تأملات في الحج "طعام طعم وشفاء سقم"
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُ ماءٍ على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطُّعْمِ، وشفاء من السُّقْمِ»
إن جمال مكة، وأريج المقدسات، ونسيم المشاعر، وعبير الشعائر، تهبُّ على قلوب المسلمين هذه الأيام، فتنجذب القلوب، وتنشرح الصدور، وتُشَدُّ النفوس إلى هذا النسك العظيم، وهذا البيت العتيق، الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا، ليشهدوا منافع لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معلومات، وليوفوا نذورهم، وليطوفوا بالبيت العتيق؛ أول بيت وضع للناس.
أشهر بئر وأطهر ماء:
أيها المسلمون:
إن أشهر بئر على وجه الأرض، وأطهر ماء على وجه الأرض، وخير ماء الدنيا - ماء زمزم، بعد الإحرام والطواف وصلاة ركعتين عند المقام، ثم النزول إلى زمزم؛ ليرتوي الحاج من مائها المبارك، ويغسل وجهه، ويغمر رأسه بهذا الماء الطاهر؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "سيد المياه وأشرفها، وأجلُّها قدرًا، وأحبها إلى النفوس، وأغلاها ثمنًا، وأنْفَسُها عند الناس".
بين الصخر تدفَّق ماء زمزم:
عباد الله: هناك يتأمل الحاج هذه البئر المعجزة، ويتذكر أن الله عز وجل فجَّرها إكرامًا للسيدة هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام، وإغاثةً لها ولولدها إسماعيل عليه السلام، وما تزال هذه المياه هناك متدفقةً منذ آلاف السنين، وإلى أن يَرِثَ اللهُ الأرض والسماء، تفجَّرت في صحراءَ قاحلة، صحراءَ جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، لا ثمر فيها ولا نفر، واستمرت إلى يومنا هذا، وستستمر ما بَقِيتِ السماء.
تلك البئر المباركة التي فجَّرها جبريل عليه السلام بعقبه لإسماعيل وأمه هاجر؛ حيث تركهما خليل الله إبراهيم عليه السلام في ذلك الوادي القَفْرِ، وحين نفِد ما معهما من زادٍ وماء، وجَهَدَتْ هاجر وأتعبها البحث ساعيةً بين الصفا والمروة، ناظرة في الأفق البعيد؛ علَّها تجد مغيثًا يُغيثها، فلما أيِسَتْ من الخلق، جاء الغوث من الله تعالى بفضله ورحمته، وكرمه وجوده، ولطفه ورحمته.
لم تكن خاصة بإسماعيل وحده، إنما شرِب منها إسماعيل، وشرب منها إبراهيم، وشربت هاجر، وشربت الأمة كلها، نعم شرب منها ملايين البشر، ويشرب منها ملايين أخرى ممن كتب الله لهم الحج، يتذكر الحاج كل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وهو وحده ناصر المؤمنين، وقاهر الجبارين، مهما بلغت قوتهم.
بزوغ الأمل مع تدفق زمزم:
إخوة الإسلام: لقد تفجرت زمزمُ، وتدفق الماء، وبتفجير بئر زمزمَ تفجَّر معه المستحيل، وتفجر معه الإحباط، وتفجر معه اليأس، وبزغ الأمل، ونَمَتِ الحياة، وتَرَعْرَعَ المكان، وهكذا سيبزُغ فجر الإسلام من جديد، وسيخرج المسلمون من أعماق المحنة، وينهضون من قلب الإحباط، وكما أغاث الله جل وعلا السيدة هاجر أم إسماعيل، وولدها إسماعيلَ عليه السلام، في مكان ووقت لا يمكن فيهما بالمعايير المادية أن تتم الإغاثة، فهو سبحانه وتعالى سيغيث المجاهدين في سبيله بنصر وفتح من عنده، يتحقق من أعماق المعاناة، ومن قلب الظلام، مهما اشتد ضبابًا وسوادًا، مهما احتدَّ قتامةً ورمادًا.
طعام طُعْمٍ:
عباد الله: قال صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لِما شُرِب له»؛ (أخرجه أحمد وابن ماجه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير ماء على وجه الأرض ماءُ زمزم، فيه طعام الطُّعْمِ، وشفاء السُّقْمِ».
وطعام الطعم: أي: يشبع الإنسان من مائها إذا شربه، كما يشبع من الطعام إذا أكله، وشفاء السقم: أي: يُزِيل المرض، ويُبرِئ العلة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلَّعون من زمزمَ»؛ أي: الشرب حتى تمتلئ الأضلاع.
يجوز حمل ماء زمزم ونقله:
عباد الله: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل ماء زمزم في الأداوي والقِرَب، وكان يصبُّ على المرضى ويسقيهم))؛ (رواه الترمذي، والبخاري).
وعن حبيب بن أبي ثابت، قال: سألت عطاء: أحملُ ماء زمزم؟ فقال: قد حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم يُتْحِفون ضيوفهم بماء زمزم، عن مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا نزل به ضيف، أتحفه من ماء زمزم، ولا أطعم قومًا طعامًا إلا سقاهم من ماء زمزم؛ يقول الصحابي الجليل أبو ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه: "لقد لبثت ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمِنتُ حتى تكسرت عُكَنُ بطني، وما وجدت على كبدي سَخْفَةَ جوع"؛ (صحيح مسلم).
خير ماء على وجه الأرض:
أيها المسلمون: من فضائل ماء زمزم أنه خير ماء على وجه الأرض؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُ ماءٍ على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطُّعْمِ، وشفاء من السُّقْمِ»؛ (رواه الطبراني).
كيف لا؟
أيها المسلمون: كيف لا، وماء زمزم لا مثيل له في الأرض؛ إنه ثمرة دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام؟ كيف لا، وهو من أعظم النعم والمنافع، وعينه المباركة انبثقت بواسطة جبريل عليه السلام، وغُسِل به قلب أطهر الخلق نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قبل المعراج، وماؤه لا ينضَبُ أبدًا؟ كيف لا، وحال شربه موطن من مواطن استجابة الدعاء، وشربه علامة فارقة ما بين المؤمن والمنافق، وهو ماء مبارك؛ كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: «إنها مباركة»؛ (رواه مسلم)؟
كيف لا، وزمزم من أعظم آيات الله البينات الدالة على توحيده، وعظيم قدرته ورحمته بخلقه؛ ففي أعلى البيت هدًى، وتحت أساسه شفاء، وطعام، وسُقيا تكفي الأنام، وتداوي بإذن الله من الأسقام؟
كيف لا، وبئر زمزم تكفي الشاربين ولو بلغوا الملايين، وإذا توقفوا عن الشرب توقفت عن الضخ، ولم تجرِ على وجه الأرض وتَفُر، وهذا من الإعجاز في الأرض؟
كيف لا، وقد اكتشف بعض الباحثين أن ماء زمزم ماء عجيب، يختلف عن غيره من المياه في التركيب، وكلما أُخِذَ منه، زاد عطاءً، وهو نقي طاهر، لا يوجد فيه جرثومة واحدة، إنه الاعجاز في أبهى صوره؟
كيف لا، وماء زمزم طعام طيب مبارك، يقوم مقام الغذاء في تغذية الجسم وتقويته، ويمكن أن يستغنيَ به شاربه عن الطعام، بخلاف سائر المياه؟
كيف لا، وهي غذاء للعقل والجسم والروح؟ قال ابن القيم رحمه الله عن ماء زمزم: "شاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد، قريبًا من نصف الشهر أو أكثر، ولا يجد جوعًا، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقِيَ عليه أربعين يومًا، وكان له قوة يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مرارًا"؛ (زاد المعاد).
كيف لا، وهي شفاء من الحُمَّى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحُمَّى من فَيحِ جهنم، فابرُدُوها بماء زمزم».
وكانت زمزمُ تسمَّى وتُوصَف عند العرب بأنها "عافية"؛ لأن من شرِبها يستشفي بها، ظهرت عليه العافية الجسدية والنفسية من العلل والأمراض، وشُفِيَ بإذن الله تعالى.
ماء زمزم لِما شُرِب له:
أيها المسلمون: أئمة حقَّقوا ما أرادوا بماء زمزم، كيف؟
من فضائل زمزم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لِما شُرِب له»؛ (ابن ماجه).
قال ابن القيم رحمه الله: "جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض، فبرِئت بإذن الله"؛ (زاد المعاد).
قال ابن العربي رحمه الله عن الاستشفاء بماء زمزم: "هذا موجود فيه إلى يوم القيامة، لمن صحَّت نيته، وسلِمت طويته، ولم يكن به مكذِّبًا، ولا شرِبه مجربًا؛ فإن الله مع المتوكلين، وهو يفضح المجربين"؛ (أحكام الأصول).
فمن أراد الاستشفاء بماء زمزم لا بد أن يكون موقنًا بصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، من كونه شفاءَ سُقْمٍ، ولا يشربه من باب التجرِبة، مع استحضار النية الصالحة، والتوكل على الله تعالى؛ حتى ينتفع به.
قال الحكيم الترمذي رحمه الله: "فالشارب لزمزم إن شرِبه لشبعٍ أشبعه الله، وإن شربه لرِيٍّ أرواه الله، وإن شربه لشفاء شفاه الله، وإن شربه لسوء خُلُق حسَّنه الله، وإن شربه لضيق صدر شرحه الله، وإن شربه لانغلاق ظلمات الصدر فَلَقَها الله، وإن شربه لغِنى النفس أغناه الله، وإن شربه لحاجة قضاها الله، وإن شربه لأمر نابه كَفَاهُ الله، وإن شربه لكربة كشفها الله، وإن شربه لنصرة نصره الله، وبأية نية شربها من أبواب الخير والصلاح وفَّى الله له بذلك؛ لأنه استغاث بما أظهره الله تعالى من جنته غِياثًا".
قال ابن حجر رحمه الله: "واشتهر عن الشافعي الإمام أنه شرب ماء زمزم للرمي، فكان يصيب من كل عشرة تسعةً، وشربه الحاكم أبو عبدالله، لحسن التصنيف ولغير ذلك، فصار أحسنَ أهل عصره تصنيفًا، ولا يُحصى شاربوه من الأئمة، لأمور طلبوها فنالوها، وقد ذكر لنا الحافظ زين الدين العراقي، أنه شربه لشيء، فحصل له؛ (سير أعلام النبلاء).
وأنا – أي: ابن حجر - شربته مرةً، وسألت الله وأنا حينئذٍ في بداية طلب الحديث، أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث، ثم حَجَجْتُ بعد مدة تقرب من عشرين سنة، وأنا أجد من نفسي طلب المزيد على تلك المرتبة، فسألته رتبةً أعلى منها، فأرجو الله أن أنال ذلك".
وعن أبي بكر محمد بن جعفر قال: سمعت ابن خزيمة يقول، وسُئل: من أين أوتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له»، وإني لمَّا شربت ماء زمزم، سألت الله علمًا نافعًا.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله شرب ماء زمزم؛ ليكون من أعلم العلماء، فكان كذلك، علمًا وصلاحًا وفضلًا.
وعن سويد بن سعيد رحمه الله قال: "رأيت عبدالله بن المبارك بمكةَ أتى ماء زمزم، واستسقى منه شربةً، ثم استقبل الكعبة، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له»، وهذا أشربه لعطش يوم القيامة، ثم شرب المنذري".
أسأل الله تعالى كما أغاث هاجر وإسماعيل، وفرَّج عنهما بماء زمزم، أن يغيث الأمة، ويفرِّج عنها فيما هي فيه من أوجاع وأسقام، وشدائدَ وكرباتٍ.
الله نسأل حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
- التصنيف: