الوداع العظيم
تجلِّي منهج الإسلام العظيم، فهذا المشهد المهيب الذي لم يجتمع في الإسلام جمع مثله، وفي أيام الحج المباركة، تأتي هذه الكلمات النبوية مؤكدة على هذا المعاني العظيمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
في السنة العاشرة من الهجرة النبوية، خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه صحبه الكرام الميامين من المدينة متجهاً إلى مكة لأداء فريضة الحج، وقد خرج معه بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعملَ بعمله، وقد أتم الله عليه النعمة، وفتح له مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد ذي الحليفة، ثم ركب ناقته القصواء يحوطه الناس على مد البصر بين يديه ومن خلفه، فأَهَلَّ بكلمة التوحيد «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك له»، ولبى الناس معه.
طاف النبي صلى الله عليه وسلم وسعى، ولم يُحِل من عمرته لأنه ساق الهدي معه، ثم خرج إلى منى في اليوم الثامن فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأمر بقبة من شعر تضرب له في نمرة فنزل بها حتى زالت الشمس، فأتى الوادي، فخطب في الناس خطبة الوداع العظيمة:
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع.
ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل.
«ورِبَا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله».
«فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
«ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
«وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تُسألون عـني، فما أنتم قائلون» ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأدَّيت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات.
إنها جمل قصيرة، تجمع معاني عظيمة، خصها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام العظيم، في أيامه الأخيرة عليه الصلاة والسلام، تجلِّي منهج الإسلام العظيم، فهذا المشهد المهيب الذي لم يجتمع في الإسلام جمع مثله، وفي أيام الحج المباركة، تأتي هذه الكلمات النبوية مؤكدة على هذا المعاني العظيمة:
1- حرمة الدماء والأموال والأعراض، مع التشديد في هذه الحرمة، وهو من الأحكام التي قد لا تخفى على المسلمين، لكن التأكيد عليها بمثل هذه الطريقة هو تعظيم لهذه الدماء، وسدٌّ للذرائع أمام التأولات الفاسدة في انتهاكها، وهو ما يوجب على المسلمين أن يجتهدوا في بذل الأسباب التي تصون هذه الحقوق من أي تجاوز.
2- النهي عن عادات الجاهلية الذميمة، وقد عبَّر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بتجنب كل أمر من أمورها، فقد أبدلهم الله بها الإسلامَ عقيدة وأخلاقاً وشريعة فلا يقدَّم عليه أي شيء آخر، وهو ما يوجب على المسلمين ضرورة التمسك بقيم الإسلام، والاستعلاء على أي قيم أخرى تنافيه.
ومن عادات الجاهلية الثأر للدماء، وإثارة الفتن انتقاماً لها، وهو ما يغذي في النفوس الاختلاف والتفرق والشتات مما ينافي ما جاء به الإسلام من رحمة وجمع للكلمة وتأليف للقلوب، فكان من عظيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أن أسقط كل هذه الثارات الجاهلية فلم يبقَ إلا الاحتكام إلى الشرع، والخضوع لقضاء الإسلام، فلا تؤخذ الحقوق غلاباً، ولا تزر وازرة وزر أخرى، بل يؤخذ الجاني، وتحفظ الحقوق، وتصان الدماء.
3- إبطال الربا، وهو من عادات الجاهلية القائمة على الظلم واستغلال الفقير والمحتاج، وإبطالُ مثل هذه المعاملة القائمة على الجشع والاستغلال هو تعزيز للقرض الحسن، والرفق بالمحتاجين، والإنظار للمعسرين، ونحو هذه القيم المثالية التي يتميز بها نظام الإسلام في المعاملات المالية.
4- تعظيم العدل، ومن أعظم صوره هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بدأ بنفسه والأقربين، فأول دمٍ أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم هو دم ابن عمه، وأول ربا أسقطه هو ربا عمه، فهو أنموذج عملي لعظمة هذه الرسالة؛ أن قائدها هو أول من يمتثل لقيمها العظيمة، وقد سار على ذلك صحابته الميامين، فكانت الخلافة الراشدة أنموذجاً بديعاً من تطبيق أحكام الإسلام، والتزام قادته بأن يحافظوا على هذه الأحكام في أنفسهم أكثر من غيرهم.
5- التأكيد على حقوق النساء، وهذا التأكيد يوجب مزيد احتياط في مراعاة حقوق النساء، فما أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام إلا لأهميته.
6- بيان حقوق الأزواج والزوجات، فالأسرة هي بناء المجتمع المسلم، لا يتأسس المجتمع المسلم إلا من خلاله، فجاءت هذه الأحكام المفصلة لبيان شرف الأسرة.
7- الالتزام بكتاب الله، وشدة التمسك به.
8- كمال الرسالة، فقد أدى الرسالة، وأشهد الأمة على ذلك، فالواجب على المسلمين أن يحافظوا عليها نقلاً وحفظاً ورواية ودراية، وأن يحفظوها من أي تحريف.
والشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأداء الرسالة لا تتم إلا بالتسليم لسنته عليه الصلاة والسلام، لأنها المبيِّنة للقرآن، والمفصلة لأحكامه، والشاهدة على حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على البلاغ، والنصح لهذه الأمة، وتعليمها كل ما تحتاج من أمر دينها.
فيا لهذه الكلمات القليلة كم حوت من معانٍ عظيمة! فهي دعوة للتمسك بكتاب الله، على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع حفظ حقوق المسلم في دمه وماله وعرضه، ورفضه لما يخالف دينه من عادات الجاهلية، واجتهاد في الأخذ بالعدل، وتجنب الظلم، والتنزه عن مسالك الجشع واستغلال المحتاجين، مع حفظ حق النساء، والتأكيد على حقوق الزوجين اللذَين بهما تنعم الأسرة المسلمة، كل هذه المعاني العظيمة وغيرها قد جاءت في هذه الخطبة المهيبة التي سميت بخطبة الوداع، فيا له من وداع! فاللهم صلِّ عليه وسلم تسليماً كثيراً.
- التصنيف:
- المصدر: