لا خاب من تغافل

منذ 2024-10-18

كل هذه لغات لا تفهمها إلا النفوس الراقية التي تقدر الشعور الإنساني ولا تريد أن تخدش بريقه ولا تكسر كبريائه ولا تحط من قدره ولا تنال من حيائه.

 

محمد عبدالرحمن صادق

• هل جربت مرة أن تلاحظ نشوة شعورك حين تتغافل عن هفوة فعلها إنسان عن قصد أو دون قصد؟

• هل جربت قياس الرضا النفسي الذي تشعر به وأنت ترفع عن هذا الإنسان ألم الحرج أو الاعتذار؟

• هل قرأت في بريق عينيه العِرفان والتقدير والاحترام لما قمت به؟

• هل لاحظت الخجل الذي اعتراه حين التزمت الصمت وتظاهرت بالتغافل وعدم التأثر بما بَدَر منه؟

 

♦ كل هذه لغات لا تفهمها إلا النفوس الراقية التي تقدر الشعور الإنساني ولا تريد أن تخدش بريقه ولا تكسر كبريائه ولا تحط من قدره ولا تنال من حيائه.

♦ كل هذه محاضرات تربوية عابرة للقلوب لا تحتاج لترتيبات مُسبقة، ولا تستهلك زمناً، ولا تحتاج لوسائل تعليمية حديثة، ولا تحدها جدران قاعات.

♦ كل هذه محاضرات يستفيد منها المعلم والمتعلم على السواء فالمعلم يزداد رقياً ويأخذ بيد المتعلم ليصعدا سوياً سُلم لدرب من دروب الأخلاق قلما يستعمله كثير من البشر.

♦ كل هذه رسائل مُفعمة بتقدير الحب، والإبقاء على الود، وسلامة الصدر، وحسن النية، ولين الجانب.

♦ كل هذه رسائل مضمونها أن ما بنته السنوات لا تهدمه الهفوات.

 

• ولقد ضرب نبي الله يوسف عليه السلام أروع الأمثلة في ذلك عندما تغافل عن تطاول اخوته في حقه. قال تعالى: {﴿ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ } [يوسف: 77].

 

أولاً: معنى التغافل:

جاء في المعجم الوسيط: تغافل فلان: تظاهر بالغفلة أو تعمَّدَها؛ أي بالسَّهو وقلَّة التَّيقّظ.

هذا الرجلُ ليس مُغفَّلاً ولكنه يتغافل.

تغافل المتَّهم أمام القاضي: تغافل بيمينه.

• فالتغافل إذاً هو: الترفع عن الدنايا وسفاسف الأمور وهفواتها التي لا تغير الحقائق ولا تبدد الحقوق ولا تحط من الكرامة ولا تقر مُنكراً ولا تنكر معروفاً ولا تؤصل لباطل.

 

• من أسماء الله تعالى الحُسنى (العفو) جل جلاله: هو الكثير العفو والصفح، إلى ما لا نهاية له، فلولا عفوه لهلك أهل الأرض ومن فيها، لكثرة ما يعصى في حقه، ليلًا ونهارًا وهو تعالى كثير الخير يهب الفضل من يشاء من عباده.

 

• قال الإمام السعدي - رحمه الله - في " تيسير الكريم الرحمن ": " (العَفْوُّ، الغَفور، الغَفَّار) الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفًا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفًا، كل أحدٍ مضطرٌ إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطرٌ إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها، قال تعالى: {﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾} (طه 82).

• قال الحليمي - رحمه الله - في " المنهاج ": " العَفْوُّ، معناه: الواضعُ عن عباده تَبِعَات خطاياهم وآثارهم، فلا يستوفيها منهم، وذلك إذا تابوا واستغفروا، أو تركوا لوجهه أعظم مما فعلوا، فيُكفِّر عنهم ما فعلوا بما تركوا، أو بشفاعة من يشفع لهم، أو يجعل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به، وجزاء له بعمله ".

ثانياً: بعض آيات العفو التي وردت في القرآن الكريم:

لقد وردت في العديد من سور القرآن الكريم كثيرا من الآيات التي تبين عفو الله تعالى عن عباده، والتي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ بهذا الخلق، والتي تحث المؤمنين على العفو والصفح والتسامح فيما بينهم ابتغاء وجه الله تعالى وطمعاً في عفوه سبحانه ومثوبته.

أ) بعض الآيات الدالة على عفو الله تعالى عن عباده:-

1- قال تعالى: {﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾}   [البقرة 52].

2- قال تعالى: { ﴿ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾}   [النساء 98 - 99].

3- قال تعالى: {﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾}   (الشورى 25).

4- قال تعالى: {﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ } (الشورى 30).

ب) أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المؤمنين:

1- قال تعالى: { ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾} (آل عمران 159).

2- قال تعالى: {﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾} (المائدة 13).

3- قال تعالى: {﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾} (الأعراف 199).

4- قال تعالى: {﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ } (الشعراء 214 – 215).

5- قال تعالى: {﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾} (الزخرف 89).

6- قال تعالى: { ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ } (التحريم 3).

ج) بعض الآيات التي تحث المؤمنين على العفو والصفح والتسامح فيما بينهم:-

1- قال تعالى: ﴿ ..... {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ﴾ (البقرة من الآية 109).

2- قال تعالى: {﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾} (البقرة 237).

3- قال تعالى: {﴿ إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾} (النساء 149).

4- قال تعالى: {﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾} (الحجر 85).

5- قال تعالى: {﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾} (المؤمنون 1 - 3).

6- قال تعالى: {﴿ ..... وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾} (النور من الآية 22).

7- قال تعالى: {﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾} (القصص 55).

8- قال تعالى: {﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾} (الشورى 40 )

9- قال تعالى: {﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾} (الجاثية 14).

10- قال تعالى: {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾} (التغابن 14).

هذه الآيات وغيرها تضعنا أمام منظومة متكاملة من العفو والتسامح. ومن الملاحظ أن العفو هنا جاء من موضع قوة وتمكن وعِزة وسيطرة فالله تعالى بقدرته إن شاء عفا عن الذنب وإن شاء أخذ به. والنبي صلى الله عليه وسلم حين أُمره الله تعالى بالعفو أمره وهو في مواضع العزة وليس الانقياد والخنوع وحاشاه سبحانه أن يرضى لنبيه ذلك. وكذلك المؤمن حين يُؤمر بالعفو يكون ذلك انقياداً لأمر الله تعالى وترفعاً عن الدنايا وعن سفاسف الأمور فالدنيا بما فيها ليست للمؤمن هدفاً ولا مَغنماً وأنه لا يترفع عن الدنايا إلا كريم.

ثالثاً: بعض الأحاديث التي وردت في السنة النبوية المطهرة التي تحث على التسامح والصفح والعفو:

1- سُئِلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالت: «" لم يكن فاحشًا ولا مُتَفَحِّشًا ولا صَخَّابًا في الأسواقِ، ولا يَجْزِي بالسيئةِ السيئةَ، ولكن يَعْفُو ويَصْفَحُ "» (رواه الترمذي). * صخاباً: صياحاً.

2- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: " « كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذا بلغَه عن الرجلِ الشيءَ، لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقولُ , ولكن يقولُ: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا "» (رواه أبو داود).

3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" ألا تعجَبونَ كيف يصرِفُ اللهُ عنِّي شتمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتِمونَ مُذمَّمًا ويلعَنونَ مُذمَّمًا، وأنا محمَّدٌ "» (رواه البخاري).

4- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر "» (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود).

5- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: « " خدمتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عشرَ سنينَ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، وما قال لي لشيٍء لِمَ أفعلْهُ: ألا كنتَ فعلتَه؟ ولا لشيٍء فعلتُه: لِمَ فعلتَه؟ "» (رواه الألباني بإسناد صحيح).

6- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «" ما خُيِّرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بين أمريْن قطُّ إلا أخذَ أيْسرَهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعدَ الناسِ منه، وما انتقمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لنفسِه في شيءٍ قطُّ إلا أن تُنْتَهَكَ حُرْمةُ اللهِ، فينتقمَ بها للهِ "» (رواه البخاري).

7- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" أقيلوا ذوي الهيئاتِ عثْراتِهم؛ إلا الحدودَ "» (رواه الألباني بإسناد صحيح).

• قال الإمام الشافعي رحمه الله: " وذوو الهيئات الذين يقالون عثراتهم: هم الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة ".

• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: " والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه ".

• ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مُخطئين في بعض الأشياء خطأً مغفوراً لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مُطلقاً..... ".

• ويقول الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - في كتاب " تصنيف الناس بين الظن واليقين ": " التزم الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل، وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه، ولا تتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص، وباتخاذها رصيداً ينفق منه الجراح في الثّلب والطعن، وأن تدعو له بالهداية. أما التزيد عليه، وأما البحث عن هفواته، وتصيدها، فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين"

8- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " « بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأبا مرثدٍ الغنَوي والزبيرَ بنَ العوامِ، وكلُّنا فارسٌ، قال: (انطلِقوا حتى تأتو روضةَ خاخٍ، فإنَّ بها امرأةً من المشركِين، معها كتابٌ من حاطبِ بن أبي بلتعةَ إلى المشركين). فأدركناها تسيرُ على بعيرٍ لها حيث قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقلنا: الكتابَ، فقالتْ: ما معنا كتابٌ، فأنخناها فالتمسْنا فلم نر كتابًا، فقلنا: ما كذب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، لتُخرجِنَّ الكتابَ أو لنجرِّدنَّكِ، فلما رأتِ الجدَّ أهوتْ إلى حجزتِها، وهي محتجزةٌ بكساءٍ، فأخرجتُه، فانطلقنا بها إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال عمرُ: يا رسولَ اللهِ، قد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين، فدعْني فلْأضربْ عنقَه. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (ما حملك على ما صنعتَ). قال حاطبٌ: واللهِ ما بي أن لا أكون مؤمنًا باللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أردتُ أن يكون لي عند القومِ يدٌ يدفع اللهُ بها عن أهلي ومالي، وليس أحدٌ من أصحابِك إلا له هناك من عشيرتِه من يدفعُ اللهُ به عن أهله وماله. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (صدق، ولا تقولوا له إلا خيرًا). فقال عمرُ إنه قد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين، فدعْني فلْأضربْ عنقَه. فقال: (أليس من أهل بدرٍ؟ فقال: لعل اللهَ اطلع إلى أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتُم، فقد وجبتْ لكم الجنةُ، أو فقد غفرتُ لكم). فدمعت عينا عمرَ، وقال: اللهُ ورسولُه أعلمُ.» (رواه البخاري).

♦ روضةَ خاخٍ: موضع في أسفل النقيع بين الحرمين؛ قرب حمراء الأسد من جهة المدينة المنورة.

♦ حجزتها: الحُجْزة: مكان شدّ الإزار من الوسط، أو مكان التكَّة من السراويل.

♦ وعن هذه الواقعة قال ابن القيم - رحمه الله - في " مفتاح دار السعادة ": " فدل ذلك على أن مقتضى عقوبة حاطب قائم لكن منع من ترتيب أثره عليه لما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات ".

♦ وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله – في موضع آخر: ".... من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يُحتمل له ما لا يُحتمل من غيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث؛ بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى الخبث ".

رابعاً: مواقف وأقوال في التغافل:

1- قال أبو علي الدّقاق النيسابوري رحمه الله:.. جاءت امرأة فسألت حاتم الأصم عن مسألة، وأثناء السؤال صدر منها صوت خجلت منه، قال حاتم: ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصمّ، فسُرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلُقِّب بحاتم الأصم، وهو ليس بأصمّ، بل تظاهر بأنه ضعيف السمع، مما أوحى للمرأة بأنه أصم، مراعاة لمشاعرها، ولأجل أن لا يوقعها في الحرج ".

2- دخل عمر بن عبد العزيز المسجدَ في ليلةٍ مُظلمة، فمرَّ برجل نائم فعَثَر به، فرفع الرجلُ رأسَه وقال: أمجنونٌ أنت؟ (وما علم أنَّه أمير المؤمنين)، فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مَهْ، إنَّما سألني أمجنون؟ فقلت: لا.

3- قيل أن صديقا حدث له ما يغضبه من ابن السماك فقال له: " الميعاد بيني وبينك غدًا نتعاتب، فرد عليه ابن السماك رحمه الله تعالى بأبلغ جواب قال: بل بيني وبينك غدًا نتغافر ".

4- جاء في " روضة العقلاء ونزهة الفضلاء " قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه: " من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه وترك التوقع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه إلى أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء ومن لم يدار صديق السوء كما يداري صديق الصدق ليس بحازم ".

5- قال ابن الأثير - رحمه الله - مُتحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي: " وكان صَبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعلمه بذلك، ولا يتغير عليه ".

6- جاء في كتاب " الأدب الصغير والأدب الكبير " قال ابن المقفع: " إن من إرب الأريب دفن إربه ما استطاع، حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة، والاستقامة على الطريقة ". * إرب: دهاء.

7- قال ابن حزم -رحمه الله-: " احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفّظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك؛ حتى ربما أضر ذلك بك، وربما قتلك ".

8- قال ابن القيم رحمه الله: " يا ابن آدم، إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو، وإنك تحب أن يغفرها لك الله، فإذا أحببت أن يغفرها لك، فاغفر أنت لعباده، وإن وأحببت أن يعفوها عنك، فاعف أنت عن عباده، فإنما الجزاء من جنس العمل.. تعفو هنا يعفو هناك، تنتقم هنا ينتقم هناك ".

9- أسمع رجلٌ أبا الدرداء رضي الله عنه كلامًا، فقال: " يا هذا، لا تغرقنَّ في سبِّنا، ودع للصُّلح موضعًا؛ فإنَّا لا نكافئ مَن عصى اللهَ فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه ".

10- قال الإمام أحمد رحمه الله: " تسعة أعشار حُسن الخلق في التغافل ".

11- قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: "العقلُ: ثلثُه فطنةٌ، وثلثَاه تغافلٌ ".

12- قال الحسن البصري رحمه الله: " ما استقصى كريم قط ".

13- قال الأعمش رحمه الله: " التغافل يُطفئ شراً كثيراً ".

14- قال ابن المبارك رحمه الله: " المؤمنُ يطلبُ المعاذيرَ، والمنافق يطلب الزلات ".

15- قال الإمام الشافعي رحمه الله:

أُحِبُّ مِنَ الإخْوانِ كُلَّ مُوَاتي 

وَكلَّ غَضِيض الطَّرْفِ عَن عَثَرَاتي 

يُوَافِقُنِي في كُلِّ أَمْرٍ أُرِيدُهُ 

ويحفظني حياً وبعدَ مماتي 

فَمِنْ لِي بِهذَا؟ لَيْتَ أَنِّي أَصَبْتُهُ 

لَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ 

تَصَفَّحْتُ إخْوَاني فَكانَ أقلَّهُمْ 

على كثرةِ الإخوان أهلُ ثقاتي 

وختاماً:

♦ إن الذي يتصيد الأخطاء للناس لا يزداد إلا تعباً وهماً، ويتجنبه الناس ويعزفون عن صحبته.

♦ لابد أن نوقن أن كل ابن آدم خطاء ولا عصمة لبشر إلا من عصمهم الله تعالى.

♦ لابد وأن يكون ميزاننا وتقييمنا للآخرين شاملاً فلا ننسى خيرهم وصالح أفعالهم لمجرد هفوة أو زلة.

♦ التغافل يمنع الجدال ويضمن سلامة الصدر والألفة والمحبة.

♦ التغافل يعطي الطرف الآخر الفرصة لمراجعة النفس وتهذيبها.

♦ التغافل لا يضخم الأمور ولا يرسخها بل يجعلها تمضي على أنها زلة عابرة وهفوة لا قيمة لها.

♦ التغافل يقوم السلوك بابتسامة عاتبة أو بنظرة

♦ التغافل يكون عن السلوك نفسه وليس عن فاعله لنعينه على نفسه وعلى تصويب ما بدر منه.

♦ التغافل لغة لا يقوم بها ولا يفهمها سوى كبار العقول، أصفياء النفوس، من يهتمون بكسب الأفراد قبل كسب المواقف.

اللهم أصلح ذات بيننا وأصلح فساد قلوبنا ولا تجعل للشيطان مكان بيننا..

  • 2
  • 0
  • 212
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    ▫️ في زمن المجزرة تشتعل النفوس وتلتهب المشاعر مع كل مجزرة يهودية في فلسطين، دون ترجمة هذه المشاعر إلى أفعال أو مواقف على الأرض، بل تبقى حبيسة الصدور أو السطور، بينما تتوالى المجازر والمواجع، وتتوالى معها الصيحات والمدامع ثم تخبو تلك المشاعر تدريجيا، وهكذا حلقة مفرغة من التيه والعجز والقعود في زمن المهاجع والمضاجع. هذا توصيف الواقع بعيدا عن الإفراط والتفريط، لكن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ما هو الحل لدفع هذه المجازر؟ وما الدروس المستفادة منها؟ في زمن المجزرة سقطت كل دعاوى "السلام" وابنته "السلمية"! فالأولى كانت وسيلة العلمانيين، والثانية كانت بدعة "الإسلاميين"، وكما فشل خيار "السلام"، فشلت "السلمية" بكل صورها في دفع أي خطر عن الأمة أو حقن قطرة دم واحدة من دماء المسلمين خلافا للوهم الذي كان يسيطر على أربابها وأتباعها بوصفها حكمة وحنكة ومنقذة، وأينما حلّت السلمية حلّت المذبحة! بل كانت أشد فشلا من خيار "السلام"! ولذلك وجب على الناس هجر "السلمية" وخياراتها، فهي من المجازر الفكرية التي طرأت ولم تعرفها العصور السابقة. ومن مخلفات السلمية غير الصراخ والعويل؛ التعويل على الحلول "الدبلوماسية" الدولية، وما تغني "الدبلوماسية" في زمن المجزرة؟! وهل "الدبلوماسية" اليوم إلا الوجه الآخر للجيوش والحروب العسكرية؟! وهل تقصف الطائرات وتَحرق الدبابات إلا بإيعاز وتخطيط السياسيين "الدبلوماسيين" الذين يشكلون رأس الحربة في الحروب؟! في زمن المجزرة على المسلم أنْ يعي بأنّ هذا الكون يسير وفق سنن ونواميس إلهية لا تحابي أحدا، وأنّ السبيل الذي وضعه الله للتغيير ودفع الظلم عن المسلمين، لا يوجد له بديل في كل قواميس السياسة و "الوطنية" و "الثورات" المعاصرة، فالجهاد الذي شرعه الله تعالى لنصرة المسلمين والتمكين لهم؛ لا ينوب عنه نائب بحال، لا "سلمية" ولا "مقاومة" ولا "وطنية"، بل الجهاد الشرعي الأصيل الذي مارسه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وصحابته خلال دورة التاريخ الإسلامي، جهاد ليس لديه سوى الشريعة ضابطا وموجِّها ودافعا، جهاد لا يستجدي "مجلس الأمن" ولا مواثيقه الكفرية، هذا الجهاد المفقود في فلسطين وغيرها هو الحل الوحيد في زمن المجزرة. في زمن المجزرة على المسلم أنْ يوقن أنه لا يحدث شيء في أرض الله إلا بعلمه ومشيئته سبحانه، فما يصيب المسلم من محن وجراح مقدّر عليه تماما كما يناله من منح وأفراح، وأنّ المؤمن كما يسعد بالقدر خيره ويشكره، عليه أنْ يرضى بالقدر شره ويصبر عليه وتطيب نفسه به، وقد كشفت الحروب والكروب أنّ لدى الناس مشكلة عميقة في باب الإيمان بالقضاء والقدر، وأنّ المؤمنين بذلك -على وجه اليقين والتسليم- قلة مقارنة بمن يوغلون في الاعتراض على الخالق سبحانه!، قولا وفعلا، بالجنان واللسان والأركان وهذا بحد ذاته مجزرة تفوق المجزرة! إذْ الواجب على المسلم أن يستقبل أقدار المولى سبحانه بالصبر والتسليم والرضى، فنحن خلق الله نتقلب في أرضه وملكه، فالأرض أرضه والملك ملكه، والخلق خلقه، ونحن عبيده، وهذه هي العلاقة بين البشر والخالق، عبودية محضة، من رضي فله الرضى ومن سخط فعليه سخطه. في زمن المجزرة على العبد أنْ يتعظ بكثرة الموت ومشاهده، فيبادر في إحسان ما أساء، وإصلاح ما أفسد، وترميم ما تداعى مِن بناء التوحيد في قلبه وواقعه، فإنَّ آفة الأمة اليوم في عقيدتها، ومن قال غير ذلك فقد غشَّ الأمة وضيّع الأمانة وكتم النصيحة. في زمن المجزرة ليحذر المرء خطورة متابعة دعاة السوء الذين يحركون الناس بعيدا عن منهاج النبوة؛ يبكونهم تارة ويضحكونهم تارة ويخدرونهم تارات، وفقا لمصالح الطاغوت وسياسات الدول، وليدرك المسلم عمّن يأخذ دينه وكيف يحسم موقفه اتجاه قضايا المسلمين، فإنْ لم يكن الداعي إلى نصرة المستضعفين وقضاياهم هو العقيدة والرابطة الإيمانية؛ فإن هذه النصرة سرعان ما تخبو وتتلاشى بمرور الوقت، وهذا الذي يحدث ويتكرر مع كل قضايا المسلمين، ولذلك تختفي النصرة وتستمر المجزرة. في زمن المجزرة ينظر المسلم إلى مجازر فلسطين على أنها امتداد لمجازر الكافرين بحق المسلمين في كل مكان، امتداد لمجازر التاريخ القريب والبعيد، امتداد لمجازر العراق والشام واليمن وخراسان، وقبلها مجازر الشيشان والبوسنة والهرسك وغيرها التي ارتكبها أعداء الإسلام نصارى ووثنيين وشيوعيين ومجوس، وإن التفريق بين دماء وقضايا المسلمين تبعا للفوارق والحدود الجاهلية، هو بحد ذاته جزء من المجزرة الفكرية التي ضربت عقيدة المسلمين وكانت أخطر عليهم من المجزرة نفسها، فيا لهوان موت المرء مقارنة بموت توحيده!. ▫️ المصدر: افتتاحية النبأ صحيفة النبأ الأسبوعية العدد 456 الخميس 11 صفر 1446 هـ

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً