حصنوا أموالكم بالزكاة
إن يوم القيامة يوم ذو حسرات، وحسرات ذلك اليوم كثيرة ومتنوعة إلا أنها كلها تدور حول ما فرَّط الإنسان في جنب الله وعزوفه عن أعمال الخير في حياته الأولى؛ لكن من أعظم الحسرات غدًا هو أن ترى مالك في ميزان غيرك...
اسمع معي إلى وصية نبيك صلى الله عليه وسلم، فقد روي عنه أنه قَال: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَاسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ»[2].
وأنا اليوم سأقف مع النصيحة الأولى من هذه الوصية التي يقول فيها: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ»، فنبيُّكم صلى الله عليه وسلم أراد من خلالها أن يبيِّن لأصحاب الأموال الطريقة التي يحفظون بها أموالهم من الضياع والسرقة والتلف، فيقول لهم: يا أصحاب الملايين، ويا أصحاب العمارات والقصور، يا أصحاب السيارات، ويا أصحاب المزارع والبساتين، إن أردتم الحفاظ على أموالكم، والأمان لممتلكاتكم، إن أردتم خزائن أمينة تحفظون بها أموالكم من الضياع والتلف فحصِّنوها بالزكاة، فخير سلاح للدفاع عن أموالكم هو أن تخرجوا الزكاة منها بالصورة الصحيحة التي أمركم بها الإسلام.
يا سيدي يا رسول الله، يا من أرسلك الله رحمةً إلينا، يا من تريد الخير لهذه الأمة، يا من تخاف على أموال أمتك من الضياع والتلف، يا سيدي، بعض أمتك لا يريدون الخير لأنفسهم، تركوا تعاليمك ووصاياك، وراحوا يركضون في هذه الدنيا لا بقليل يقنعون، ولا بكثير يشبعون، همهم بطونهم، قبلتهم نساؤهم، دينهم دراهمهم ودنانيرهم، راحوا يركضون في هذه الدنيا ليجمعوا المال ولا يبالون أمن حلال أم من حرام، ولا ينفقون منه في سبيل الله، ولا يخرجون منه زكاة أموالهم؛ لأنهم يخشون من الله إقلالًا.
أقف مذكرًا للأغنياء وخاصة الذين يماطلون في إخراج الزكاة؛ بل الذين يتفننون في الهروب من الزكاة، فأقول يا أغنياء المسلمين، يا من أنعم الله عليكم بالمال والخير الكثير، نحن نعيش في زمن كثرت فيه الأرامل والأيتام، وكثر فيه الفقراء والمساكين، وكثرت فيه العوائل المشردة، والأمراض المستعصية، فهل فكرتم في هؤلاء؟ هل فكرتم أن تخرجوا حقَّهم من أموالكم؟
يا من تتهربون من إخراج الزكاة، إن كنتم تضحكون على الناس بهروبكم من الزكاة، فأنا أقول لكم: أنتم لا تضحكون إلا على أنفسكم؛ لأن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
أيها الغني المماطل، اعلم أنه سيأتي اليوم الذي ستترك فيه مالك وراءك، ستترك مالك كله، ويومها ستندم، نعم ستندم؛ لأنك لم تستعمله في طاعة الله، ستندم؛ لأنك لم تخرج منه زكاة مالك، ولكن يومها لا ينفع الندم؛ ولذلك ربنا جل جلاله سجَّـل هـذه الحقيقة في كتابه الخالـد لتكـون عبرةً وموعظةً للناس، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 9، 10] هلا أمهلتني، هلا أخَّرت وفاتي إلى وقت قريب من الزمان؟
لماذا تطلب هذه المهلة وهذا التأخير؟ فيقول: من أجل أن أتدارك ما فاتني من تقصير، ومن أجل أن أتصدَّق بالكثير من مالي، من أجل أن أخرج حق الفقراء والمساكين {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]؛ ولكن الجـواب الحاسم يأتي مـن الله عز وجـل: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11].
قال ابن عباس رضي الله عنه: "مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَحُجَّ، أَوْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُزَكِّ - سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اتَّقِ اللَّهَ يَا بْنَ عَبَّاسٍ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَتْلُو عَلَيْك بِذَلِكَ قُرْآنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10]؛ أَيْ: أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]؛ أَيْ: أَحُجَّ[3].
لذلك يقول أهل التفسير: إن الإنفاق أكثر شيء يندم عليه الإنسان عند الموت.
وهذا المال الذي جمعته بعرق الجبين، المال الذي قاطعت أمَّك وأباك من أجله، المال الذي تشاجرت مع أخيك من أجله، وظلمت أخاك من أجله، المال الذي زوَّرت وحلفت بالله كاذبًا من أجل الحصول عليه، المال الذي تركت الصيام وأخَّرت الصلاة من أجله، أين هو هذا المال بعد موتك؟ ستتركه للورثة، وستُسأل عليه أمام الله.
ولذلك ورد في الخبر: أن الميت إذا حمل على النعش رفرفت روحه فوق النعش وهو ينادي: (يا أهلي يا أبنائي، لا تَلْعَبَنَّ بِكُمُ الدُّنْيَا كَمَا لَعِبَتْ بِي، جَمَعْتُ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَمِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، ثُمَّ خَلَّفْتُهُ لِغَيْرِي، فَالْمَهْنَا لَهُ وَالتَّبِعَةُ عليَّ؛ فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَا حَلَّ بِي)[4].
يقول أحد الصالحين: "أعظم مصيبتين يُصاب بهما ابن آدم عند موته: أنه يترك ماله كله، وسيُسأل عن ماله كله".
أخي المسلم، إن يوم القيامة يوم ذو حسرات، وحسرات ذلك اليوم كثيرة ومتنوعة إلا أنها كلها تدور حول ما فرَّط الإنسان في جنب الله وعزوفه عن أعمال الخير في حياته الأولى؛ لكن من أعظم الحسرات غدًا هو أن ترى مالك في ميزان غيرك، ورُبَّ سائل يسأل: كيف يكون مالي في ميزان غيري، مالي الذي جمعته بعرق الجبين يكون مالي في ميزان غيري؟!
والجواب عن هذا السؤال: هو بعد أن يموت الإنسان ويترك ماله للوارثين من غير أن يخرج منه حق الفقراء والمساكين، ودون أن ينفق منه في سبيل الله، ثم يفتح الله على الوارث فيؤدي حق المال من زكاة وصلة رحم وغيرهما من وجوه الخير، فيوم القيامة سيكون أجر مال الأول في كفة حسنات الوارث، فتكون حسرة وندامة على الأول الذي ترك المال للوارث من غير أن يؤدي حقه كما أمر الله عز وجل.
في ذات يوم دخل سيدنا الحسن البصري (رحمه الله) على رجل يعوده في مرضه، هذا الرجل اسمه (عبدالله بن الأهتم) فرآه يُصَوِّب بصره في صُندوق في بيته ويُصَعِّده، ثم قال عبدالله بن الأهتم لسيدنا الحسن البصري (رحمه الله): يا أبا سَعِيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أُؤَدِّ منها زكاةً، ولم أصِل منها رَحِمًا؟ فقال له الحسن البصري (رحمه الله): ثَكِلَتْكَ أُمك، ولمن كنتَ تَجْمعها؟! فقال هذا الرجل: يا أبا سعيد، كنت أجمعها لرَوْعة الزِمان، وجَفْوة السلطان، ومُكاثرة العَشيرة... ثم مات هذا الرجل.
فشَهده سيدنا الحسن البصري (رحمه الله)، فلما فَرَغ من دَفْنِه، وقف سيدنا الحسن البصري (رحمه الله) بين المشيعين خطيبًا، فقال: أيها الناس، انظروا إلى هذا المِسكين، أتاه شيطانُه فحذَّره رَوْعة زَمانه، وجفوة سُلطانه، ومُكاثرة عشيرته، عما رزقه الله إياه وغَمره فيه، انظروا كيف خرج من هذه الدنيا مَسْلوبًا محرومًا.
ثم التفتَ إلى الوارث فقال: أيها الوارث، لا تُخْدَعَنّ كما خُدِعَ صوَيْحبك بالأمس، أَتاك هذا المال حلالًا، فلا يكونن عليك وبالًا، أتاك عَفْوًا صَفْوًا، ممن كان له جمُوعًا مَنُوعًا، من باطل جَمَعه، ومن حق مَنَعه، لم تَكْدح فيه بِيَمين، ولم يَعْرَق لك فيه جَبين. إِنَّ يوم القيامة يوم ذو حَسَرَات، وإن من أعظم الحسرات غدًا أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيا لها عَثَرة لا تُقال، وتوبة لا تُنال[5].
فهل يرضى أحدنا أن يكون ماله في ميزان غيره؟ بعد كل هذا التعب، والركض في هذه الدنيا صباحًا ومساءً، لا تعرف الراحة في النهار ولا النوم في الليل من أجل أن تجمع هذا المال، هل ترضى أن يكون مالك في ميزان غيرك؟
فإذا أردتم الحفاظ على أموالكم، والأمان لممتلكاتكم، إن أردتم خزائن أمينة تحفظون بها أموالكم من الضياع والتلف، فاعملوا بوصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ».
[1] صحيح مسلم، كتاب الزكاة- بَابُ إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ (2 /680)، برقم (987).
[2] أخرجه أبو داود في كتابه المراسيل، كتاب الطهارة، باب في الزكاة، رقم: (105) مرسلًا، واللفظ له. ورواه الطبراني في الأوسط، رقم: (1963) والبيهقي، الزكاة، فصل فيمن آتاه الله مالًا من غير مسألة، رقم: (3279)، قال المنذري في الترغيب والترهيب: «رُوِي مرسلًا ورُوِي متصلًا والمرسل أشبه، 1 /301، رقم: (1112) وهو حديث حسن. والمرسل عند جمهور الفقهاء حجة شرعية.
[3] جامع البيان، للطبري: (23/ 411).
[4] التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي: (ص: 259).
[5] العقد الفريد لابن عبد ربه: (3/ 91).
[6] سنن ابن ماجه، كتاب الزكاة- بابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ: (1/ 591)، برقم (1844).
__________________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي
- التصنيف: