لص الدين (الصلاة)
هذا اللص الذي أريد أن أتحدث عنه مختلف تمامًا عن هذا اللص المعروف لدى الناس، إنه لص سرق حق نفسه من الثواب، وأبدل منه العقاب في الآخرة...
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
احذر أن تكون هذا اللص، فهل تعرف مَنْ هو؟
من المعروف لدى الناس أن اللص هو مَن يسرق ما ليس له في خفاء، فربما ينتفع به في الدنيا، ويستحل من صاحبه أو تقطع يده فيتخلَّص من العقاب في الآخرة؛ لكن هذا اللص الذي أريد أن أتحدث عنه مختلف تمامًا عن هذا اللص المعروف لدى الناس، إنه لص سرق حق نفسه من الثواب، وأبدل منه العقاب في الآخرة.
عن هذا اللص يُحدِّثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى مالك رحمه الله في الموطأ عن النعمان بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما ترون في الشارب والسارق والزاني» ؟ وذلك قبل أن ينزل فيهم، فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هنَّ فواحش، وفيهنَّ عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرقُ صلاتَه»، قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: «لا يُتم ركوعَها ولا سجودَها»، وفي رواية: «وشَرُّ السرقةِ سرقةُ الرجل صلاتَه».
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سرقةً الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَكَيْفَ يَسْرِقُهَا؟ قَالَ: «لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا»؛ رواه أحمد، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن، ورواه ابن حِبَّان والحاكم من حديث أبي هريرة، وقال الحاكم: إسناده صحيح، ولم يُخرِّجاه.
دعني أنتقل بك أيها القارئ الكريم إلى حديث آخر؛ وهو حديث المسيء في صلاته، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلَّ يراجعه حتى قال الرجل في النهاية: والله لا أُحسِن غيره فعَلِّمني؛ فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة: أن رجلًا دخل المسجد فصلَّى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد، فجاء فسلم عليه، فقال له: «ارجع فصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ» فرجع فصلَّى ثم سلَّم، فقال: «وعليك، ارجع فصَلِّ فإنك لم تصلِّ» قال في الثالثة: فأعلمني.
وفي رواية قال: ما أحسن غيره، فعلِّمني، قال: «إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبِّر واقرأ بما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجِدًا، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».
إذًا هنا دَلَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم الرجل على الصلاة الصحيحة بأركانها وكيفيتها وآدابها، وأمره أن يأتي بكُلِّ ركنٍ فيها على الوجه الأكمل له، ومن يفعل خلاف ذلك يقع في الضد؛ وهو السرقة في الصلاة، وهو الموصوف بأنه أسوَأُ النَّاسِ سَرِقةً؛ أي: أشَدُّهم قُبحًا وأعظمُهم جُرمًا في السَّرِقةِ، «الَّذي يَسرِقُ من صَلاتِهِ»، فشبَّهَ السَّرِقةَ من الصَّلاةِ كمَن أخَذَ ما ليس له أخْذُهُ في خَفاءٍ، وجَعَلَهُ الأسوأَ؛ لأنَّ أخْذَ مالِ الغَيرِ رُبَّما يَنتَفِعُ به في الدُّنيا، ويَستحِلُّ من صاحِبِهِ أو تُقطَعُ يَدُهُ، فيَتخلَّصُ من العِقابِ في الآخِرةِ، بخِلافِ هذا السَّارِقِ؛ فإنَّه سرَقَ حقَّ نَفسِهِ من الثَّوابِ، وأبدل منه العقاب في الآخرة قالوا: يا رسولَ الله، وكيف يَسرِقُ من صَلاتِهِ؟ قال: «لا يُتِمُّ رُكوعَها ولا سُجودَها أو قالَ: لا يُقيمُ صُلبَهُ في الرُّكوعِ والسُّجودِ»، والمُرادُ بالسَّرِقةِ من الصَّلاةِ؛ بأنْ يَستَعجِلَ الرُّكوعَ والسُّجودَ، فلا يَأْتي المُصلي بهما على الوجه الأكمل والباعث للخُشوعِ والطُّمَأنينةِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: قصد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعلمهُمْ أَن الإخلال بإتمام الرُّكُوع وَالسُّجُود كَبِيرَة، وَأَنه أَسْوَأ مِمَّا تقرر عِنْدهم أَنه فَاحِشَة؛ وَإِنَّمَا خصَّ الرُّكُوع وَالسُّجُود لِأَن الإخلال فِي الغالب إِنَّمَا يَقع بهما وَسَمَّاهُ سَرقَة على معنى أنه خِيَانَة فِيمَا اؤتمن على أَدَائِهِ.
قال ابن عبدالبر في الاستذكار: وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ (يعني: الشارب والسارق والزاني) مَنْ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ فَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا.
قال ابن القيم: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُرَّاقِ الْأَمْوَالِ.
وقال أيضًا: فصرح بأنه أسوأ حالًا من سارق الأموال، ولا ريب أن لصَّ الدين شَرٌّ من لصِّ الدنيا.
وإليك أخي القارئ الكريم، بعض أخبار من كان يفعل ذلك وإنكار الأئمة عليهم:
روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن مسلم، قال: رأى عبادة بن الصامت رجلًا لا يتم الركوع ولا السجود، فأخذ بيده ففزع الرجل، فقال عبادة: «لا تشبهوا بهذا ولا بأمثاله، إنه لا يجزي صلاته إلا بأُمِّ الكتاب».
وروى البيهقي في السنن الكبرى عَنْ مُسْلِمٍ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: سَمِعْتُ حَمَلَةَ بْنَ عبدالرحمن يُحَدِّثُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ رَأَى رجلًا لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ ولا سُجُودَهُ، فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ: لا تشبهوا بهذا وَلَا بِأَمْثَالِهِ، إِنَّهُ لَا صلاة إلا بِأُمِّ الْكِتَابِ، فَإِنْ كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ فَاقْرَأْ فِي نَفْسِكَ، وَإِنْ كُنْتَ وَحْدَكَ فَأَسْمِعْ أُذُنَيْكَ، وَلَا تُؤْذِ مَنْ عَنْ يَمِينِكَ، وَمَنْ عَنْ يَسَارِكَ؛ مسلم هُوَ مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِالله الْعَكِّيُّ الشَّامِيُّ.
وروى ابن أبي شيبة أيضًا في مصنفه وكذلك عبدالرزاق عن حذيفة أنه دخل المسجد، فإذا رجل يصلي من ناحية من أبواب كندة، فجعل لا يتم الركوع والسجود، فلما انصرف قال له حذيفة: «منذ كم هذه صلاتك؟» قال: منذ أربعين سنة، فقال حذيفة: «ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وهذه صلاتك مت على غير الفطرة التي فطر عليها محمد»، ثم أقبل عليه يعلمه، فقال: «إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم الركوع والسجود».
وروى البخاري أيضًا عن زيد بن وهب، قال: رأى حذيفة رجلًا لا يتم الركوع والسجود، قال: «ما صليت ولو مِتَّ مِتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم عليها»، وروى ابن أبي شيبة أيضًا في مصنفه عن محمد بن أبي يحيى، عن أبيه، أن أبا هريرة، رأى امرأة تصلي وهي تنقر، فقال: «كذبت».
وعن الحسن، قال: رأى سعيد بن المسيب رجلًا يُصلِّي ولا يتم ركوعه ولا سجوده، فحصبه وقال: أغلقت صلاتك.
وعن المسور بن مخرمة، أنه رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال له: «أعِدْ»، فأبى، فلم يدعه حتى أعاد.
وعن مسروق أنه رأى رجلًا يصلي، فأبصره رافعًا رجليه وهو ساجد، فقال: «ما تمت صلاة هذا»؛ رواه ابن أبي شيبة في مصنفه وابن الجعد في مسنده.
انتبه يرحمك الله، واعلم أن العبد لا يكتب له من صلاته إلا ما عقل منها.
روى الإمام أحمد في مسنده عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي، وَلَعَلَّهُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا عشرها، وَتُسْعُهَا، أَوْ ثُمُنُهَا، أَوْ سُبُعُهَا» حَتَّى انْتَهَى إلى آخِرِ الْعَدَدِ.
أخيرًا أقول لك حبيبي في الله هذه بعض أخبارهم فاحذر أن تكون صلاتك مثل صلاتهم، واعلم أن الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفَّف فلا يلومَنَّ إلا نفسه.
عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، قال: الصلاة مكيال فمن وفى مكياله وفي له، ومن طفَّف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين.
غدًا تُوفَّى النفوسُ ما كسبت ** ويحصد الزارعون ما زرعـوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ** وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
جعلني الله وإياك من المقيمين الصلاة ومن المحافظين عليها.
آمين آمين آمين.
_______________________________________________________
الكاتب: محمد محمد زهران
- التصنيف: