وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما

منذ 2024-08-20

يُعالِجُ القرآن الكريم مشكلةَ الجهل والجاهلين في مواضعَ كثيرة، وقضيةُ الجهل من القضايا المهمة التي تناوَلَها القرآن الكريم، واضعًا الحلولَ والمعالجات المهمة لها.

يُعالِجُ القرآن الكريم مشكلةَ الجهل والجاهلين في مواضعَ كثيرة، وقضيةُ الجهل من القضايا المهمة التي تناوَلَها القرآن الكريم، واضعًا الحلولَ والمعالجات المهمة لها.

ونركز في هذا المقال على قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].

 

يقول الله سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] بالحلم والسكينة والوقار، غير مستكبرين ولا متجبِّرين، ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله.

واختلف أهل التأويل، فقال بعضهم: عنى بقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] أنهم يمشون عليها بالسكينة والوقار.

 

عن الحسن في {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، قال: حلماء، وإن جُهل عليهم، لم يجهلوا.

وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، يقول: وإذا خاطبهم الجاهلون باللهِ بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسدادِ من الخطاب.

 

عن الحسن في قوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، قال: إن المؤمنين قوم ذُلُلٌ، ذلت منهم واللهِ الأسماعُ والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهلُ مرْضى، وإنهم لأصحَّاء القلوب، ولكن دخَلهم من الخوف ما لم يدخل غيرَهم، ومنعهم من الدنيا علمُهم بالآخرة، فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]، والله ما حزنهم حزن الدنيا، ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لم يتعزَّ بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم يرَ لله عليه نعمة إلا في مطعم ومشرب، فقد قل علمُه وحضر عذابه[1].

 

وفي التفسير: "يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد، والقصدُ والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، عليكم بالسكينة؛ فإن البرَّ ليس في الإيضاع»، وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعًا، ويخطو تكفؤًا، ويمشي هونًا، ذريع المشية إذا مشى، كأنما ينحط من صبَبٍ.

 

التقلُّع: رفع الرِّجل بقوة، والتكفُّؤ: الميل إلى سَنَنِ المشي وقصده، والهون: الرِّفق والوقار، والذريع: الواسع الخطى؛ أي: إن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه، خلاف مشية المختال، ويقصد سمته، وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة.

 

وهو لمَّا ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة، ذكر عباده المؤمنين أيضًا وذكر صفاتهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفًا لهم، كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، فمن أطاع الله وعبَده، وشغل سمعَه وبصره ولسانَه وقلبه بما أمره، فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا، شمله قولُه تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]؛ يعني في عدم الاعتبار، كما تقدم في الأعراف، وكأنه قال: (وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض)، فحذف (هم)؛ كقولك: زيد الأمير؛ أي: زيد هو الأمير، فـ {الَّذِينَ} [الفرقان: 63] خبر مبتدأ محذوف؛ قاله الأخفش، وقيل: الخبر قوله في آخر السورة: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]، وما بين المبتدأ والخبر أوصافٌ لهم، وما تعلق بها؛ قاله الزجاج، قال: ويجوز أن يكون الخبر {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} [الفرقان: 63]، و {يَمْشُونَ} [الفرقان: 63] عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض، وهو معاشرة الناس وخلطتهم.

 

قوله تعالى: {هَوْنًا} [الفرقان: 63]، الهون مصدر الهين، وهو من السكينة والوقار، وفي قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، قال النحَّاس: ليس {سَلَامًا} [الفرقان: 63] من التسليم، إنما هو من التسلم؛ تقول العرب: سلامًا؛ أي تسلمًا منك؛ أي براءة منك، منصوب على أحد أمرين: يجوز أن يكون منصوبًا بـ {قَالُوا} [الفرقان: 63]، ويجوز أن يكون مصدرًا؛ وهذا قول سيبويه"[2].

 

وقال ابن وهب: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، قالوا سدادًا من القول[3].

ويرى الأخفش أن معنى الآية هو البراءة، يقول: "وقال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]؛ أي: قالوا: "بَراءَةً مِنْكُم"؛ لأنَّ "السَّلام" في بعض الكلام هو: البراءة؛ تقول: "إنَّما فلانٌ سَلامٌ بِسلام"؛ أي: لا يُخالِطُ أحدًا"[4].

 

وقال الماوردي: "قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]؛ فيه أربعة أقاويل:

أحدها: علماء وكلماء؛ قاله ابن عباس.

الثاني: أعفاء أتقياء؛ قاله الضحاك.

الثالث: بالسكينة والوقار؛ قاله مجاهد.

الرابع: متواضعين لا يتكبرون؛ قاله ابن زيد.

 

{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، الجاهلون هم السفهاء، {قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]؛ فيه أوجه:

• قالوا: وعليك السلام؛ قاله الضحاك.

• أنه طلب المسالمة؛ قاله ابن بحر"[5].

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: "وإذا سفِه عليه الجاهلُ، قال: وعليك السلام"[6].

 

وقال مكي بن أبي طالب القيسي: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]: إذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهون من القول، أجابوهم بالمعروف والسداد من الخطاب، فقالوا: تسلُّمًا منكم، وبراءة بيننا وبينكم"[7].

 

إذًا هذا الحل الذي يقدِّمه القرآن الكريم عند التعرُّض لأي موقفٍ من جاهل، حلٌّ يسير وعملي، وقابلٌ للتطبيق في أي زمان ومكان، إنه حل: {قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، بهذه الكلمة فقط، وما أيسَرَها، وأسهَلَها، وأوضَحَها! تواجه موقف الجهل من أي جاهل، فبدلًا من أن تقضي الوقت في التخاصم والمنازعة، يعلِّمك القرآن الكريم أن تواجه الجاهلَ بكلمة: {قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، وما يلزم منها من سكينة وحلم ووقار، والمعروف من القول، والسداد من التخاطب.

 

وتبارك الله ربُّنا أحسن القائلين، سبحانه وتعالى.

 


[1] محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ): "جامع البيان عن تأويل القرآن"، المحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م، 19 / 295.

[2] أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ): "الجامع لأحكام القرآن/ تفسير القرطبي"، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م، 13 / 68، 70.

[3] أبو محمد عبدالله بن وهب بن مسلم المصري القرشي (المتوفى: 197هـ): "تفسير القرآن من الجامع لابن وهب"، المحقق: ميكلوش موراني، دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2003 م، 1 / 14. وانظر: أبو بكر عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني (المتوفى: 211هـ): "تفسير عبدالرزاق"، دراسة وتحقيق: د. محمود محمد عبده، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، سنة 1419هـ، 2 / 459.

[4] أبو الحسن المجاشعي بالولاء، البلخي ثم البصري، المعروف بالأخفش الأوسط (المتوفى: 215هـ): "معانى القرآن"؛ للأخفش، تحقيق: الدكتورة هدى محمود قراعة، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1411 هـ - 1990 م، 1 / 180.

[5] أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، (المتوفى: 450 هـ): "تفسير الماوردي = النكت والعيون"، تحقيق: السيد بن عبدالمقصود بن عبدالرحيم، دار الكتب العلمية -بيروت / لبنان، بدون تاريخ، 4 / 155، وقارن مع: جمال الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي، (المتوفى: 597 هـ): "زاد المسير في علم التفسير"، المحقق: عبدالرزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الأولى - 1422 هـ، 3/327.

[6] أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي، ابن أبي حاتم (المتوفى: 327هـ): "تفسير القرآن العظيم"؛ لابن أبي حاتم، المحقق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثالثة - 1419 هـ، 8 / 2722.

[7] أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمُّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي (المتوفى: 437هـ): "الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه، وجمل من فنون علومه"، المحقق: مجموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث العلمي - جامعة الشارقة، بإشراف أ. د: الشاهد البوشيخي، مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة، الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م، 8 / 5253.

_________________________________________________
الكاتب: د. رواء محمود حسين

  • 3
  • 0
  • 351

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً