توجيهات وبشريات من الله للمؤمنين

منذ 2024-08-13

على أرض غزة العزة وتحت أرضها في الخنادق دارت المعارك وسالت الدماء في ثبات منقطع النظير أذهل كل العالم المؤمن والكافر، ولا نصير لهم إلا الله، مع قلة الداعمين لهم.

لقد قدَّر الله أن يكون طريق المؤمن إلى الجنة محفوفًا بالمكاره، إنها سنة العقيدة والدعوة إلى الله، لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة.

 

إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره، لتكوين المؤمن الذي يتحمل هذه الدعوة، وينهض بتكاليفها.

 

إن طريق التربية لهذا المؤمن، هو إخراج مكنونات نفس المؤمن من الخير والقوة والاحتمال.. وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف؛ والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة.

 

عندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في نفس المؤمن، وعندما تكون هذه النفس قد أخرجت من حسابها الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها متاع الغرور الزائل.. عندئذ تكون قد استعدت للبلاء.

 

ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا. فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها والصبر عليها. فهم عليها مؤتمنون.

 

وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال، فلا يفرطون فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال.

 

وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة. فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنميها وتجمعها وتوجهها. والدعوة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة.

 

وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس. ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال.

 

ووالله الذي لا إله إلا هو، إن هذا ما نشاهده يوميًّا في غزة؛ اجتماع قوى اليهود والصليبية العالمية وكل دول الشرك والمنافقين، وما تمارسه من سفكٍ لدماء الأطفال والشيوخ والنساء وتدمير شامل لكل الحياة، وحصار وتجويع.

 

ثم.. لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير، ولا بد فيها من سر، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون.. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها.. أفواجا.. في نهاية المطاف! ونأمل من الله لهم ذلك... {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

 

ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان، فقد روى الترمذي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. «فيبتلى الرجل على حسب دينه. فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة».

 

وهكذا علم المجاهدون في غزة ما ينتظرهم من تضحيات وآلام. وما ينتظرهم من أذى وبلاء في الأنفس والأموال. من اليهود. ومن المشركين أعدائها. ومن المنافقين والمتصهينين في صفوف المسلمين.

 

لقد ساروا في الطريق. لا تخاذل، ولا تراجع، ولم ينتكصوا على أعقابهم.. لقد استيقنوا أن كل نفس ذائقة الموت. وأن الله يوفيهم أجورهم يوم القيامة. وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور.

 

على أرض غزة العزة وتحت أرضها في الخنادق دارت المعارك وسالت الدماء في ثبات منقطع النظير أذهل كل العالم المؤمن والكافر، ولا نصير لهم إلا الله، مع قلة الداعمين لهم.

 

وطريق جهاد أهل غزة مفتوح يراه كل إنسان، وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها، تتوالى الآلام وتسيل الدماء ويكثر الشهداء وهم على عهدهم مع ربهم.

 

وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان، وتختلف وسائل الدعاية ضد المؤمنين، ووسائل إيذائهم في سمعتهم وفي مقوماتهم وفي أعراضهم وفي أهدافهم وأغراضهم.

 

ولكن القاعدة واحدة:

{لَتُبْلَوُنَّ فِىٓ أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

 

ولقد تعددت صور مكايد اليهود والمشركين؛ وصور دعايتهم للبلبلة والتشكيك، أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها، وأحيانا في أصحابها وقيادتها. وهذه الصور تتجدد مع الزمان. وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية، وإلى كل مسلم، فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للمسلمين، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق..

 

ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدًا للمسلمين كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الحديثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها..

 

التوجيه القرآني لأهل غزة:

يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرًا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة، وطبيعة طريقها، وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق، ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة.. أنها سائرة في الطريق، وأنها ترى معالم الطريق!

 

ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي.. تستبشر بهذا كله، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل. وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق. ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى؛ وتمضي في طريقها الموعود، إلى الأمل المنشود.. في صبر وفي تقوى.. وفي عزم أكيد..

_____________________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى

  • 0
  • 0
  • 213

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً