ثلاث حالات للناس عند الابتلاء؛ تحدث في آن واحد

منذ 2024-10-30

فيا أهل الإسلام، ويا أهل الإيمان، لا تنسَوا اللجوء إلى الله في الضراء، لا تجعلوا المصائب تُنسيكم مَن كل شيء بيده، ولم يُصِبْكم إلا ما كتبه هو لكم.

الكل يعلم ما آلَ إليه أمرُ موسى وقومه، وما حصل لفرعون وقومه، حينما لحِقوا ببني إسرائيل، فكانوا وراء بني إسرائيل، والبحر من أمامهم.

 

وقد حصلت في ذاك المشهد ثلاث حالات، تمثِّل كل حالة منها درسًا لطائفة من الناس.

 

الحالة الأولى: وهي حالة فرعون وجنوده؛ ذلك حينما أدركوا موسى وقومه، فقد أيقنوا أعلى يقين أنهم سيستأصلون موسى وهارونَ وجميع بني إسرائيل، فكأن نفوسهم قد تجهَّزت لرؤية الدماء والأشلاء، وكأن أيديهم قد استعدت للضرب والذبح والقتل دون أي ملل، ولا رأفة، ولا رحمة، وكأنهم قد ذبحوا جميع القوم، ولم يُبقوا منهم أحدًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا.


قد أيقنوا أنه لا ينصر هؤلاء الضعفاءَ أحدٌ من ملوك البشر.

 

كأنهم بعد هذه المجزرة المروِّعة قد عادوا إلى ديارهم وأموالهم وأهليهم، يحكُون تلك المجزرة لأهاليهم وأطفالهم بكل سعادة وسرور، ويجعلونها من بطولاتهم الكبيرة، ومنجزاتهم العظيمة، وتاريخهم المشرِق؛ لأنهم قضَوا على أُمَّةٍ لم تخضع لهم، ولم تتابعهم على سياستهم وديانتهم.

 

كأنهم يَرَون أن الخلاص من هؤلاء هو راحةُ أهلِ مِصر؛ خلاص الموت، وليس خلاص الخروج من أرض مصر، فإنهم كانوا يرَون فيهم الخطر عليهم، ولو أنهم هربوا من ديارهم، وصدَّقوا قول زعيمهم المخذول فرعونَ عليه اللعنة: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56]، فاستمعوا لقوله وأطاعوه، ورأوا أن الحذر هو أن نقتل هؤلاء الذين يريدون الخروج من أرضنا.

 

فكأن المشهد قد اكتمل في عيونهم حين يرَون أن الساحل قد امتلأ بالجثث، وأن البحر قد صار أحمرَ من دماء مئات الآلاف من بني إسرائيل، وأن الطيور أكلت جزءًا، والسباع تأكل جزءًا، والدود يأكل جزءًا من لحوم جميع بني إسرائيل، فلن تبقى إلا الجماجم والعظام تكون عِبرةً لكل من لم يخضع للكيان الفرعونيِّ الخبيث.

 

فكاد أن يكتمل حُلمهم الكبير وإنجازهم الحقير، ولكن يأبى الله الذي لا قدرة فوق قدرته؛ فهو على كل شيء قدير.

 

الحالة الثانية: حالة بني إسرائيل في ذاك المشهد الشديد؛ فقد يئسوا من الإفلات من سطوة فرعون وجنوده، فكأنهم قد جهَّزوا أنفسهم لرؤية السيوف تلمع فوق رؤوسهم، والرماح تطعن فيهم، فكأنهم ينظرون إلى أحبابهم وأصحابهم، ويقولون: هذه نظرة الدنيا الأخيرة ينظرها بعضنا إلى بعض، وكأن المرأة تنظر إلى طفلها وقد ذُبِح وهو بين يديها، وكأن الرجل ينظر إلى أخته وزوجته وهي تُذبح أمامه، لا يُغني عنهم أحدٌ من الخلق شيئًا؛ فالرجال لا يدورن ما يفعلون، وليس بأيديهم قطعة سلاح يدفعون بها عدوهم، انقطعت عنهم الآمال كلها، فلا شيء ينتظرهم إلا الاستسلام للذبح.



وفي هذا المشهد لا ننسى أن يظن بعض قوم موسى بموسى شرًّا؛ فيقولون له: أمرتنا بالخروج، وأوردتنا مورد الهلاك الحتمي، وقد كنا بين فرعون وقومه يعيش بعضنا، ويُقتَل بعضنا، لكن بسبب تهورك وعدم إدراكك لمغبَّة خروجنا السريع في ليلة واحدة قد أوردت قومك كلهم الهلاك.

 

فماذا صنعت فينا؟ ألَا يكفينا أننا {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]؟ فلم نَرَ منك إلا المعاناة، والآن نرى منك الموت للجميع.

 

فانقطع رجاؤهم، فلن ينصرهم أحد من ملوك ورؤساء وقبائل الأرض، لا يوجد حِلفٌ أُمَمِيٌّ يعاونهم، ولا توجد نجدة سريعة من الخلق تُنقذهم، قد يئسوا من نصرة الخلق، كما ييأس صاحب القبر أن يعود للحياة.

 

بل لا يوجد من يدخل بينهم وبين عدوهم كوسيط يصلح بينهم، ويوفِّق بينهم، ولو لمدة محدودة؛ فكل حبال رجاء البقاء انقطعت عندهم.

 

فكان هذا بعض حال بني إسرائيل، فالمشهد ذاك لا يكفيه قلمٌ ولا مقال، ولا قوةُ تصوُّر؛ فلا يعرِف المصيبة إلا من يُعانِيها ويُعاينُها.

 

وقد عبَّر عنها قوله تعالى باختصار بليغ: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].

 

الحالة الثالثة: حال موسى وهارون ومن معه من الصادقين؛ فقد كانوا على يقين تامٍّ بمعونة الله لهم، وأن الله لا يخفى عليه من حالهم ذاك شيء، ولا يخفى عليه حال قومهم، ولا يخفى عليه حال فرعون وجنوده.

 

فالكلُّ قد اطَّلع الله عليه، ولا يكون إلا ما يريد هو سبحانه وتعالى، فإنه لا يحصل شيء إلا من بعد إذنه ومشيئته، لا يمكن أن يُؤذَى منهم أحدٌ بدون إرادته.

 

مستحيل أن يحصل شيء إلا أن يريد الله حصوله سبحانه وتعالى.

 

فكان يقين موسى وهارون على خلاف يقين الباقين؛ فقد أيقنوا بوعد الله لهم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وأيقنوا أن الله سيغيظ فرعون وقومه، وأيقنوا أن ظنون قومهم بالهلاك الحتمي لن تتحقق.

 

فقال موسى كلمة لو وُزِنت بها الدنيا، لرَجَحَتْ كلمةُ موسى؛ فقال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فما أحسنها من كلمة! وما أحوج كل مسلم إليها!

 

إنها شفاء لِما في الصدور، إنها راحة الْمُبْتلى والْمُصاب.

 

{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فما أحسن قوله: {سَيَهْدِينِ}! فمن طلب الهداية في موضع البلاء، هداه الله للحق، وهداه سبيل النجاة من الأعداء.

 

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، فخيرُ الجهاد مَن لازم طلب الهداية؛ الهداية لأسباب النصر والفلاح في الآخرة.

 

بسبب قوله: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]؛ تغيَّرت كل الحسابات المعروفة عند الناس، فجعل الله لهم بعدها فرجًا من حيث لا يحتسبون، فعاد البحر الذي كان أمامهم حاجزًا عن مواصلة المسير نجاةً لبني إسرائيل.

 

عاد البحر عذابًا على فرعون وجنوده، والذي كانوا يظنونه عاملًا مساعدًا للحاق ببني إسرائيل ومحاصرتهم.

 

فسبحان الله العظيم! غيَّر الله كل شيء، وزال يقين الطرفين بما كان سيحدث ويتحقق، وبقِيَ يقين موسى وهارون ومن معهما من الصادقين.

 

فكان الطرف الثالث هو الأقل عددًا، لكنه كان هو الأقوى حينما تقوَّى بالله لا بغيره.

 

كان الطرف الثالث هو الأعقل والأذكى والأزكى، حينما ترك الحسابات الدنيوية، وتوكَّل على الله حقَّ توكله.

 

فيا له من إيمان ويقين نحن أحوج ما نكون إليه الآن!

 

ويا لها من قوة لجوء إلى الله الواحد القهار، حين تكون الحسابات الدنيوية تقول: إن الهلاك وارد لا محالة على العزَّل، الذين لا يملكون قطعة سلاح أمام عدوٍّ مُدجَّج بكل أنواع الأسلحة!

 

فيا أهل الإسلام، ويا أهل الإيمان، لا تنسَوا اللجوء إلى الله في الضراء، لا تجعلوا المصائب تُنسيكم مَن كل شيء بيده، ولم يُصِبْكم إلا ما كتبه هو لكم.

 

{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

 

كرِّروها يا أهل الإيمان، ولا تنسَوا تدبرها، وتأملوا منها قوله: {هُوَ مَوْلَانَا} ، كذلك قِفوا عند خاتمتها: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

______________________________________________________
الكاتب: فهد عبدالله محمد السعيدي

  • 2
  • 1
  • 234
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    ◾ اقتباس من افتتاحية العدد 456 في زمن المجزرة • تشتعل النفوس وتلتهب المشاعر مع كل مجزرة يهودية في فلسطين، دون ترجمة هذه المشاعر إلى أفعال أو مواقف على الأرض، بل تبقى حبيسة الصدور أو السطور، بينما تتوالى المجازر والمواجع، وتتوالى معها الصيحات والمدامع ثم تخبو تلك المشاعر تدريجيا، وهكذا حلقة مفرغة من التيه والعجز والقعود في زمن المهاجع والمضاجع. هذا توصيف الواقع بعيدا عن الإفراط والتفريط، لكن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ما هو الحل لدفع هذه المجازر؟ وما الدروس المستفادة منها؟

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً