زادوهم سجناً زادوا طغياناً. ولو أنهم أقاموا ما أُنزل إليهم من ربهم، وحدُّوا السارق بما حَكم الله به عليه، لكنتم تتَشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة، ثم لو وقع كان فاكهة يتنَدَّرُ الناسُ بها، ذلك أنَّ عقوبة الله حاسمة، لايحاول اللصُّ معها أن يختبر ذكاءَه وفنَّه.
نعم، أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب مبادئ التشريع الحديث! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول: ألا سحقاً لهذا التشريع الحديث! أفندع الألوف من المجرمين يروعون الآمنين، لا يرهبون قوياً، ولا يرحمون ضعيفاً، في سبيل حماية بضعة أيد تقطع في كل عام، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام؟!
تاسعاً: إن بعض النظريات الحديثة ترفه عن المجرم حتى يظن أنه موضع إكرام بما جنى، وتدعي أن القصد من العقاب التربية والتأديب فقط، وأنه لا يجوز أن يقصد به إلى الانتقام، وتزعم أن الواجب درس نفسية الجاني، فتلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة، وظروف الجريمة، ومن نشأته وتربيته، ومن صحته ومرضه، وما يعتمل في جوانحه من عواطف وشهوات، وما يحيط به من مغريات أو موبقات، إلى آخر ما هنالك، مما لعلكم أعلم به مني. ونسى قائلوها أن يدرسوا المجني عليه هذا الدرس الطريف، ليروا أي ذنب اجترح، حتى يكون مهدداً في سربه، معتدى عليه في مأمنه، من حيث لا يشعر. ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية: أمن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيته وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً، لا ينزع إلى الشر، فكان مجنياً عليه، أمن كان على الضد من ذلك فكان جانياً؟
إنَّ الله خلق الخلق وهو أعلمُ بهم، وهو يعلم خائنة الأعين وماتُخفي الصدورُ، ويعلم مايُصلح الفرد وما يُصلح الأُمة، وقد شرع الحدود في القرآن زجراً ونكالاً، بكلام عربي واضح لايحتملُ التأويل. أفيعتقدُ المخدوعون منَّا بمثل هذه النظريات أن السنيور لمبروزو أعلم بدخائل نفس الجاني من خالقه؟ أم هم يشكُّون في أنَّ هذا القرآن من عند الله؟
وأخيراً: يا رجال القانون، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، نضع أيدينا في أيديكم، ونعمل مخلصين لله. أنتم أعلم بأسرار القوانين منا، ونحن أعلم بالكتاب والسنة وأسرار الشريعة منكم؛ فإذا تعاونا أخرجنا أبدع الآثار، وستجدون من يسر الإسلام ودقائق الشريعة ما يملأ صدوركم إعجاباً، وقلوبكم إيماناً، وسترون أن ما تتوهمون من عقبات في سبيل التشريع الإسلامي قد ذلل ومهد، وستلمسون بأيديكم إعجاز هذا القرآن. ضعوا القوانين على الأساس الإسلامي، ثم افعلوا ما شئتم، فليحكم بها فلان أو فلان، لسنا نريد إلا وجه الله.
• هذه المقالة ليس لي فيها من عمل إلا الجمع ثم الترتيب ثم التلخيص. وقد استفدت ونقلت من عدة مصادر من أبرزها محاضرة بعنوان: الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر، للعلامة الأزهري فضيلة الشيخ أحمد بن محمد شاكر - رحمه الله - والتي كتبها قبل أكثر من سبعين عاماً - 6 ربيع الأول سنة 130هـ، 3 إبريل سنة 1941م -.
عبد الله بن داود الأزهري
27 شوال عام 1432هـ، 25 سبتمبر عام 2011م.
عبد الله بن داود
• عبد الله بن داود، أبو محمد الأزهري، كاتب وباحث مصري، له اهتمام بمجالات التعريف بالإسلام بلغات العالم المختلفة. • حاصل على إجازة - ليسانس - في الشريعة والقانون بتقدير عام جيد جداً من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر الشريف.
- التصنيف: