أيام معدودات وأوشكت على الانتهاء

منذ 2024-04-06

إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإنا على فراق رمضان لمحزونون، كيف لا نحزن على رمضان وفيه الدعاء مسموع وأبواب السماء مفتحة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة!

أيها المسلمون، هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تنقضي شاهدة بما عمِلتم، وحافظة لما أودَعتم، هي لأعمالكم خزائن محصَّنة، ومستودعات محفوظة إلى يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]، ينادي ربكم: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أُوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه»؛ (رواه مسلم (16/ 132، 133) البر والصلة: تحريم الظلم، ورواه الترمذي (9/ 304، 305).

 

أيها المسلمون:

غدًا توفى النفوس ما كسبت   ***   ويحصد الزارعون ما زرعـوا 

إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم   ***   وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا 

 

عباد الله، إن الموتى يتحسَّرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية.

 

أخي المسلم، اغتنِم أيام عمرك قبل فوات الأوان ومجيء الحسرات، وحينذاك تأتي الحسرات عند الموت:

{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23]، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31]، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56].

 

يا حسرتى على صلاة ما صليتها.

يا حسرتى على زكاة ما أخرجتها.

يا حسرتى على أوقات ضيّعتها.

يا حسرتى على أيام فطرتها.

 

والله لو عاش الفتى من عمره   **   ألفًا من الأعوام مالك أمره 

متنعمًا فيها بكل لذيـــــــــــذةٍ   **   مُتلذذًا فيها بسكنى قصره 

لا يعتريه الهمُّ طوال حياتـــه   **   كلَّا ولا ترِد الهمومُ بصـدره 

ما كان ذلك كله في أن يفــيَ   **   بِمَبيت أول ليلةٍ في قبـــره 

 

عباد الله، رمضان أيام معدودات وأوشكت على الانتهاء، وكذلك الإنسان أيام معدودات، يوشك أن تنتهي ويقال فلان مات.

 

إخوة الإيمان، قد عزم شهر رمضان على الرحيل، فمن كان قد أحسن فيه فعليه بالتمام؛ فإن الأعمال بالخواتيم كما صح ذلك عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن كان قد فرَّط فيه فليختمه بالحسنى، فتزوَّدوا منه ما بقي من الليالي، واستودعوه عملًا صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلام.

 

سلامٌ من الرحمن كُـــل أوان   **   على خيرٍ شهر قد مضى وزمان 

سلامٌ على شهر الصيام فإنه   **   أمانٌ من الرحمن أي أمــــــــــان 

فإن فنيت أيامك الغر بغتـةً    **   فما الحزن من قلبي عليك بفان 

 

إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإنا على فراق رمضان لمحزونون، كيف لا نحزن على رمضان وفيه الدعاء مسموع وأبواب السماء مفتحة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة! كيف لا نحزن على رمضان وفيه تُعتق الرقاب من النار! كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموعٌ وهو لا يدري هل بقي في عمره لديه رجوع؟ أما رحيل رمضان فحتمًا سيَرحل، وما جاء إلا ليرحل، لكن هل سياتي العام القادم ونحن مع الأحياء؟

 

اللهم إن كنت تعلم أن رمضان القادم سيأتي ونحن مع الصائمين القائمين، فاللهم أعده علينا أعوامًا عديدة وأزمنةٍ مديدة، أعِدْه علينا ونحن في صحةٍ وعافية، وإن كنت تعلم في سابق علمك أن رمضان القادم سيأتي ونحن تحت أطباق الثري، فاللهم أحسِن لنا الختام، واجعل ثواب صيامنا وقيامنا رضاك عنا.

 

أيها المسلمون، ها نحن في الشوط الأخير من السباق، نعم وما الفائدة من سباق طويل لكن صاحبه يتعب في آخره ولا يواصل السباق، حتمًا سيكون من الخاسرين، الفائز هو الذي يصل إلى النهاية ويثبت حتى آخر الطريق، فعجبًا لأُناس شَمَّروا في أول رمضان حتى وصلوا خاتمته، اشتغلوا بدنياهم، اللهم ثبِّتنا على طاعتك حتى نلقاك.

 

نعم إنه سباق الطاعة سباق القرآن، سباق الصدقات، سباق القيام، سباق إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فليت شعري من السابق الفائز ومن المخذول الخاسر؟ من الذي سيفوز بعتق رقبته من النار؟ في كل ليلة ترتفع أسماء: (يا ألله، أعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار).

 

عباد الله، فيما بقي من رمضان قد تكون ليلة القدر، أتدرون ما ليلة القدر؟! إنها ليلة القدر التي يساوي العمل فيها عبادة (83) سنة وأربعة أشهر، ليلة نزول القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، إنها الليلة التي تتنزل فيها الملائكة حتى تكون أكثر في الأرض من عدد الحصى، {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} [القدر: 5]، إنها الليلة التي من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه، إنها الليلة التي من حُرم خيرها فقد حُرم، إنها الليلة التي كان يعتكف العشر الأواخر التماسًا لها.

 

وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين؛ لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها هي ليلة سبع وعشرين)، فقيل له: بأي شيء علمت ذلك؟ فقال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبرنا أن الشمس تطلُع صبيحتها لا شعاع لها كأنها طسْت حتى ترتفع»؛ [رواه مسلم (2/ 828، رقم 762).

 

ومن المستأنس به أن كلمة هِيَ من السورة هي الكلمة السابعة والعشرون، فإذا حسبت عدد الكلمات: من {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} إلى {هِي}، وجدتَها الكلمة السابعة والعشرين، ولقد أودع الله سرًّا في الرقم سبعة، فقد خلق الله سبع سماوات وسبع أراضين وسبعة أيام، والإنسان يسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع، والبحار سبع، وحرَّم من نكاح الأقربين سبعًا، وقسَّم المواريث على سبع، وأعطى الله نبينا سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، والرقم سبعة وتر، والله وتر يحب الوتر، فهذه العلامة التي رواها أُبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر العلامات في الحديث.

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر سمحة، طلِقة لا حارة، ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء»؛ (رواه ابن خزيمة والبزار وسنده حسن وهو في صحيح الجامع 5475).

 

ويُستحب في هذه الليلة المباركة مع الصلاة والذكر وقراءة القرآن: الإكثارُ من الدعاء، فقد ورد عن السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: قلت: «يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال:  «قولي: اللهم إنك عفو تُحب العفو فاعفُ عني»؛ (متفق عليه).

 

أخي الحبيب، ماذا لو عفا الله عنك؟ لو عفا عنك، فلا بد أن يُعطيك هذه الثلاثة: يَمحو آثار الذنوب، ثم يرضى عنك، ثم يُعطيك عطاءً حلالًا يُسعدك ويرضيك دون أن تسأل، ومن ثَم فالليلة ليلة هذه الثلاثة، فاجتهدوا؛ يقول سفيان الثوري رحمه الله: «أُحب في ليلة القدر الدعاء بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أي شيء آخر، أكثِر فيه من: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»، وسليمان الداراني[1] أحد التابعين يقول: «لئن سألني يوم القيامة عن ذنوبي لأَسألنَّه عن عفوه، لأني لا أجد لي مخرَجًا إلا أن أسأله عن عفوه وكرمه».

 

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.

 

أيها المسلم، إنك في ليالٍ مباركة، وأيام فاضلة، فالْجَأْ إلى ربك في كل أحوالك، اشكُ إلى ربك بثَّك وحزنك، اشكُ إلى ربك ضعفَك وعجزك، اشكُ إلى ربك سقمَك ومرضَك، اشكُ إلى ربك هَمَّك وحزنك، واشكُ إلى ربك ديونًا عجزتَ عنها، واشك إلى ربك همومًا سيطرت عليك، واشكُ إلى ربك ذنبَك وتقصيرك في حقه جل وعلا، مُدَّ يد الضراعة لذي الجلال والإكرام، فإنه يستحيي أن يرد يدي عبده خائبتين إذا رفعهما إليه.

 

وهو القائل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].

 

اللهَ اللهَ في الثبات والاستمرار على الأعمال الصالحة في بقية أعماركم، واصلوا المسيرة في عمل الخير، واعلموا أنه لئن انقضى شهر رمضان المبارك، فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت، ومن علامة قبول الحسنة الحسنةُ بعدها، وربُّ الشهور واحدٌ، وهو على أعمالكم رقيبٌ مشاهد، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.

 

عباد الله، قد شرع لكم نبيُّكم في نهايةِ شهركم هذا صدقةَ الفطر، زكاةَ الفطر، إن لهذه الصدقة حِكمًا ومصالحَ، فهذه الصدقةُ شكرٌ لله على نعمته بإتمام الصيام والقيام، وأنَّه أعاد عليك هذا العامَ وأنت في صحةٍ وسلامة وعافية في بدنك، وهي أيضًا طُهرة للصائم لما عسى أن يكون حصل منه من لغوٍ أو رفثٍ، وهي أيضًا طُعمة للمساكين؛ لكي يُغنيَهم ذلك عن السؤال في يوم العيد، فيكون العيد عيدًا للجميع، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: « فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعمةً للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات»؛ (ثلاثة كيلو من القمح أو الأرز، ويجوز أن تخرجَها قبل العيد بيومين أو يوم، يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، ويجوز أن تُخرج مالًا على حسب مصلحة الفقير.

 

عباد الله، أكثِروا من التكبير ليلةَ العيد وصباحَ العيد تعظيمًا لله وشكرًا له على هدايتِه وتوفيقه، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]؛ قال ابنُ عباسٍ –رضي الله عنهما: "حقٌّ على المسلمين إذا رأوا هلالَ شوالٍ أن يُكبِّروا"، ويُسن أن يأكل الإنسان قبل الخروج إليها تمرات وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر، يقطَعُها على وتر؛ لقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكُل تمرات، يأكلهن وترًا.

 

ويخرج إلى المصلى ماشيًا لا راكبًا؛ لقول علي بن أبي طالب: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا، وليَلبَس المسلم أحسنَ ثيابه، وليُكثر من ذكر الله ودعائه، ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلبٍ، وليتذكر الموقف أمام الله حين يجمع الأولين والآخرين.

 

عباد الله، الصيام ليس قاصرًا على شهر رمضان، فقد سنَّ لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام ست أيام من شوال، فقال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، فكأنما صام الدهر كله»، وسنَّ لنا أيضًا صيام ثلاثة أيام من كل شهر: «ثلاث أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله»؛ (رواه مسلم- كتاب الصيام - باب استحباب صوم ستة أيام... حديث (1164).

 

هذا وصلوا عباد الله على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

 


[1] سُلَيمان الدَّاراني (000 - 120 ه= 000 - 738 م)، سليمان بن حبيب المحاربي الدارانيّ، أبو بكر: قاض، من ثقات التابعين، من أهل الشام، كان ينعت بقاضي الخلفاء. استمر في قضاء دمشق ثلاثين عاما. نسبته إلى (داريا) من غوطة دمشق.

________________________________________________
الكاتب: د. أمير بن محمد المدري

  • 0
  • 0
  • 440

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً