الإكثار من الاستغفار
روى الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار» [رواه البيهقي وحسنه الألباني]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهناك العديد من فضائل الأعمال التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم وحث صحابته على فعلها، وإن هذه الفضائل لتتزاحم في جدول الأولويات من كثرتها وسهولتها وعظيم أجرها، وتجعل المرء يحتار أيها يقدم وأيها يؤخر.
وهناك نوع آخر من الفضائل لم يرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم فحسب وإنما أكثر منها وحث على الإكثار منها، وما ذلك – والعلم عند الله تعالى - إلا لعظم ثوابها وأهميتها.
روى الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار» [رواه البيهقي وحسنه الألباني]
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «(طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا)» رواه ابن ماجه والبيهقي.
ولأهمية الاستغفار خص النبيُ صلى الله عليه وسلم النساءَ بالذكر وأمرهن بالإكثار من الاستغفار قائلاً:
«(يا معشر النساء ! تصدقن وأكثرن الاستغفار)» [متفق عليه] .
فما ضرورة كثرة الاستغفار؟ أليس سائر العبادات تغفر ذنوب العبد وتغني عن الاستغفار؟
لقد ذكر الله لنا في كتابه العزيز أكثر من مائة وخمسين مرة بأنه غفور رحيم، وحثنا على الاستغفار في أكثر من عشرين آية. فالمسلم مطالب أن يكون دائم الاستغفار، فطوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.
فلماذا لم يكثر بعض الناس من الاستغفار؟
إنَّ الاستغفار من أجلِّ العبادات المطلوبة من كل مسلم، فهي عبادة محضة مستقلة مطلوبة منا في كل وقت سواءً كان ذلك بعد اقتراف ذنب أو عمل مباح أو حتى بعد أداء عبادة من العبادات. إلا أن بعض الناس لم يكثروا من الاستغفار ظناً منهم أن كثرة الاستغفار يحتاجه فقط المذنبون والمقصرون في جنب الله.
إنك لتجد أحدهم لو أمرته أو نصحته بكثرة الاستغفار لقال لك: مما أستغفر؟ ولماذا أستغفر وأنا لم ارتكب ذنباً؟ وغيرها من كلمات تحمل في طياتها معان التهرب من الاستغفار، أو الجهل في أهمية هذه العبادة الجليلة.
كثيرا ما يتردد المرء داخل نفسه ويتساءل لم الحاجة إلى كثرة الاستغفار؟
حتى إنَّ بعض الناس ممن اغتروا بصالح أعمالهم قالوا: لا حاجة لنا إلى كثرة الاستغفار باللسان ما دام أن الله وهب لنا الكثير من الأعمال المكفرة للذنوب كالوضوء والصلوات الخمس والجمعة ورمضان والحج والعمرة ونحوها ، فتلك كفارات لما بينهن، إضافة إلى سائر المكفرات الأخرى القولية والفعلية وهي كثيرة.
وما علِم هؤلاء أن الاستغفار إنما شُرع لأهداف سامية، أهمها: التذلل والخضوع لله عز وجل والشعور الدائم بالتقصير وعدم القدرة على استيفاء شكر النعم مهما عظمت أعمالنا، وما استغفارنا في ختام كثير من الأعمال الصالحة والمباحة إلا دليل على ذلك كما أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أحصوا وسجلوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين أو مائة استغفار في المجلس الواحد.
بل نجد أنَّ الشرع أمرنا بالاستغفار عقب الاعمال الصالحة والمباحة
وإليكم بعض الأمثلة:
(1) أُمرنا بالاستغفار في ختام الوضوء:
فعن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ومن توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك ، كتبت في رَقٍ ثم جعل في طابع فلم يُكسر الى يوم القيامة" رواه النسائي.
(2) أُمرنا بالاستغفار في ختام الصلاة:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً.
(3) أُمرنا بالاستغفار بعد أداء مناسك الحج:
فقال تبارك وتعالى {{فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا لله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله من الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} }.
فعلى الرغم أن الحج من أعظم أركان الإسلام التي تُرجع العبد كيوم ولدته أمه ليس عليه ذنب، إلا أنه طُلب من الحجاج أن يكثروا من الاستغفار عقب انتهائهم من شعائر حجهم سيما بعد الافاضة من عرفات. فما بالكم بمن لم يحج؟ فكم عليه أن يستغفر؟ فلعل هذا الأمر يزيدنا اهتماما بالاستغفار!
(5) أُمرنا بالاستغفار بعد قيام الليل:
قال الله تبارك وتعالى {{كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون}} . قال ابن تيمية: أحيوا الليل بالصلاة، فلما كان السَّحَر أُمروا بالاستغفار.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه «(كنا نؤمر إذا صلينا بالليل أن نستغفر بآخر السحر سبعين مرة» ) [رواه البيهقي.] فما بالك بمن لم يقم الليل فكم من مرة يطلب منه أن يستغفر يا ترى؟
(6) أُمرنا بالاستغفار بعد الخروج من الخلاء:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: «(غفرانك)» [رواه الترمذي] .
إن المسلم بدخوله الخلاء لم يرتكب معصية يستحق الاستغفار عليها، ومع ذلك أستحب له أن يستغفر الله بقول « (غفرانك)» بعد خروجه من الخلاء لأنه ظل فترة من الوقت في غير ذكر لله. فما بالكم بمن أمضى معظم وقته في لهو ومعصية فكم عليه أن يستغفر؟
إذا لماذا الحاجة إلى كثرة الاستغفار؟ لأن الاستغفار شرع لأهداف سامية أهمها:
أولاً: استشعار كمال العبودية لله.
فإنَّ أفضل الأبواب للدخول إلى الله تعالى هو الدخول من باب الإفلاس والافتقار إليه -جلَّ وعلا- بأن تخشى بأن العبادة التي قدمتها لا ترضي الله، وأنها لا تليق بجلال الله، ولذلك تستغفر من التقصير عقبها، لا أنْ تدخل من باب الاستغناء والمنُّ على الله.
ولعلكم تلتمسون الحكمة من جعل الاستغفار في ختام الأعمال الصالحة، فتأملوا الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام وفيه يقدم المسلم دمه وروحه لله عز وجل إلا أنَّه في هذا المقام يأمر الله عباده المجاهدين أنْ يستغفروه ويدخلوا إليه من باب التضرع لقبول عملهم، قال الله تعالى { {وكأيِّن من نبيٍ قاتل معه رِبيّون كثيرٌ فما وهنوا لمِا أصابهم في سبيل لله وما ضَعفوا وما استكانوا والله يحبُ الصابرين، وما كان قولَهُم إلا أنْ قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبَنَا وإسرافَنا في أمرنا وثبت أقدامَنا وانصرنا على القوم الكافرين}} .
ومن فوائد الاستغفار: أنه درع واقي للمجتمع من عذاب الله.
فقد قال تبارك وتعالى {{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}} [الانفال 33]. والمرء ينبغي أن يزيد من الاستغفار خصوصاً مع كثرة الفتن والمعاصي والمحرمات التي تعج بها وسائل الإعلام ليل نهار ووقع في شراكها كثير من الناس.
ومن فوائد الاستغفار: أنه لطلب نزول الأمطار في موسمها.
إنَّ الله لا يحبس القطر عن العباد إلا لذنوب ارتكبوها أو لعبادات تركوها.
ولقد بين الله لنا أسبابا عديدة لحبس المطر في السماء والتي منها ترك الاستغفار: قال تعالى على لسان نوح عليه السلام لقومه {{فقلت استغفروا ربكم إنَّه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرار}} .
إنَّ أسرار الاستغفار وكنوزه جهلها كثير من الناس وغفلوا عنها ولذلك لم يكثروا من الاستغفار في مجالسهم.
جاء إلى الحسن البصري (رحمه الله تعالى) رجل يشكي إليه الجدب فقال استغفر الله، ثم شكى إليه آخر الفقر ، وآخر النسل ، وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار. فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعاً من الحاجة فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا له الآية من سورة نوح.
وخرج عمر رضي الله عنه ذات يوم يستسقي فما زاد على الاستغفار، فقيل له ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء.
ومن فوائد الاستغفار: أنه لتفريج الكرب والأزمات.
(1) فإذا استصعبت عليك الأمور فما عليك إلا أن تلزم الاستغفار:
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب)» [رواه الإمام أحمد وصححه أحمد شاكر] .
وقال ابن تيمية (رحمه الله تعالى): إنه ليقف خاطري في المسالة أو الحالة التي تشكل علي، فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل أهـ.
(2) وإذا أبطأ عنك الرزق فما عليك إلا أن تلزم الاستغفار:
فعن سفيان الثوري (رحمه الله تعالى) قال: دخلت على جعفر بن محمد في مسجده فقال: ما جاء بك يا سفيان؟ قال قلت: طلب العلم. قال: فقال يا سفيان: إذا ظهرت عليك نعمة فاتق الله (أي لا تبطر) وإذا استبطأ عنك الرزق فاستغفر الله ، وإذا دهمك أمر من الأمور فقل لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: يا سفيان ثلاث وأيما ثلاث أهـ.
هذه بعض فوائد الاستغفار في الدنيا لعلها تكفينا دليلاً على أهمية الإكثار من الاستغفار طوال حياتنا.
أما فوائد الاستغفار في الآخرة فعديدة:
منها أنها وسيلة لرفع درجة قريبك في الجنة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «(إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقول باستغفار ولدك لك) » [رواه أحمد والطبراني.]
فكثرة استغفارك لوالديك يرفع درجتيهما في الجنة.
ومن فوائد كثرة الاستغفار أنه يثقل الميزان، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «(من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غُفر له وإن كان فَرَّ من الزحف)» [رواه الترمذي] .
وروى الشعبي أن عليَ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «(عجبت لمن يهلك والنجاة معه، قيل له ماهي؟ قال: الاستغفار)» .
فطُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا.
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتب للمؤلف :
(1) كيف تطيل عمرك الإنتاجي ؟
(2) كيف ترفع درجتك في الجنة ؟
(3) كيف تحظى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ؟
(4) كيف تنجو من كرب الصراط ؟
(5) أمنيات الموتى .
(6) كيف تملك قصورا في الجنة ؟
(7) أعمال ثوابها كقيام الليل .
(8) كيف تثقل ميزانك ؟
(9) كيف تفتح أبواب السماء ؟
(10) كيف تجعل الخلق يدعون لك ؟
(11) كيف تنجو من عذاب القبر؟
(12) ذنوب قولية وفعلية تكفرها الصدقة.
(13) أعمال أكثر منها النبي صلى الله عليه وسلم .
- المصدر: