مدرسة الإحسان
الصيام عامل طبيعي لإثارة عاطفة الإحسان؛ بسبب ما يشعر به الصائم من الحرمان الذي يعيش فيه الفقراء دائمًا...
قيل: "إن العرب لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سمَّوها بالأزمنة التي وقعتْ فيها، فوافق شهرُ رمضان أيامَ رمض الحر؛ فُسمي بذلك".
وسواء صح هذا أم لم يصح - ومعنى المادة التي اشتق منها ذلك الاسمُ يصحِّحه - فإن الإسلام قد جعل لهذا الشهرِ - رمضان - حرًّا معنويًّا، لا يفارقه مدى السنين، ولو جاء في أشد الأوقات بردًا وقرًّا، وذلك هو الصيام الذي افترضه الله على المؤمنين، وجعلهم يرتمضون فيه بحرِّ الجوع؛ ليذوقوا مما يذوقه الفقراء والمساكينُ في كل شهر، لا في شهر رمضان فقط، فيواسوهم ويحسنوا إليهم في شهر رمضان وفي كل شهر آخر؛ لأن الإحساس بالجوع غيرُ وصفِه، والشعور بالخصاصة غير الخبر عنها.
وقد يكتب الكتَّاب، ويعظ الواعظون في الحض على المواساة، والإحسان إلى الفقراء والمساكين؛ ولكنهم لن يبلغوا من النفس البشرية ما يبلغ منها صيام يوم واحد وتجويعها، على النحو الذي أمر به الشارع في شهر رمضان للرياضة والتربية، لا للتطبيب والاستجمام.
والصيام وإن كانت له فوائدُ صحيةٌ لا تنكر، ويصح أن يكون الشارع قصَدَها فيما قصد إليه من فرْض هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ولكن مسألة الإحسان هي منه في الطليعة، وربما كانت هي المرادةَ منه بالقصْد وبالذات، ألا ترى إلى ما روي في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيذاكره بالقرآن، فلرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخير من الريح المرسلة؟!
وكيف لا يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وهو الذي بُعث ليُتمَّ مكارم الأخلاق؟! وكيف لا يكون أفضل أكوانه بالنسبة إلى الجود في رمضان وقد اجتمعتْ فيه ثلاثةُ دواعٍ، كل واحد منها كافٍ لمضاعفة أثر ذلك الخُلق الكريم، وهي: الصيام، ولقاء جبريل، ومذاكرة القرآن؟!
فالصيام عامل طبيعي لإثارة عاطفة الإحسان؛ بسبب ما يشعر به الصائم من الحرمان الذي يعيش فيه الفقراء دائمًا، ويستوي فيه الرسول وغيره، إلا أن أثره فيه - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ من غيره، ولقاء جبريل هو صلةٌ مباشرة بالملأ الأعلى، يصفو معها جوهرُ النفس، وتسمو معنوياتها إلى أبعد حدٍّ ممكن لبَشَرٍ، ومذاكرة القرآن - وهو مَعْدِن الأسرار والأنوار - لا تأتي إلا بأعظم النتائج في باب التخلق لعموم الناس، فأحرى الرسول الكريم.
وعلى كل حال، فالغاية من الجميع هي الجود، وذلك مما يجعل من رمضان مدرسةَ إحسان، يتخرج فيها ملايينُ المحسنين كل عام، من الصائمين الذين يكونون على قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الاتِّصاف بالجود أيامَ السنة كلها، وفي أيام رمضان أكثر.
ومما يدل على أن فرض الصيام حكمتُه معالجةُ آلام الحرمان بالفعل؛ لتربية عاطفة الإحسان في الإنسان: ما روي في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيه فشرب ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفَّه ثم أمسكه بفِيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له».
فهذا الحديث يرشد إلى أن الحرمان يولِّد العطف، والعطفُ يبعث على الإحسان، فما شعر بما يجده المحروم من ألمٍ نفسي وبدني إلا مَن حُرِم مثله من لذاته ومشتهياته، وإذ ذاك ترقُّ عاطفته، ويسخو بما لم يكن يسخو به من قبل هذا التمرين.
ولو لم يؤخذ هذا الرجل بتجرِبة العطش الشديد، الذي حمله على النزول في البئر، لما رقَّ قلبُه لذلك الكلب، ولو رآه مندلع اللسان من العطش، فكذلك يكون الذي عانى الصيام شهرًا في كل عام إذا رأى جائعًا أو عطشانَ، أو محرومًا من ضرورية من ضروريات العيش على العموم.
ولعل هذا هو ما يفسر قوة عاطفة الإحسان الفردي عند المسلمين، برغم تخلفهم في ميادين الإحسان العام؛ لضعف تربيتهم الاجتماعية والسياسية.
على أن هذا المعنى الذي ذكرنا أنه المقصود الأهم من الصيام - وهو تنمية عاطفة الإحسان - قد وقع التصريح به في حديث سلمان - رضي الله عنه – قال: خطبَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يوم من شعبان، فقال: «يا أيها الناس، قد أظلَّكم شهر عظيم مبارك، فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، وهو شهر الصبر وشهر المواساة، من فطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار»[1].
ولا معنى لكونه شهرَ المواساة إلا هذا، بدليل ما بعده من الحض على تفطير الصائم الذي لا يجد ما يُفطِر عليه، وناهيك أن كتاب الله العزيز لما عَذَر العاجز مطلقًا عن الصيام، لم يجعل له مندوحة من إطعام المساكين.
وتختم هذه الدروس التي تدوم شهرًا كاملاً بامتحانٍ جعله الشارعُ علامةَ النجاح في هذه المدرسة الإحسانية العظيمة، وهو زكاة الفطر، التي ورد في الصحيح أنها: «طهرة للصائم من اللغو والرفث».
فختمت دروس الإحسان بامتحان عملي في الإحسان، مما لا يبقى معه شك في أن رمضان ما هو إلا مدرسة للإحسان:
إِنَّ الصِّيَامَ مُوَاسَاةٌ وَإِحْسَــانُ قَضَى بِذَلِكَ قُرْآنٌ وَبُرْهَانُ
نِعْمَ الصِّيَامُ مَعَ المَعْرُوفِ تَبْذُلُهُ وَلَيْسَ مَعَ الحِرْمَانِ حِرْمَانُ
ـــــــــــ
[1] رواه ابن خزيمة في صحيحه.
__________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله كنّون
- التصنيف: