لماذا نشكو الملل في زمن السرعة؟

منذ 2024-12-14

إن تطور الوسائل والأدوات ساهم بصورة واضحة في تقليل وتقليص الزمن المستهلك في إنجاز المهام والأنشطة، ونتيجة لذلك أصبح لدى الإنسان فسحة من الوقت الإضافي ينعَم به الإنسان الحديث.

على مدار عُمر الإنسان على الأرض تطوَّرت الوسائل والأدوات المتاحة أمامه، ولهذا التطور دور ملحوظ وتأثير فعَّال في نمط حياة الإنسان المعاصر؛ فقد أدى هذا التطور إلى تقليل الوقت المستهلك في فعل الأشياء وممارستها عمومًا.

 

في قديم الزمان وبداية رحلة الإنسان على الأرض، كان السفر إلى البلدان الأخرى يتطلب وقتًا طويلًا، فالسفر والترحال بين البلاد كان رحلة شاقة لا يقدر عليها كلُّ أحد تمتد إلى شهور وأسابيع، أما الآن، فالأمر لا يستغرق ساعات قليلة.

 

ومن وقت قريب كانت بعض (المشاوير) المصالح الهامشية تقتل يومًا بأكمله، أما الآن فبات الأمر أكثرَ سهولةً ويسرًا؛ بعد أن أصبح بإمكانك أن تُنجِزَ المهام المطلوبة منك بسهولة من خلال هاتفك المحمول في جيبك داخل غرفة نومك.

 

ولا يقتصر الأمر على وسائل المواصلات، بل كلامنا هنا يشمل كل الأدوات والوسائل التي كان الإنسان يستخدمها؛ حيث تطورت وتطورها أفسح للإنسان المعاصر المزيد من الوقت.

 

كان الفلاح في بدايته يعتمد على أدوات يدوية بسيطة مما يستغرق وقتًا طويلًا، وجهدًا مضنيًا، أما الآن بفضل الأدوات الحديثة (الجرارات، مكنة الحصاد...)، قلَّ الوقت والجهد أضعاف ما كان، وأصبح يمكنه الآن أن يحصد أفدنة في بضع ساعات.

 

كذلك الأمر في الأكل، كانت الوجبة رحلة طويلة شاقة يخوضها الإنسان في القدم، بداية من رحلة صيد الحيوان إلى البحث عن الفحم والحطب، من ثَمَّ إشعال النيران، أما الآن فالأكل الذي تريده وتختاره يصبح جاهزًا أمامك في بضع دقائق، بل لو تأخر المطعم علينا دقيقة أو اثنتين أقمنا الدنيا ولم نُقعدها.

 

أيضًا التواصل مع الآخرين تغيَّر هو الآخر، فبعد أن كانت الرسالة إلى شخص في مدينة أخرى أمرًا يتطلب أيامًا ولياليَ، فهو الآن لا يتخطى ضغطة زرٍّ.

 

خلاصة الأمر وما نريد قوله هو: إن تطور الوسائل والأدوات ساهم بصورة واضحة في تقليل وتقليص الزمن المستهلك في إنجاز المهام والأنشطة، ونتيجة لذلك أصبح لدى الإنسان فسحة من الوقت الإضافي ينعَم به الإنسان الحديث.

 

وأظن ذلك هو التفسير المقصود من الحديث الشريف في صحيح مسلم الذي جاء فيه: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة».

 

وسيأتي مزيد بيان في الفقرة القادمة.

 

وعلى الرغم من ذلك، يصحبنا شعور دائم بأن الوقت يمر في لمح البصر، السنون تحولت إلى شهور، والشهور تحولت إلى أيام، والأيام إلى ساعات.

 

كيف نشعر بهذا على رغم ما أثبتناه في الأعلى بأن الإنسان الآن لديه فسحة أكبر من الوقت، صنعتها الأدوات والوسائل المتطورة التي يستخدمها في مختلف شؤون حياته؟

 

- الحقيقة هي أن الأدوات والوسائل نفسها التي ساعدتنا في توفير كمٍّ كبير من الوقت تُفقدنا الشعور به، يرجع ذلك إلى أن الإنسان اعتاد على الإنجاز السريع في كل شيء، فبدلًا من النزول إلى المحلات وتضييع وقت كامل في البحث عن الملابس المناسبة، نفعل ذلك من كنبة البيت من خلال الشراء عبر الإنترنت.

 

اعتيادنا على الإنجازات السريعة أوهمنا الشعور بسرعة الوقت، والحقيقة هي أن المهام هي التي باتت تنجز في وقتٍ سريع، أما الوقت فكما هو، وأظن أن هذا هو المقصود من الحديث الشريف المذكور، والله أعلم.

 

- الحياة الحديثة مليئة بالمهام والإنجازات، فالإنسان دائمًا مشغول غير متفرغ يفكِّر دائمًا، ولو في تفاهات، أصبحت عقولنا مزدحمة بالمهام اليومية، وعدم تفرغ الإنسان، وانشغاله الدائم يعدم إحساسه بالوقت، والجحيم الأكبر هنا يتمثل في وسائل التواصل والإنترنت، وسماعات الهاند فري، لم تعُد ترى إنسانًا يجلس وحده يفكر ويعطي مساحة لعقله يقدِّر فيها اللحظة الحالية، ويشعر بها جيدًا.

 

بالإضافة - وهذا في رأيي الشخصي - إلى انعدام الإنجاز في صورته الحقيقية، وهنا أتكلم عن الإنجاز الذي يحمل قيمةً ومعنًى، فالسنة المليئة بالأحداث المهمة، والإنجازات الحقيقية القيِّمة يتذكرها الإنسان جيدًا، أما انشغال الإنسان في الوقت الحالي فهو أشبه بالانشغال بالفراغ؛ انشغال باللاشيء؛ فالوقت الذي وفرته لنا الأدوات والوسائل المتطورة نُبدِّده في مشاهدة أفلام تافهة وكتب ضعيفة، والتيك توك، والإنستغرام، وغيرها من الممارسات الفارغة، فارغة من المضمون والمعنى، لا قيمة لها، فلا تبقى في الذاكرة، ولا تضيف لسنوات العمر ولا تصقلها.

 

ولعباس العقاد كلام يلوم فيه الشباب على الأوقات التي يضيعها في ممارسة أشياء لا قيمة لها؛ فيقول: "ليس هذا وقتًا فارغًا لأنهم مشغولون فيه، وليس هذا وقتًا مملوءًا لأنهم يملؤونه بما هو أفرغ من الفراغ، هذا ليس بوقت على الإطلاق".

 

ويصف لنا العقاد معنى وقت الفراغ عنده فيقول: "هو الذي بقي لنا لنملكه ونملك أنفسنا فيه بعد أن قضينا وقت العمل مملوكين مسخَّرين؛ لِما نُزاوله من شواغل العيش وتكاليف الضرورة".

 

وهو كلام نفيس يجب أن تعتني به.

 

ويقول عن أهمية أوقات الفراغ وهي مقصودنا من الفسحة التي أتاحتها لنا الأدوات والوسائل المتطورة: "نتعلم منه كل شيء، ولا نتعلم شيئًا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال، إلا إذا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت فراغ".

 

"ساعات هي ألزم لنا من ساعات العمل... فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير فراغ الحياة".

 

وعلى الرغم من فسحة الوقت التي اكتسبناها بسبب تطور الوسائل والأدوات، وعلى الرغم من شعورنا الدائم بسرعة مرور الوقت غير المعقولة وكأن السنين تمضي في لحظات، فإننا نكاد نتفق جميعًا على أن هناك شعور دائم يصحبنا؛ ألَا وهو الملل.

 

ولا يُفاجِئك إن قلت لك: إن سبب شعورنا بالملل هو نفسه السبب في شعورنا بسرعة مرور الوقت الذي يعود إلى تطور الوسائل والأدوات.

 

الحياة الآن سريعة جدًّا نتيجة تلك الوسائل، ولكن في الحقيقة يد التطور هذه لم تمتد إلى كافة جوانب الحياة، فبقِيَت أشياءُ لم ينطبق عليها ذلك، والأشياء هذه هي السبب في شعورنا بالملل فنشعر حين ممارستها بالملل، وذلك بسبب أن العقل تأقلم على الساعة في الإنجاز، فعندما تقف أمامه مثل هذه الأفعال، وعندما يتعرض لأفعال لا تتناسب مع نظام عمله الجديد، فسريعًا ما يشعر بالملل والضيق والضَّجَر، ويصعُب عليه أداء مثل هذه الأشياء وتصبح مهمة شاقة.

 

ويفسِّر لنا ذلك: لماذا نستطيع أن نقضي ساعات متواصلة على تطبيقات السوشيال ميديا - تيك توك مثلًا - بينما لا نستطيع أن نفعل ذلك بنفس المدة أمام مادة علمية؟ لأن آلية عمل المخ في عصرنا هذا لا تناسبه أفعالٌ؛ مثل: التركيز والمذاكرة والتعلم، بينما تناسبه تطبيقات السوشيال ميديا والمُلهيات.

 

وعلى الرغم من أن الملل يروَّج له بأنه شبح الحياة المعاصرة فإننا في أمَسِّ الحاجة إليه؛ فالملل مساحة تفكير هادئة وعميقة، يمارسها العقل بين زحام وتخمة الملهيات التي يتعرض لها بشكل دائم.

 

نحن في أشد الحاجة إلى إعادة توجيه وقت الفراغ.

 

ويجب أن ندرك أن هروبنا من الملل إلى الوسائل الترفيهية والملهيات هو بمثابة الهروب من الواقع إلى المخدِّرات.

 

أخيرًا، يجب أن نعلم أن محاولتنا للهروب من (قتل) الملل هي محاولة للهروب من (قتل) الوقت، وهي أيضًا محاولة للهروب من (قتل) أنفسنا.

 

انتهى

___________________________________________________________
الكاتب: شهاب أحمد بن قرضي

  • 4
  • 1
  • 135
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    من مقتضيات إجَابَةِ الدُّعَاءِ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله: ذَكَرَ الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السَّماء: يا رب يا رب ومطعمُه حرام، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك؟!) [مسلم] "هذا الكلام أشار فيه ﷺ إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة: - أحدهما إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء، كما في حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: (ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ الوالد لولده). ومتى طال السفر، كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء. - الثاني حصولُ التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشعث والاغبرار. - الثالث مدُّ يديه إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إِجابته. - الرابع الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته، وهو مِن أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء" [جامع العلوم والحكم - لابن رجب الحنبلي رحمه الله] ◽ المصدر: إنفوغرافيك صحيفة النبأ – العدد 473 الخميس 11 جمادى الآخرة 1446هـ

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً