التواصل المأجور

منذ 2023-11-21

في كثرة مشاغل الحياة، وضيق الوقت، وتباعد المساكن بين الناس، انقطع الوصال بينهم إلا من رحم ربي، فلم يعُدْ يمكن اللقاء بالأقارب والأصدقاء، إلا في أوقات قليلة، ومدة يسيرة، بعكس ما كانوا عليه في السابق، ابتعدنا عن صلة الرحم إلى صلة المجهولين في مواقع التواصل،

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

ففي كثرة مشاغل الحياة، وضيق الوقت، وتباعد المساكن بين الناس، انقطع الوصال بينهم إلا من رحم ربي، فلم يعُدْ يمكن اللقاء بالأقارب والأصدقاء، إلا في أوقات قليلة، ومدة يسيرة، بعكس ما كانوا عليه في السابق، ابتعدنا عن صلة الرحم إلى صلة المجهولين في مواقع التواصل، وأُسمِّيه هنا (التواصل المذموم).

فالكثير ترك أهله وقرابته، بسبب هذه المواقع؛ لبحثه من خلالها عن التعبير عن أفكاره، والحصول على الدعم في حل مشاكله، وسماع خبراتهم حولها، أو الحصول على فرص عمل وزيادة دخل، أو لمجرد التسلية والترفيه، والإدمان على هذا العمل حسب ما توصلت له الكثير من الدراسات في العالم حول استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، حتى وصل بالبعض إلى أنه لا يستطيع قضاء ساعة كاملة بدون تصفح منصات التواصل الاجتماعي؛ مما سبَّب له تشتت التفكير، والذهول عن أهم الأمور حوله، ووصوله إلى مرحلة العزلة الاجتماعية، وانقطاعه عن قرابته الذين تجب عليه صِلَتُهم، وهو ما أمر به الشرع المطهر؛ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83]، أمَرَ الله بالإحسان إلى ذوي القربى وهم الأرحام الذين يجب وصلُهم؛ وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]،

وجاء في السنة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ((أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم» [1]، وغير ذلك من الأدلة من الكتاب والسنة في وجوب صلة الرحم، والإثم على من قطعها، فلنجعل التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي وسيلة إلى (التواصل المأجور)؛ حيث ساهمت بعض التطبيقات التي تتيح مكالمة الشخص، سواء بالفيديو أو الاتصال في تقريب البعيد، أو في أقل الأحوال رسالة نصية تطمَئِنُّ بها على أقاربك وتسأل عن أحوالهم، والمبادرة في ذلك، ولا ننتظر من يصلنا حتى نرد له ذلك الوصال؛

فعن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: «لئن كنت كما قلتَ، فكأنما تُسِفُّهم الْمَلَّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» [2]، فهذا الصحابي الكريم ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم وضعه مع أرحامه وأقاربه، فهو يصلهم ويحسن إليهم، وهم يجافونه ويسيئون إليه، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأجره وفضله عليهم،

ويُروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في وصيته: "احمل نفسك في أخيك عند صِرامه على الصلة، وعند صدوده على اللطف، وعند جحوده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جُرمه على العذر، حتى لكأنك له عبد، ولا تتخذِنَّ عدوَّ صديقك صديقًا فتعادي صديقك، وإن أردت قطيعة أخيك، فاستبقِ له من نفسك بقيةً ترجع إليها إن بدا لك يومًا ما، ولا تضيعن حق أخيك اتكالًا على ما بينك وبينه؛ فإنه ليس بأخ من ضيَّعتَ حقَّه"[3]، ولنتعامل معهم أيضًا كما في قول الشاعر المقنع الكندي:

وإن الذي بيني وبين بني أبــــــي   ***   وبين بني عمي لمختلف جِـــــــــــدَّا 

أراهم إلى نصري بِطاءً وإن هُــــمُ   ***   دعَوني إلى نصر أتيتهم شــــــــــــدَّا 

فإن يأكلوا لحمي وَفَرتُ لحومهـم   ***   وإن يهدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا 

 

ولنكن من السبَّاقين إلى ذلك لتنطبق علينا الصفة المذكورة في القرآن؛ قال تعالى: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]، و"السابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة، وهو الذي سبق غيره في أمور الدين، السبق إلى الخيرات هو الفضل الكبير؛ أي: الفضل الذي لا يُقدَر قدره، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه، باعتبار ما فوَّتها من الثواب"[4].

 

أسأل الله أن يجمع شمل المسلمين في كل مكان، وينصرهم على من عاداهم.

 


[1] رواه البخاري (1396).

[2] رواه مسلم (2558).

[3] ربيع الأبرار للزمخشري (1/ 363).

[4] فتح القدير (2/445).

________________________________________________
الكاتب: نايف ناصر المنصور

  • 0
  • 0
  • 279

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً