فوائد البلاء

منذ 2024-06-03

إن لم يكن للبلاء شرف إلا أن يكون علامة لحب الله للعبد لكفى به شرفًا، أن تشعر أن هذا الابتلاء اصطفاء لك من خالقك ليُدنيك منه، وليسمع صوتك وابتهالك وتضرعك إليه

تحدَّثنا في المقال السابق عن بعضٍ من حكم الابتلاءات، ونستكمل في هذا المقال طرفًا آخر من فوائد البلاء، فمن فوائد الابتلاءات:

التوبة والرجوع إلى الله:

كم مرة سمعت عن قصة شخص كان مُسرِفًا على نفسه بالذنوب والمعاصي، فإذا به يصاب بابتلاء- في جسده أو ولده أو ماله- فيعود لربِّه ويصلح ما بينه وبينه، فيختم له بخير؟

 

هل تذكر الملياردير علي بنات الذي ابتُلي بمرض السرطان فتاب وأناب إلى ربه، وأنفق ماله على الفقراء والمحتاجين والأعمال الخيرية؟

 

ذكر سبحانه وتعالى في العديد من الآيات أن من فوائد وحكم الفتن والابتلاءات إرجاع الناس لربهم، وحثهم على التوبة، والتذكُّر والإبانة والإخبات إلى ربهم وخالقهم.

 

قال تعالى: ﴿  {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}  ﴾ [التوبة: 126]، ﴿  {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}  ﴾ [الأنعام: 42] ﴿  {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}  ﴾ [الأعراف: 94].

 

﴿  {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}  ﴾ [المؤمنون: 76] ﴿  {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}  ﴾ [الأعراف: 130]

 

﴿  {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}  ﴾ [الأنعام: 43] ﴿  {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}  ﴾ [النحل: 53، 54].

 

﴿  {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}  ﴾ [الأعراف: 168].

 

فكل هذه الآيات البينات تبين أن الابتلاءات تأتي كثيرًا لإرجاع الناس إلى الطريق القويم والصراط المستقيم.

 

فوالله لأن يُصاب العبد في دنياه ثم تكون عاقبته إلى الجنة والرضوان فيغمس غمسة في الجنةتنسيه أي شقاء، خيرٌ من أن يظل على معاصيه وذنوبه فتودي به إلى النار.

 

فإذا لم يكن للبلاء فضل إلا توبة العبد ورجوعه لربه ومناجاته بالأسحار لتفريج الكرب، لكان ذلك كافيًا، فمصلحة العبد الأخروية مقدمة على غيرها من المصالح.

 

ومن فوائد الابتلاءات منع الناس من الطغيان والفساد والتمادي في الظلم، ألم يقل سبحانه: ﴿  {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}  ﴾ [العلق: 6، 7].

 

العافية المستمرة وكثرة النعم قد تكون نقمة على بعض الناس، تجعله يتمادى في غيِّه وظلمه وطغيانه، تجعله يستقوي على الضعفاء والمساكين، تجعله يتكبَّر ويغترُّ بما عنده من مال وصحة وجاه وسلطان وذرية، تجعله لا يطلب شيئًا من ربه، ولا يرفع يديه ونظره إلى السماء مستجلبًا رحمات الله بالدعاء، فيقسو قلبه حتى يصير كالحجارة؛ بل أشد قسوة.

 

ينسى أن كل ما عنده من نِعَم من عند الله وبفضله سبحانه فينسب الفضل لنفسه وجهده وبذله.

 

قال تعالى: ﴿  {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}  ﴾ [الشورى: 27]، فزيادة الرزق والبسط فيه قد تكون سببًا للبغي عند بعض الناس.

 

﴿  {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}  ﴾ [النحل: 53، 54].

 

وقد تكون كثرة النِّعَم سببًا في إعراض العبد بدلًا من أن يكون سببًا في شكر ربِّه، والاعتراف له بالفضل، قال تعالى: ﴿  {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}  ﴾ [الإسراء: 83] ما أسوأه من عبد! كلما أنعم الله عليه ينأى بجانبه عن ربِّه ومولاه وخالقه!

 

أيظن ألن يقدر عليه القوي العزيز؟!

أيظن ألن يسلبه النعم كما رزقه إياها؟!

أيظن ألن يرى جزاء إعراضه في الدنيا وإن لم يكن ففي الآخرة؟!

ألا يذكر أن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لن يفلته؟!

أينسى أنها قد تكونا استدراجًا منه سبحانه؟!

 

ألا يذكر قصة الأبرص والأقرع والأعمى، كيف ابتلاهم الله بالنعمة اختبارًا وامتحانًا فشفاهم مما هم فيه، ورزقهم بأحبِّ الأموال إليهم من بقر وغنم وإبل حتى إذا جاءهم الملك في صورة عابر سبيل يطلب العون، فإذا بالأبرص والأقرع يبخلان بالمال، وينسبان الفضل فيه لأنفسهما وينسيان فضل الله عليهما، فصيَّرهما الله إلى ما كانوا عليه، على عكس الأعمى الذي نُسِب الفضل لله وجاد بالمال، فبارك الله له في ماله وحفظه عليه!

 

لذلك كان البلاء لمثل هؤلاء مانعًا لهم من التكبُّر والتجبُّر والطغيان في الأرض. فما أعظمها من فائدة!

 

ومن فوائده تذكير العبد بنعم الله عليه:

فلا تكاد تعرف وتستشعر نعمة البصر إلا إذا اشتكيت عينيك! ولا تكاد تقدر نعمة السمع إلا إذا أصيبت أذناك! ولا تقدر نعمة الحركة إلا إذا أصابك مكروه فيها!

 

ولا تعرف نعمة الولد إلا إذا مَرَّ بك زمان لم يقدر الله لك الإنجاب!

 

فإلْفُ النِّعَم يُنْسينا أنها من عند الله، يُنْسينا أننا لم نفعل شيئًا يستحق أن يمنَّ الله به علينا ولكنها في الأول والأخير فضل من الله ومِنَّة.

 

في قصة رمزية روي أن الشمس لم تشرق يومًا في أحد البلاد، استيقظ الفلاحون صباحًا ليذهبوا إلى الحقول، لكن الظلام كان دامسًا، واستيقظ الموظفون في السادسة ليذهبوا إلى أعمالهم ولكن الظلمة كانت حالكة، واستيقظ التلاميذ ليذهبوا إلى المدارس فلم يستطيعوا، وعلى مدى ساعات النهار تعَطَّل كل شيء، وتوقَّفت الحياة، وأصاب الناس القلق على زراعتهم، وارتعشت أجساد الأطفال والعجائز من البرد،ودَبَّ الخوفُ في قلوب الجميع.

 

ولما أتى الليل لم يظهر القمر، فذهب الجميع للصلاة، وأخذوا يُردِّدُون الأدعية، ويصرخون ضارعين لتعود الشمس، ولم ينم أحد في تلك الليلة.

 

وفي الخامسة من صباح اليوم التالي أشرقت الشمس في موعدها، فتصايح الناس فرحًا، وسجدوا لله شكرًا، وتبادلوا التهنئة، فقال لهم أحد حكماء المدينة: "لماذا شكرتم الله على طلوع الشمس اليوم فقط، ألم تكن تشرق كل صباح!"

 

وهكذا إلْفُ النِّعَم واعتيادنا عليها يجعلنا ننسى شكرها؛ بل قد نجحد فضل الله علينا وننسب الفضل لأنفسنا.

 

لذلك يجيء البلاء ليعيد الأمور إلى نصابها، ويذكرنا بضعفنا وعجزنا إذا لم يتفضَّل الله علينا بنعمه.

 

وهذه ميزة أخرى للبلاء أنها تشعرنا بالضعف والعجز، فلا قوة إلا من الله، ولا حول لنا ولا تحوُّل من حال إلا بأمر الله، فبيده سبحانه خزائن كل خير، وبيده ملكوت السماوات والأرض، فيخبت القلب لربه ويستكين ويأنس به ويخشع بين يديه.

 

فما أجملها من ميزة للبلاء!

 

ومن ذلك أيضًا أن يوقن العبد أن لا عاصم من الفتن ولا منجي منها إلا هو، فهو سبحانه مصرف القلوب والأبصار ومقلبها.

 

فإذا ابتُلي العبد بفتنة أو ذنب فلا يصرفها عنه إلا الله.

 

ألم تر إلى سيدنا يوسف عندما ابتُلي بفتنة امرأة العزيز، ماذا قال؟

قال: ﴿  {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}  ﴾ [يوسف: 33] أظهر ضعفه وافتقاره بين يدي ربه، فهو يوقن ألا عاصم من الفتن غير الله، ويوقن أنه ضعيف وقد يفتن إن لم يُثبِّته الله ويصرف عنه السوء والفحشاء.

 

وها هو سيدنا إبراهيم يخاف على نفسه عبادة الأصنام، وهو أبو الأنبياء، يقول كما قال تعالى عنه: ﴿  {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}  ﴾ [إبراهيم: 35].

 

ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام يقول: «أعوذ بك أن تضلني».

 

وهكذا أهل اليقين والإيمان يقولون: ﴿  {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}  ﴾ [آل عمران: 8] يخافون على أنفسهم من الزيغ بعد الهداية، فلا يأمن أحد مكر الله.

 

وهكذا الفتن تذرع في قلب المسلم هذه المعاني العظيمة وأعمال القلوب الرائعة وكفى بها فائدة.

 

البلاء فاتورة لدخول الجنة وارتفاع الدرجات فيها:

لولا بلاؤك لما اشتاقت روحك للجنة ونعيمها، ولما طمعت في درجاتها ومنازلها التي ينزلها الله أصحاب البلاءات حتى إن الناس عندما يرونهم يوم القيامة يتمنون أن يكونوا مثلهم ولو أن أجسادهم قُرِضت بالمقاريض.

 

أتذكر المرأة التي كانت تُصرَع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبت من النبي أن يدعو لها فتشفى من مرضها، فقال لها: «إن شئت دعوت لك فشفاك الله، وإن شئت صبرت ولك الجنة»، واختارت الصبر على البلاء إذا كان سيؤدي بها هذا البلاء والصبر عليه إلى الجنة، وما أعظمه من مقابل!

 

هذا في البلاء في البدن، أما من ابتُلي بفقد ولده فصبر على ذلك فهنيئًا له بيت الحمد في الجنة، ففي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتُم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد»؛ (الترمذي وأحمد، وحسَّنه الألباني في الصحيحة).

 

واستمع معي إلى هذا الحديث عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قال: إذا ابتليتُ عبدي بحبِيبَتَيْه فصبر عوَّضتُه منهما الجنة»، (يريد عينيه؛ رواه البخاري).

 

انظر إلى رحمة الله وتعويضه لعبده المُبتلى بفقد بصره في الدنيا، كيف يكون عظيمًا، وهل أعظم من أن يضمن له الجنة إذا صبر ولم يجزع ولم يتسخط؟!

 

ولِمَ لا وقد علمنا أن الجنة حُفَّت بالمكاره والبلاءات من أشد المكاره على النفس؟! قال تعالى: ﴿  {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}  ﴾ [البقرة: 214]، تأمل قوله تعالى في الآية: ﴿  {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}  ﴾ يخبرنا الله أن من سنته في جميع الأمم السابقة الابتلاء والشدة والضراء حتى إذا صبروا دخلوا الجنة، فهي سنة ماضية في جميع خلقه.

 

جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذُن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، لا موت فيها ولا تعب، ولا نصب، هل تقارن بالدنيا الزائلة المكدرة المنغصة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟!

 

جنةالغمسة فيها تُنسيك كل بلاء وكرب وهم حدث لك في الدنيا وإن كنت أكثر أهل الدنيا بلاءً، فكيف يكون الجلوس فيها والتمتع والخلود؟!

 

ألا تستحق هذه الجنة أن نصبر على هذه البلاءات الزائلة بنفس راضية مطمئنة؛ لننال ما عند الله من متاع الجنة الذي لا يزول ولا يتحوَّل؟!قال تعالى: ﴿  {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}  ﴾ [الإنسان: 12]؛ أي: إن جزاءهم بسبب صبرهم على البلاء.

 

وقال تعالى: ﴿  {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا}  ﴾ [الفرقان: 75] والغرفة هي المنزلة العالية في الجنة.

 

وقال تعالى: ﴿  {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}  ﴾ [الرعد: 23، 24].

 

تأمَّل الآية السابقة بقلبك، كيف أن الملائكة تُحيِّي الصابرين عندما يدخلون الجنة ويقولون لهم: سلام عليكم؛ وذلك لأنهم صبروا في الدنيا على أقدار الله وعلى الطاعات، وصبروا عن المعاصي، فما أجملها من تهنئة من ملأ كريم! وما أجمله من تكريم عالي المستوى من ملائكة الرحمن لعباد الرحمن الصابرين! اللهم اجعلنا منهم.

 

والبلاء كما أنه يكون سببًا في دخول الجنة فإنه يرفعك به في الجنة.

 

لولاه لما وصلت لدرجتك في الجنة، ففي صحيح الترغيب للشيخ الألباني: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم يصبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له منه».

 

فقدتكون أعمالك لا توصلكلدرجة في الجنة قد كتبها الله لك، فيأتي البلاء فيصعدبك سريعًا كمصعد كهربائي ويرتقي بك في درجات الجنة.

 

البلاء تكفير للسيئات ومحو الخطايا وحط الذنوب:

كل حزن يصيب قلبك سواء على نفسك أو ولدك أو أحد أحبابك، كل فقد لعزيز، كل ألم تشعر به جسديًّا كان أو نفسيًّا، كل إساءة تتعرض لها، كل ضيق في الرزق أو سرقة أو ضياع للمال، كل خوف من عدو أو ظالم، كل نقص في الأموال والأنفس والثمرات، كل هم على الأولاد، كل حزن على أحوال الأمة، كل جرح يصيبك، كل شوكة تشاكها وغيرها من الآلام الجسدية والهموم النفسية، جميعها هدايا من الرحمن لك ليكفر عنك من سيئاتك أو ليحط من خطاياك، ليغسلك من ذنوبك ويُطهِّرك من معاصيك. فما أجملها من عطايا إن استقبلتها بهذه النفسية وبتلك المعاني!

 

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة أكثر من أن أحصرها، سأكتفي بذكر بعضها.

 

في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وَصَب ولا هَمٌّ ولا حزن ولا أذى ولا غَمٌّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه» ".

 

وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيب المؤمن من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا سقمٍ ولا حزنٍ، حتى الهم يهمه إلا كفَّر به من سيئاته».

 

وعن جابر يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب، أو أم المسيِّب، فقال: «مالكِ يا أم السائب، أو يا أم المسيب -يعني: على الشك من الراوي- تزفزفين» ؟» قالت: الحمى، لا بارك الله فيها، فقال: «لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد».

 

عن السيدة عائشة قالت: سمعت رسول الله يقول: «ما من مسلمٍ يُشاك شوكةً فما فوقها إلا كُتِبتْ له بها درجةٌ، و مُحِيَتْ عنه بها خطيئةٌ»؛ (صحيح مسلم).

 

توقف قليلًا مع هذا الحديث وتأمَّل كلماته، الشوكة الواحدة تكتب لك درجة وتمحو عنك خطيئة! ما أرحمك يا ربنا! وما أعظم برك بنا!

 

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة»؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).

 

حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَك، فقلت: يا رسول الله، إنك تُوعَك وعْكًا شديدًا، قال: «أجل، إني أُوعَك كما يوعك رجلان منكم»، قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: «أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها إلا كفَّر الله بها سيئاته، وحُطَّت عنه ذنوبه كما تَحُطُّ الشجرةُ ورقها»؛ (البخاري).

 

الابتلاءات علامة على حب الله:

إن لم يكن للبلاء شرف إلا أن يكون علامة لحب الله للعبد لكفى به شرفًا، أن تشعر أن هذا الابتلاء اصطفاء لك من خالقك ليُدنيك منه، وليسمع صوتك وابتهالك وتضرعك إليه، أن تستشعر أنه يقربك من الأنبياء الذين هم أشد الناس بلاءً، أن توقن أنه يريد لك الخير فلم يرضَ لك بالدنيا الدنية لكنه ادَّخر لك الأجر في الآخرة الهنية، فهل هناك شرف أكثر من ذلك؟!

 

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عَجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة».

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»؛ (حسنه الترمذي).

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»؛ (رواه البخاري).

 

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أيُّ الناس أشد بلاءً» ؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثل، يُبتلَى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ صلابةً، وإن كان في دينه رقَّةٌ خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما له خطيئة»؛ (صحيح الترغيب للألباني).

 

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ خامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ ورَقُهُ مِن حَيْثُ أتَتْها الرِّيحُ تُكَفِّئُها، فإذا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وكَذلكَ المُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بالبَلاءِ، ومَثَلُ الكافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حتَّى يَقْصِمَها اللَّهُ إذا شاءَ»؛ (صحيح البخاري).

 

تأمل معي جمال هذا التشبيه البليغ لرسول الله حيث يمثل المؤمن في تعرضه للبلاء كمثل الزرع اللين يحركه الريح يَمْنةً ويَسْرةً فيميل معه حيث يميل ولا ينكسر، هكذا المؤمن يأتيه البلاء في بدنه وولده وأهله وماله فيصبر ويحتسب حتى يكشف الله عنه فتكون عاقبته خيرًا، في السراء بالشكر، وفي الضراء بالصبر، فيفوز في الحالتين، ويتكيف مع أقدار الله في جميع أحواله.

 

أما الكافر أو المنافق فمثل الشجرة الصلبة المعتدلة التي لا تميل مع الريح ولا تتحرك حتى إذا جاءت ريح عاصفة فتخلعها من جذورها.

 

وهكذا الكافر، يملي الله له ويؤخر عذابه حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر فلا يفلته.

 

وهكذا نرى أن المؤمن معرض لكثير من البلاءات، أما الكافر فلا يتعرض لها كثيرًا بل يعيش ويتمتع دون بلاء حتى يعذبه الله مرة واحدة.

 

ونستفيد من الحديث أيضًا أن الابتلاءات مكفرات للذنوب وعلامة على إيمان العبد.

 

وقال ابن القيم: (هذا المثل ضرب للمؤمن وما يلقاه من عواصف البلاء والأوجاع وغيرها، فلا يزال بين عافية وبلاء، ومحنة ومنحة، وصحة وسقم، وأمن وخوف، وغير ذلك، فيقع مرة ويقوم أخرى، ويميل تارة ويعتدل أخرى، فيكفر عنه بالبلاء ويمحص به ويخلص من كدره، والكافر كله خبث ولا يصلح إلا للوقود، فليس في إصابته في الدنيا بأنواع البلاء من الحكمة والرحمة ما في إصابة المؤمن، فهذه حال المؤمن في الابتلاء).

 

بعد أن استعرضنا عددًا من فوائد البلاء الكثيرة التي لا يمكن إحصاؤها، بقي لنا أن نذكر أنه ليس معنى ذلك أن نتمنى وقوع البلاء علينا، أو أن ندعو الله أن ينزل علينا البلاء؛ لنحصل على هذه الفضائل، ولكن نسأل الله العافية، فنحن لا ندري أنصبر إذا حل علينا البلاء أم نجزع.

 

وأخيرًا تذكر دائمًا أن وراء كل محنة منحة من الله لو فتشت عنها لوجدتها، ووراء كل بلاء نعمة خفية بل قُلْ: نِعَم كثيرة، ووراء كل ألم أمل، ووراء كل ابتلاء عظيم ربٌّ كريمٌ غفورٌ لطيفٌ بك ورحيم، فلا تقل: يا رب، عندي هم كبير؛ ولكن قل: يا هم، عندي رب كبير.

________________________________________________________

الكاتب: سمر سمير

  • 2
  • 0
  • 684

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً