شكر النعمة

منذ 9 ساعات

إن واجب الإنسان أن يشكر الله تعالى على نِعَمِهِ ما ظهر منها وما بطن؛ لأن الشكر طريق إلى دوام النعمة وزيادتها، شكر لا يكفيه مجرد القول باللسان، وإنما تحويله إلى منهج عمليٍّ يتجلَّى سلوكًا في الحياة...

كثيرٌ من الناس في الحياة وَهَبَهُمُ الله تعالى نِعَمًا لا تُحصى، غير أن الثقافة السائدة في جوهر التفكير عند هؤلاء تظل مشدودة إلى نعمة المال، عادَّةً إياه النصيبَ الوفْرَ والحظَّ الأكبرَ الذي تحجو أنه مِفتاحٌ لكل باب مُوصَدٍ، وطريق مُعبَّد لكل غاية ومقصِدٍ، والحال أن هذا الضَّربَ من الناس يحيا وهمًا حجب عنه نورَ الحقيقة، فلم يعُد يُبصر غير غُيومٍ مُكْفَهِرَّة تُؤذِن بعواصف الشؤم، يعقُبُها سَيلٌ آتٍ لا يُبقي ولا يَذَرُ، فيأخذها بين أقذائه إلى حيث لا تدري، ولم يعد يحيا إلا في جو السماء فتخطفه الطير أو تهوي به في مكان سحيق، فهو يخبِط خَبْطَ عشواءَ، سادرًا في مرتع البهم لا يفكِّر إلا في جني المال؛ لأن كلَّ فَهمِهِ للنعمة محصور في هذه الدائرة الضيقة، فينصرف عن شكر الله تعالى عن نِعَمٍ أكبرَ، لو أنه أمعن النظر فيها، لَوجدَ أن فيها من الغِنى ما يحمله على الإحساس بالرضا، فيكون محققًا لواحدة من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهي وصيته لأبي هريرة في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هذه الكلمات، فيعمل بهن، أو يُعلِّم من يعمل بهن؟ فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدَّ خمسًا، وقال: اتَّقِ المحارم تكُنْ أعبدَ الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحْسِنْ إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فإن كثرة الضحك تُميت القلب»؛(رواه الترمذي).

فلو أنه نظر إلى نعمة الصحة والعافية، وما مَنَّ الله عليه بعدم زيارة طبيب، ولا تجرُّع دواء، يصبح نشيطًا ويمسي معافًى، لا يشتكي ألمًا ولا وجعًا، وعنده قوتُ يومه وعياله، يكون كمن حِيزت له الدنيا بحذافيرها، ولو أنه نظر إلى نعمة قلما يشكر الإنسان عليها ربَّه، وهي نعمة من أجَلِّ النِّعم وأعظمها؛ وهي نعمة العقل الذي جعله الله تعالى مناط التكليف، وأمَرَ بعدم تعطيله؛ لأنه الطريق نحو إدراك عظمة الخالق بالتفكر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، وسبيل إلى أداء ما فرض الله على العباد من عبادات تحتاج إلى اتزان عقلٍ ورشدٍ وإدراك؛ لذلك كان النهيُ القرآني صريحًا للمؤمنين عن قرب الصلاة سكارى؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، فليتخيل معي هذا الجاحدُ أن الله تعالى أفقده عقله، أكان يدري الطريق ومسلكها، أو يعرف الصديق والعدو، أو يدري الخير ومنزله، والشر ومكمنه؟ وهلمَّ جرًّا مما يحتاج إليه الإنسان كي يحيا حياة طيبة، قِوامها الإدراك، ولينظر هذا المنكِرُ إلى المجانين في المستشفيات المتخصصة، ولْيَرَ بأمِّ عينيه كيف يتصرفون، وكيف يهذُون وهم عن وعي ما يصنعون بمنأًى سحيق؟

وليتأمل الإنسان في حواسِّه مجتمعة، وجوارحه قاطبة، وليتخيل أنه فَقَدَ واحدة - ونرجو الله السلامة والعافية - كيف يكون به الحال؟ فيا مُبصرًا إن في الحياة أناسًا حُرِموا نعمة الإبصار، ويا سامعًا إن أقوامًا صُمَّت آذانهم، ويا ناطقًا إن خلقًا فقدوا اللسان، ويا ماشيًا إن أفرادًا حُرِموا السير على الأقدام، ويا معافًى في كل البدن إن أنامًا أهلكهم تجرُّع الدواء وانتظار الأطباء، ويا عاقلًا إن بشرًا رُفِعَ عنهم القلم لجنون فيهم، فلا تنظر إلى المال على أنه كل النعم، واشكر الله أن فضَّلك على كثير ممن خلق تفضيلًا، فالإنسان في الحياة مكفولة له أرزاقُه، ومضمونة له أقواته، كالطير تغدو خماصًا، وتروح بطانًا.

 

لقد أمر الله تعالى بشكر النعم في مواضع عديدة، وفي سياقات مختلفة، ووضعيات مقامية متباينة من القرآن؛ إرساء لهذا التعبُّد الذي يستلزم تجاوز القول إلى الفعل؛ قال الله تعالى في سياق حديثه عن قوم فرعون: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، فالتعبير اللغويُّ بهيئة الشرط وما يقتضيه من جواب كان، هو الزيادة لفعل الشكر، وإن ذهب بعض المفسرين إلى أن الزيادة قُصِد بها الطاعة، فإن الخطاب محمول على دلالة أعمَّ تشمل كل ما فيه خير للإنسان؛ لأن الطاعة نفسها خيرٌ، وطريق نحو الخير، وفي سياق آخر وردت الدعوة إلى الشكر عبر خطابَينِ؛ أحدهما يكتسي صبغة الخصوص، والآخر صبغة العموم؛ قال تعالى في مخاطبة لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، إنه شكر نافع للإنسان، لا حاجة لله به، جاء بصيغة شرطية مضارعة لتدل على التجدد واستمرار الفعل؛ لِما يستوجبه الشكرُ من إدامة حتى تتحقق به الزيادة الموعودة، وقد يأتي الأمر بالشكر طابعًا التأملَ والتدبر في النفس البشرية؛ لِما فيها من آيات بينات تدل على عظمة الخالق، آيات لا يُنكرها غير جاحد متكبِّر خصيمٍ؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، صورة رائعة ترسمها الآية لهذا الإخراج الربانيِّ الْمُعجِز، وهذا الخَلْقِ القويم البديع، الذي يغدو مع مرور الزمن عارفًا، مدركًا، فاهمًا، واعيًا، بما يحيط به في الوجود، إنها حقيقة مادية لا تخفى على إنسان في هذه الحياة، لكنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، فكم مرة شاهد الإنسان مولدَ صبيٍّ، كل جهده صراخ وحركات، تزداد مع مرور الأيام، حتى يشرَعَ في نطق الكلام وإدراك ما حوله من أشياءَ، فتبدأ رحلة التعرف والتسمية في الحياة إلى أن يبلُغَ مبلغًا أكبرَ في الإدراك، هذا العاجز الصغير الحقير يصير الآن كائنًا عاقلًا، يفهم ويُحلِّل ويناقش، إن كان في مرضاة الخالق، فأنْعِمْ به كائنًا، وإن كان خصامًا ولَجَاجًا في خَلْقِهِ وخالقه، مُشكِّكًا أو منكرًا لوجود الله، فبئس الكائن هو، نسِيَ هذا الماء المهين أنه كان من بعد التلقيح علقة، ثم كان مضغة، فإذا هو خلقٌ آخر بعد أن كُسِيَتِ العظام لحمًا، نسِيَ الغافل، وا أسفاه، أن هذا صنع الله الذي أتقن كل شيء، وها هو الآن يجادل في الله، فيا للغرابة! ويا لشقاء هذا الإنسان! نسِيَ المسكين أنَّ واجبه أن يشكر خالقه على نعمة الحياة؛ فهو الذي وهبه الجوارح والأعضاء، وسوَّاه فأحسن تسويته.

 

وقد يلفت الله تعالى أنظارَ العباد من أجل شكر نِعَمِه إلى موجوداته المنظورة؛ يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14]، دعوة ربانية إلى إعمال العقل في واحدٍ من المخلوقات الذي تتراءى فيه عظمة الخالق، سخَّره الله تعالى بشاعة ظاهره وما يحمل من الجواري المنشآت كالأعلام، وباطنه وما يحتويه من كائنات ودُرَرٍ وثروات؛ ليكون الشكر فعلًا محمودًا من العباد لله تعالى، أن سخَّر لهم البحر مثلما سخر لهم كل ما في الكون ليكون في خدمته، ويُحقِّق العبودية التامة لله تعالى.

 

إن واجب الإنسان أن يشكر الله تعالى على نِعَمِهِ ما ظهر منها وما بطن؛ لأن الشكر طريق إلى دوام النعمة وزيادتها، شكر لا يكفيه مجرد القول باللسان، وإنما تحويله إلى منهج عمليٍّ يتجلَّى سلوكًا في الحياة، فالغنيُّ الذي آتاه الله مالًا يشكر ربه بإخراج الزكاة، وبالإنفاق على كل محتاج، والعالِمُ الذي أتاه الله علمًا واجبه أن ينشر العلم بين الناس فلا يكتمه، والحكيم الذي وهبه الله من الحكمة مفروض عليه أن ينشر حكمته بين الناس، والقويُّ المعافى واجبه أن يخدُمَ الناس بأمانة، ويقدِّم يد العون لمن هو أضعف منه... فتتحقق للشكر منافعُ جمَّةٌ في الأرض، بها يتكافل الناس ويتآزرون، ويتحابُّون في الله، فتتنزل عليهم البركات من حيث لا يحتسبون.

__________________________________________________________
الكاتب: جواد عامر

  • 0
  • 0
  • 35

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً