الحشر وجمع الخلائق في الموقف وأحوالهم فيه
نؤمن بأن الله تعالى يجمع الخَلْق - أولهم وآخرهم - ليوم الفصل، يوم يفصل الرحمن بين الخلائق
محمد حسن نور الدين إسماعيل
الحشر[1]:
وقد ورد في ذِكره وذِكر صفاته كثيرٌ من الآيات والأحاديث:
قال تعالى: {﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾ } [مريم: 85، 86]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وَفْدًا: رُكبانًا، أما الوِرْد: الجماعة العِطاشُ، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا، وقال سبحانه: {﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾} [الإسراء: 97].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «يُحشَر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين[2]، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير[3]، وعشَرة على بعير، ويحشُرُ بقيَّتَهم النارُ، تَقِيلُ معهم حيث قالوا، وتبِيتُ معهم حيث باتوا، وتُصبِح معهم حيث أصبحوا، وتُمسي معهم حيث أمسَوْا» )[4].
قال الخطابي: هذا الحشر يكون قبل قيام الساعة، يحشر الناس أحياءً إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو على خلاف هذه الصُّورة من الركوب على الإبل، والتعاقُب عليها، وإنما هو على ما ورد في حديث ابن عباس: (حفاة عراة مشاة)، وكذا رجحه ابن حجر في فتح الباري.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «تحشرون حفاةً عراة غرلاً» [5])) - أي: غير مختونين - قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظُر بعضهم إلى بعض؟ فقال: (( «الأمر أشدُّ من أن يُهمَّهم ذلك» ))[6]، وفي روايات النسائي وابن أبي حاتم والترمذي:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] (صححه الألباني رحمه الله تعالى).
جمع الخلائق في الموقف، وأحوالهم فيه:
فنؤمن بأن الله تعالى يجمع الخَلْق - أولهم وآخرهم - ليوم الفصل، يوم يفصل الرحمن بين الخلائق؛ قال تعالى: ﴿ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ﴾ [النساء: 87]، وقوله سبحانه ﴿ { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [7] ﴾ [التغابن: 9]، وهذا الجمع يعُم عوالمَ السموات وعوالم الأرضين، فيكون في الموقف الرُّوحُ (جبريل عليه السلام) والملائكة مع غيرهم، وقد وصَف الله تعالى موقف يوم القيامة بما فيه من عظمة وجلال وشدة في آيات كثيرة، فقال سبحانه: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [المطففين: 4، 5]، وقال: ﴿ { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} ﴾ [غافر: 18]؛ فالقلوبُ زائلةٌ عن أماكنها، والأبصار شاخصةٌ مِن هول يوم اليوم، ومعنى كاظمين: ساكنين، وقال البغوي: مَكْروبين ممتلئين خوفًا وجزعًا، والكظم تردُّد الغيظِ والحُزن في القلب حتى يضيق به، وذلك كله ﴿ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ﴾ [المعارج: 4]، ﴿ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ﴾ [عبس: 37].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعرف بعضهم بعضًا، ويتعارَفون بينهم، ثم يفرُّ بعضهم من بعض بعد ذلك؛ ﴿ {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ } ﴾ [المؤمنون: 101]، فهو موقفٌ عظيم تنقطع فيه علائقُ الأنساب، وينعجم فيها البليغُ في المقال؛ حتى إن أفصحَ الناس وأعلمهم وأفضلهم لا يُسمَع له صوت، ولا يتكلم أحد إلا بإذن الله عز وجل: ﴿ {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ﴾ [هود: 105].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( «يعرَقُ الناسُ يوم القيامة حتى يذهب عرَقُهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويُلجِمهم حتى يبلغ آذانهم» ))[8].
[1] الحشر: الجمع، واجتماع الخَلْق يوم القيامة، وجمعها: حشور، ويوم الحشر: يوم القيامة (المعجم الوجيز).
[2] لم يذكر الخمسة والستة إيجازًا واكتفاءً بما ذكر من الأعداد (فتح الباري ج 11).
[3] يحتمل أن هؤلاء عوامُّ المؤمنين، وهم مَن خلَط عملاً صالحًا وآخرَ سيئًا، فيترددون بين الخوف والرجاء وهم يحشرون مشاة، والصِّنف الثاني أفاضل المؤمنين، يُحشرون ركبانًا، ويحتمل العكس؛ فيكون الراغبون الراهبون الأبرار يُحشرون ركبانًا، والصنف الثاني دونهم في الفضل فيحشرون مشاةً، وذلك على القول بأنهم يعتقبون الإبل فلا يسلمون من المشي، ويحتمل أن يكون البعير المذكور من بدائع فطرة الله حتى يقوى على ما لا يقوى عليه غيره من البُعْران، فيقوى على حمل العشَرة معًا؛ (انظر: فتح الباري ج 11).
[4] رواه البخاري ومسلم والنسائي رحمهم الله تعالى.
[5] غُرلاً: جمع أغرل، وهو الأقلف (غيرُ المختون).
[6] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
[7] أصل الغَبن في اللغة: المخادعة في البيع والشراء، واستعير هنا بمعنى أن يغبن الناس بعضهم بعضًا بنزول السعداء منازلَ الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداءَ، ومنازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفي الحديث: ((ما من عبدٍ يدخل الجنة إلا أُرِي مقعده من النار لو أساء؛ ليزداد شكرًا، وما من عبد يدخل النار إلا أُري مقعده من الجنة لو كان أحسن؛ ليزداد حسرة))، وتخصيص التغابن بذلك اليوم للإيذانِ والإعلام بأن التغابن - في الحقيقة - هو الذي يقع فيه؛ (أي في يوم القيامة)؛ (هامش حاشية تفسير السعدي والتعليق عليه).
[8] رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- التصنيف:
- المصدر:
عنان عوني العنزي
منذ