حال المؤمن في الشتاء

منذ 2024-02-05

لقد كان السلفُ أحْرَصَ الناس على أبواب الخير، فكانت تأتي عليهم المواسمُ وفصولُ السنة ويربطونها بالعبادة؛ فما من موسمٍ إلا ولهم فيه عبادات وطاعات يحافظون عليها ويُكثِرون منها.

لقد كان السلفُ أحْرَصَ الناس على أبواب الخير، فكانت تأتي عليهم المواسمُ وفصولُ السنة ويربطونها بالعبادة؛ فما من موسمٍ إلا ولهم فيه عبادات وطاعات يحافظون عليها ويُكثِرون منها.

 

ومن هذه الأيام أيام الشتاء التي كانوا يعتنون بها ويحثُّون الناس على اغتنامها؛ قال عمر رضي الله عنه: "الشتاء غنيمةُ العابدينَ"، وقال ابن مسعود: "مرحبًا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام"، وقال الحسن: "نِعْمَ زمانُ المؤمن الشتاء، ليله طويل فيقومه، ونهاره قصير فيصومه"، وقال ابن رجب: "الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، ويُنزِّه قلبَه في رياض الأعمال الميسَّرة".

 

ولتقدير السلف لهذه الفرصة العظيمة؛ فقد بكى معاذ بن جبل رضي الله عنه عند وفاته وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَق الذكر.

 

فكيف يستغل المؤمن فصل الشتاء؟ وما هي أبوابُ الخير وغنائم الشتاء؟

 

1- الغنيمة الأولى: الإكثار من الصيام؛ فهو الغنيمة الباردة كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد بسند حسَّنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصومُ في الشتاءِ الغنيمةُ الباردةُ»، وبوَّب الترمذي باب ما جاء في الصوم في الشتاء، وساق حديث عامر بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغنيمةُ الباردةُ الصومُ في الشتاء»، وكان أبو هريرة يقول: ألا أدلُّكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء، قال الخطابي رحمه الله: الغنيمة الباردة؛ يعني: السهلة، وقال ابن رجب رحمه الله: لأنها حصلت بغير قتال.

 

والمعنى أن الصائم يحوز الأجر من غير مشقَّةٍ ومن غير أن يمسَّه حرُّ العطش أو يصيبه الجوع من طول اليوم، فإِذا لم نصُمْ صيامَ داود عليه السلام، أفلا نصوم الاثنين والخميس؟ وإذا لم نصم الاثنين والخميس أفلا نصوم الأيام البيض من كل شهر؟!

 

2- الغنيمة الثانية: المحافظة على قيام الليل، وتأمَّل إلى طول ليالي الشتاء وحتى إن كثيرًا من الناس مَن يحكي سآمته من النوم، وربما يشتكي ويستبطئ قدوم الصباح، وقد كان السلف يفرحون بقدوم الشتاء لاغتنام لياليه بالقيام كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: مرحبًا بالشتاء تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام.

 

وكان يحيى بن معاذ يقول: الليل طويل فلا تُقصِّره بمنامك، والإسلام نقيٌّ فلا تُدنِّسه بآثامِك، وكان عبيد بن عمير إذا جاء الشتاء يقول: يا أهل القرآن، طال ليلُكم فقوموا، وقصر نهاركم فصوموا.

 

وتأمَّل هذه الغنائم:

•  «أفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليلِ».

•  «واعلم أنَّ شرف المؤمن قيامُه بالليل».

•  «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ».

•  «أطعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرحامَ، وصَلُّوا بالليل والناسُ نيامٌ، تدخلوا الجنةَ بسلامٍ».

 

فاجعل لنفسك حظًّا من القيام ولو بالقليل؛ ففي الحديث الصحيح: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِن الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِن الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِن الْمُقَنْطِرِينَ»؛ (رواه أبو داود).

 

3- الغنيمة الثالثة: فرصة المحافظة على صلاة الفجر، واسمع لهذه الغنائم والكنوز:

•  «مَن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ فهو في ذمَّة الله تعالى».

•  «لن يَلِج النارَ أحَدٌ صلَّى قبلَ طُلوعِ الشمس وقبل غروبِها»؛ يعني: الفجر والعصر؛ (رواه مسلم).

•  «مَن صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ»؛ (رواه البخاري ومسلم).

فأين نحن من صلاة الفجر؟!

 

4- الغنيمة الرابعة: تحمُّل المكاره بإسباغ الوضوء واحتساب الأجر؛ فإن الماء في الشتاء تشتدُّ برودتُه، فيتهاون كثيرٌ من الناس عن إسباغ الوضوء ويغفلون عن خطورة ترك شيء من مواضع الوضوء بلا غسل، وقد جاء الوعيد الشديد في ذلك كما في الحديث: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»، وربما يؤدي ذلك إلى عدم صحة الصلاة؛ ففي الحديث: «لا صلاةَ لِمَنْ لا وضوءَ له».

 

أمَّا مَن أسبغَ وضوءه فليبشر بالخير الكثير؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألَا أدلُّكم على ما يمحو اللهُ به الخطايا ويرفعُ به الدرجات» ؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغُ الوضوءِ على المكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ، فذَلِكُمُ الرِّباطُ، فذَلِكُمُ الرِّباطُ».

 

ومَنْ تكبَّد مشاقَّ الخروج إلى المسجد لا سيما في الظلام، فليبشر بالخير الكثير والثواب العظيم؛ فعن بريدة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةَ»؛ (رواه أبو داود).

 

5- الغنيمة الخامسة: الشتاء ورسائل التذكير والاعتبار:

شدة البرد والتذكير بعذاب جهنم؛ ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: يا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ».

 

التذكير بنعمة اللباس الذي يقي الجسم بَرْدَ الشتاء وشكرها؛ قال الله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5]، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80].

 

التذكير بنعمة البيوت التي جعلها الله سكنًا وراحةً لأهلها؛ قال الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80].

 

نعمة نزول المطر والتفكُّر في ربوبية الله تعالى؛ فهو سبحانه الذي ينزل الغيث رزقًا مقدرًا؛ قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].

 

وهو الذى يُهيِّئ أسباب نزوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].

 

الرعد والبرق والصواعق تُذكِّر المؤمن بعظمة الله تعالى؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24]، وقال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13].

 

أحكام المسح على الخُفَّينِ أو الجَوْرَبينِ:

والمسح على الخُفَّينِ رُخْصةٌ من الله تعالى، وقد تواترت بذلك السُّنَّة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الإمام أحمد: ليس في قلبي مِنَ المَسْحِ شيءٌ؛ فيه أربعون حديثًا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن رحمه الله: روى أحاديث المسح سبعون رجلًا من الصحابة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

 

ويشترط للمسح على الخُفَّينِ والجَوْرَبينِ شروطًا:

1- أن يلبسهما على طهارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة: «دَعْهُمَا، فإنِّي أدْخَلْتُهُما طَاهِرَتَيْنِ».

 

2- سترهما لمحل الفرض.

 

3- طهارتهما من النجاسة وإباحتهما؛ فإن كانت نجسة فإنه لا يصحُّ المسح عليها.

 

4- أن يكون المسح في المدة المحددة شرعًا؛ وهي يوم وليلة للمُقِيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر.

 

وتبدأ مدة المسح من المسح الأول بعد لبسهما؛ ومثاله: إذا توضَّأ للظهر ولبسهما، ثم مسح عليهما في العصر فإنه يستمر إلى العصر من اليوم التالي؛ فإذا جاء العصر وأراد أن يتوضَّأ لزمه خلعهما وغسل رِجْلَيه.

 

وصِفةُ المسح: أن يمسح ظاهر الخُفِّ أو الجَوْرب (أي: من أعلاه)؛ لقول علي بن أبي طالب: "..رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهَرَ خُفَّيه".

 

ومبطلات المسح:

1- نزع الممسوح عليهما؛ فمن نزع خُفَّيْه أو أحدهما انتقض مسحُه؛ لأنَّه إذا أعاد لبسهما لم يصدق عليه لبسهما على طهارة.

 

2- موجبات الغسل؛ أو ما يوجب الغسل كالجنابة ونحوها؛ لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا أو مسافرين ألَّا ننزع خِفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة؛ لكن من غائط وبول ونوم.

 

والمعنى: أي يجوز للمسافر إذا انتقض وضوؤه أن يمسح على الخُفَّيْنِ ثلاثة أيام بلياليهن إلا إذا انتقض وضوؤه بما يوجب الغُسْل كالجنابة، فيجب عليه نزع الخُفَّيْنِ وغسل القَدَمينِ.

 

3- انتهاء المدة؛ وهي ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومٌ وليلةٌ للمقيم؛ لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمُقِيم.

 

فإذا انتهت المدة وهو ما زال على طهارته؛ فالصواب أنه باقٍ على طهارته؛ لأن انتهاء المدة لا تُبطِل الطهارة، وكذلك نزع الممسوح عليه؛ لأن الأصل بقاء الطهارة ونواقض الوضوء توقيفيَّة.

 

إذا شكَّ الإنسانُ في ابتداء المسح ووقته، فإنه يبني على اليقين (الأقل)؛ مثال: إذا شكَّ هل بدأ المسح لصلاة الظهر أو لصلاة العصر من الأمس؟ فإنه يعتبر أن المسح قد بدأ من الظهر.

 

إذا نسي ومسح بعد انتهاء مدة المسح، ثم صلَّى، فصلاتُه باطلةٌ؛ لأن وضوءه باطلٌ، وعليه أن يُعيدَ الصلاة، وكذا إذا لبس الجَوْربينِ على غير طهارة ناسيًا فمسح عليهما وصلَّى بهما، فإنه يُعيد صلاته.

 

نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه.

________________________________________________________

الكاتب: رمضان صالح العجرمي

  • 0
  • 0
  • 569

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً