دروس وعِبَر من رحيل شهر رمضان
إن عُمر الإنسان هو كنزه الحقيقي ورأس ماله، وإن تضييعه والتفريط في ساعاته وأيامه لمن الخسارة والغبن الذي يقع فيه كثير من الناس
الحمد لله رب العالمين، سبحانه وتعالى له الحمد الحسن والثناء الجميل، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فينبغي للعاقل أن يقف مع أيام الله -تبارك وتعالى- وقفة مُتأمّل، وأن يَعتبر بمرورها، فقد أمر ربنا -سبحانه وتعالى- نبيه موسى -عليه السلام- أن يُذَكِّر قومه بأيام الله؛ فقال -تبارك وتعالى-: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]؛ أي: وَذَكِّرْهُمْ بنعم الله عليهم وإحسانه إليهم، وبأيامه في الأمم المكذبين، ووقائعه بالكافرين؛ ليشكروا نِعَمه وليحذروا عقابه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: في أيام الله على العباد {لآيات لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}؛ أي: صبّار في الضراء والعسر والضيق، شكور على السراء والنعمة.
والعبد له في أيام دهره نظرات، يتطلع فيها لرحمات الله -تبارك وتعالى-، وينتظر فيها فرَجه ومدده وحُسن عطائه لمن أطاعه، وصبر على أوامره، وابتعد عن نواهيه، أما الغافل قليل العلم والصبر ضعيف الطاعة والاتباع فهو متَّبع لهواه غير متفكّر في آلاء الله ونعمه، ولا يُعمل حواسه في تدبُّر الكون وعظمته ليحصل اليقين في القلب؛ فتنقاد الجوارح للحق ويحسن حال البدن فيما يرضي الله تعالى.
ومع رحيل شهر رمضان؛ فهذا تذكير ببعض الوقفات السريعة والمهمة التي ينبغي للمسلم أن يتفكر فيها:
الوقفة الأولى: الانتباه لمرور العُمر والحذر من الدنيا
إن عُمر الإنسان هو كنزه الحقيقي ورأس ماله، وإن تضييعه والتفريط في ساعاته وأيامه لمن الخسارة والغبن الذي يقع فيه كثير من الناس، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: « «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» » (صحيح البخاري: 6412).
لذلك فمن الأمور المهمة التي ينبغي أن يقف معها العبد مع رحيل رمضان: وصية النبي لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ». وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. (صحيح البخاري: 6416). فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصي عبد الله بن عمر وهو من آخر الصحابة موتًا، يُوصي شابًّا في العشرين من العمر بقِصَر الأمل والحذر من الدنيا.
إن من ملامح ختام شهر رمضان أن يتذكر الإنسان خواتيم الأعمال وخواتيم الأعمار، وألا يغفل عما يحمل من الآثام والأوزار، فكل شيء عند الله بأجل مسمى ومقدار، والعاقل من انتبه وأخذ أهبته، واستعد لسفر طويل، وإقامة طويلة في القبور، فيعمل لهذا اليوم ولا تشغله الدنيا بغرورها.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- معلقًا على وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «هذا الحديث أصل في قِصَر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل، قال تعالى: {يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قَالَ في ظل شجرة، ثم راح وتركها» » (رواه أحمد، والترمذي، وقال حسن صحيح).
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل».
وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في خطبته: «إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى» (حلية الأولياء).
الوقفة الثانية: الجمع بين الإحسان والخوف
إن مَن تأمل أحوال الأنبياء والصحابة والصالحين وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، فهم جمعوا بين الإحسان والخوف، ونحن جمعنا بين الإساءة والأمن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد كان السلف -رحمهم الله تعالى- يحسنون في أعمالهم، ويتقون الله ما استطاعوا، وهم مع ذلك لا يُعجبون بعمل ولا يُفتنون بثناء الناس ولا محمدة الخلق.
قال ابن القيّم -رحمه الله-: «إذا أراد الله تعالى بعبد خيرًا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبار بها من لسانه، وشغَله برؤية ذنبه؛ فلا يزال نُصب عينيه حتى يدخل الجنة؛ فإن ما تُقبِّل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته، ومن اللسان ذكره.
وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار. قالوا كيف؟ قال: يعمل الخطيئة، فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله، وبادر إلى محوها، وانكسر وذلَّ لربه، وزال عنه عُجبه وكِبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويَمُن بها ويعتد بها، ويتكبر بها حتى يدخل النار» (طريق الهجرتين: ص172).
وقد حفلت مرويات السنة وكتبها بالعديد من المواقف الرائعة التي تبين شيئًا من عظمة هذا الجيل الفريد، ولا عجب فالمربي الأول والمعلم الأعظم لهم هو رسول الله. فقد بيَّن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد العاقل لا يرتكن على عمل ضعيف لا يدري أقبله الله منه أم لا، وإنما العبد المُوفَّق مَن يعمل ويعبد ويجد ويعتمد بعد كل ذلك على الطمع فيما عند الله، فلا يُدِلّ بعمل ولا يستولي عليه العُجب، بل يتواضع لربه لعله يقبل منه، ويخفض جناحه لعل الله يمُنّ عليه بالقبول، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ» ». قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: « «وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» » (صحيح البخاري: 6467).
وثبت عن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنه أنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]؛ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: «لاَ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، أَوْ لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُ» (رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الألباني).
فهذه أم المؤمنين تظن أن الخائف ذا القلب الوجل هو إنسان أتى من الموبقات والكبائر ما يُسْخِط الله عليه، ومثله يحقّ له الخوف، بل يجب، فصحَّح لها النبي صلى الله عليه وسلم الفهم، وأرشدها إلى أن المتقين من عباد الله يجمعون مع الإحسان خوف عدم القبول، وقد خاف إبراهيم الخليل -عليه السلام- ورجا وطمع في القبول، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
وهناك مثل آخر من تواضع السلف، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه في سياق موت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو حديث طويل وفيه: «وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ؛ فَقَائِلٌ يَقُولُ: لاَ بَأْسَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ؛ فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَجَاءَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ. فقَالَ عمر: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي» (صحيح البخاري: 3700).
فانظر -رحمني الله وإياك- إلى هذا الجيل جيل الصحابة، يُمدَح عمر -رضي الله عنه- بأعمال حقيقية عملها، وهو أولى بتلك البشارات في سكرات الموت ليُحسّن ظنه بربه، ولكنه يأبى في مَثَلٍ عجيب، ويتمنى وهو الصادق البارّ أن يخرج منها كفافًا، وأحدنا الآن لصلاة ركعات وصيام أيام يظن نفسه في أعلى الدرجات وأرفع المنازل، فتواضعوا يا أهل الخير، وانظروا في صفحات أعمال السلف الصالح؛ تعرفوا قيمة أنفسكم، وتصيروا إلى حال أحسن من حالكم؛ بتوفيق الله تبارك وتعالى.
وهذا مثل آخر طيب فريد رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن لعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: «أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمًا بِطَعَامِهِ وكان صائمًا؛ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي؛ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي. (صحيح البخاري 1274).
بكى ولم يتناول طعام الإفطار وكان صائمًا؛ عندما تذكر إخوة له صالحين سبقوه إلى الله تعالى، ولحُسْن ظنّه بهم فضَّلهم على نفسه، مع أنّه أفضل منهم؛ فهو من العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنهم جميعًا-.
وهذا صحابي آخر جليل قد لا يعلم اسمه منا إلا القليل، هو عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- سابع من أسلم، روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لاَ زَوَالَ لَهَا؛ فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا، فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا؛ فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ صَغِيرًا (صحيح مسلم: 2967).
يقول: وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا، وهو سابع سبعة في الإسلام، رضي الله عن الصحابي الجليل عتبة بن غزوان، ولنتعلم أن رؤية النفس والعُجْب بالعمل أصل كل بلية ومجمع الرزايا.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مع عبادته واجتهاده ومكانته العلمية كان متواضعًا هاضمًا لنفسه، مُنكِرًا لذاته، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «كان كثيرًا ما يقول: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء»، وإن مدحه أحد في وجهه قال: «والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلامًا جيدًا» (مدارج السالكين: ١/٥٢٠).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- محذرًا من العجب بالعمل: «وكثيرًا ما يُقرن الرياء بالعُجْب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعُجْب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر» (مجموع الفتاوى ١٠/٢٧٧).
وقال ابن القيم -رحمه الله- موضحًا علاقة الصالحين مع ربهم: «والمقصود أن العبد يقوى إخلاصه لله وصدق معاملته، حتى لا يحب أن يَطّلع أحد من الخلق على حاله مع الله ومقامه معه؛ فهو يُخفي أحواله غيرةً عليها من أن تشوبها شائبة الأغيار، ويُخفي أنفاسه خوفًا عليها من الداخلة، وكان بعضهم إذا غلبه البكاء وعجز عن دفعه يقول: لا إله إلا الله! ما أشدّ الزكام!» (مدارج السالكين: 3/374).
وقال أيضًا -رحمه الله- في وصف الصالحين وأعمالهم: «فإن العبد الصادق لا يرى نفسه إلا مقصرًا، والموجب له لهذه الرؤية استعظام مطلوبه، واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها، وقلة زاده في عينه، فمن عرف الله وعرف نفسه، لم يرَ نفسه إلا بعين النقصان» (مدارج السالكين: 2/269).
وقال عبد العزيز بن أبي روَّاد -رحمه الله-: «أدركتهم -أي الصحابة والتابعين- يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه، وقع عليهم الهمُّ أيقبل منهم أم لا» (لطائف المعارف: ص209)
وقال الحسن البصري رحمه الله: «كانوا –أي الصحابة والتابعين- إذا عملوا الحسنة دأبوا في شُكرها، وسألوا الله أن يَقبلها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم، وسألوا الله أن يغفرها؛ فما زالوا كذلك على ذلك؛ فوالله ما سلموا من الذنوب، ولا نجوا إلا بالمغفرة» (كتاب الزهد للإمام أحمد رحمه الله: 1/231).
الوقفة الثالثة: علامة القبول
إن حاجة العبد لعبادة الله أكيدة، وهو لا يستغني عن ربه طرفة عين، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- «في القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا فوزه بحصول الغنى بحب الله الذي إن حصل للعبد؛ حصل له كل شيء، وإن فاته؛ فاته كل شيء، فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة، ولا غني سواه، فالغنى به وبحبه هو الغنى في الحقيقة، ولا غِنَى بغيره ألبتة، فمن لم يستغن به عما سواه؛ تقطعت نفسه حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان (طريق الهجرتين: ص 34).
وقال -رحمه الله- مبينًا حال الصالحين الصادقين المداومين على الطاعة: «ومن علامات الصادقين التحبب إلى الله بالنوافل والإخلاص في نصيحة الأمة، والأُنس بالخلوة والصبر على مقاساة الأحكام، والإيثار لأمر الله، والحياء من نظره، والتعرض لكل سبب يوصل إليه» (مدارج السالكين: 2/346).
وعليه فإن أبيَن علامةٍ على القبول هي استمرارُ العبد على الخير والعمل الصالح بعد رحيل شهر رمضان؛ قال بعضهم: «ثوابُ الحسنةِ الحسنةُ بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها كان ذلك علامة على قبول الحسنةِ الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها».
ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها! وأحسنُ منها الحسنةُ بعد الحسنة تعقبها، وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها، فلا ترجع أخي إلى المعصية بعد رمضان، واصبر عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان، واصبر لله تعالى يعوضك خيرًا، قال الله تعالى: {إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 70].
وتلك قاعدة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « «أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» » (صحيح البخاري: 6464)، وقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: «وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه» (صحيح البخاري: 43).
إن استدامة الطاعة والمداومة على الأعمال الصالحة لهي في الحقيقة من عوامل الثبات على دين الله وشرعه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، وإن ترك المحرمات والعمل بما يُوعَظ به المرء من قِبل خالقه ومولاه لأمر يحتاج إلى ترويض ومجاهدة من أجل الحصول على العاقبة الحميدة وحسن الفائدة.
الوقفة الرابعة: بماذا نختم شهرنا؟
أمر الله عباده أن يختموا أعمالهم العظيمة بالاستغفار والتوبة، فبعد كل صلاة استغفار، فعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا، وَقَالَ «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ» قَالَ الْوَلِيدُ فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ كَيْفَ الاِسْتِغْفَارُ؟ قَالَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ (صحيح مسلم: 592).
والحاج بعد نزوله من عرفة أُمِرَ الاستغفار؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
بل إن الله -تبارك وتعالى- أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يختم عمره المبارك بالاستغفار، فقال جل وعلا: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا 2 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: ١ - ٣]، وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ (صحيح البخاري: 794).
وإن العبد ليتحسر على تفريطه، فبالأمس كنا ننتظر رمضان، وها نحن الآن نودعه، وهكذا تمضي الأعمار، وإنما العبد جملة من أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضه هذا رمضان يمضي، كما كان بالأمس يأتي، فسبحان مَن قلَّب الليل والنهار، وأجرى الدهور والأعوام، وفي ذلك معتبر للمعتبرين، وموعظة للمتقين.
وبعد، فهذا رمضان تُطوَى صحائفه بأعمال العباد، ولا تُنشَر إلا يوم القيامة والحساب، ولا ندري أندرك رمضان القابل أم لا؟ فالله المستعان.
وكتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة صدقة الفطر؛ فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يُرقِّع ما تخرّق من الصيام باللغو والرفث؛ ولهذا قال بعض المتقدمين: «إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة».
وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: قولوا كما قال أبوكم آدم -عليه السلام-: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْـخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقولوا كما قال نوح -عليه السلام-: {وإلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْـخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقولوا كما قال إبراهيم -عليه السلام-: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، وقولوا كما قال موسى -عليه السلام-: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقولوا كما قال ذو النون -عليه السلام-: {لَّا إلَهَ إلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِـمِينَ} [الأنبياء: 87] (لطائف المعارف: ص377).
أسأل الله العلي القدير أن يتقبلنا بقبول حسن، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
___________________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز مصطفى الشامي
- التصنيف: