موسم المضاعفة
"إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء .. "
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، على ما يسر لنا من مواسم الإدراك وفرص اللحاق، حمدا لمن بليلة القدر اختص أمة الإسلام وبمضاعفة الثواب وعدنا في بعض الأعمال والأيام؛ والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، البشير النذير و السراج المنير، معلمنا وأسوتنا سيدنا وحبيبنا من نفديه بأرواحنا ووالدينا، محمد النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}. و عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان» (البخاري).
كم تمر علينا هذه الأيام دون أن نلقي لها بالا، وارتبطت عندنا بالحج وتحريم القتال فمن كان بعيدا عنهما لم يلتفت لهذه الأيام إلا إن علم فضلها .. فهلموا نرى ماذا علينا في هذه الأيام، ثم ندل من خلفنا .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم} أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قَتل في الحرم أو قتل ذا محرم، ثم نقل عن قتادة قوله: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء .. ) أ.هـ
وقال القرطبي رحمه الله: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أ.هـ
فهذه فرصة لمن أثقله ذنب تكاسلت نفسه عن التوبة منه، بل فرصة ذهبية لمن غرق في لُجّ الخطايا وضاقت عليه الأرض بما رحبت وتصاعدت نفسه ضيقا من غفلته أن قف وتأمل؛ إثمك الآن مضاعف: ظلم لنفسك وانتهاك لحرمة الزمن، فاملك زمام نفسك واكبح جماحها .. إن صدقت وصبرت في هذه الأشهر الحرم، ومع تركك الذنب استكثرت من الطاعات في هذا الموسم الذي خُصّ بالكثير من الخيرات، بإذن الله متى ما انتهت هذه الأشهر الحرم تكون النفس قد كرهت الذنب ومِنه أنفت، فاستكثر من الاستعانة بالله وسؤاله بما علّمنا في كتابه {اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين} .
وأيّنا ليس ذاك، أيّنا من الذنوب في براء! فلنغتنمها فرصة لتوبة جماعية نصوح {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
للبر أبواب لا تحصى وللطاعة والخيرات أسهم لا تُعد، فانظر إذا كان أجرها مضاعف، وفي الأصل أن التقرب بشبر يوازيه تقربا بذراع فكيف يكون في هذه الأيام إذاً ؟! .
دعونا نتطهر، ومن الذنوب نُعتق ..
دعونا نستكثر، ومن ربنا نتقرب ..
وفي غمرة انشغالنا بملأ الصحف بالحسنات، وتفريغها من السيئات .. لا ننسى إخوة لنا في العقيدة ما راعى فيهم المعتدي حرمة دم ولا زمن، استفحل فيهم المُصاب .. فلربما بل يقينا إذا اهتدينا وعلى طريق الحق سرنا، تركنا الذنب وإلى الطاعة اتجهت ركابنا؛ دعائنا يكون أقرب للإجابة، وحالنا لربنا أرضى فعلّنا نكون سببا في تعجيل النصر لهم وكشف الكربة عنهم.
______________________________________________________
الكاتب: ابنة الرميصاء
- التصنيف: