داء الأمم
ما شقت أمة بمثل شقائها بجهلها، فالجهل آفة تنخر في كل كيان الأمة، وهو رأس الآفات، ومصدر البليات، وشرره وشره يطال الأمة في: إيمانها وهويتها وإنتاجها
قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقال جل جلاله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]، وقال سبحانه: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46].
(وعن عبدالله بن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل»؛ (متفق عليه).
أيها المسلمون، في تلك الآيات والأحاديث، ذم للجهل، وبيان شؤمه ومساوئه، وأنه الداء العضال، وأنه المرض الفتَّاك، وهو المرض العضال، وهو خلق ذميم، والجاهل نفسه يأبى أن يُنسَب إلى الجهل، قال الحسن البصري رحمه الله: «لا فقر أشد من الجهل...».
أيها المسلمون، حديثنا إليكم في هذه الجمعة المباركة عن هذا الداء العضال، والمرض المزمن، إنه داء الأمم، إنه الجهل وما أدراك ما الجهل! الجهل ضد العلم، وفي الحديث «إنك امرؤ فيك جاهلية» لما عير أبو ذر رضي الله عنه بلالًا رضي الله عنه بأُمِّه، وقال له: يابن السوداء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية» ، والمراد الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من: الجهل بالله سبحانه، ورسوله، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكبر، والتجبر وغير ذلك.
أيها الناس، وإليكم كلام رائع ويكتب بماء الذهب للإمام ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن العلم وفضله ومكانته، قال: العلم هادٍ، وهو تركة الأنبياء، وتراثهم يشير إلى حديث: وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولادرهمًا؛ إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظٍّ وافر.
وأهل العلم هم ورثة الأنبياء، والعلم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، والعلم هو الميزان الذي تُوزَن به الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال، بالعلم يعرف الله جل جلاله، وبه يعبد تبارك وتعالى، وبالعلم يذكر تعالى ويُوحَّد، ويُحمد ويُمجد، وبالعلم اهتدى إليه السالكون.
ومن طريق العلم وصل إليه الواصلون، وبالعلم تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام بالعلم، وبه توصل الأرحام، وبالعلم تعرف مراضي الرب جل جلاله، والعلم إمام العمل، هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، والعلم إمام والعمل مأموم، والعلم قائد، والعمل تابع ومقود، وهو الصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغنى لمن ظفر به، العلم مذاكرته تسبيح، والبحث عنه وطلبه جهاد، وبذله صدقة. والحاجة إلى العلم أهم من الطعام والشراب.
أيها المسلمون، وليس هذا حديثنا؛ ولكن كما قال بعضهم: وبضدِّها تتميز الأشياء.
فما قاله ابن القيم عن العلم وفضله ومكانته غيض من فيض.
ولكن حديثنا عن داء الأمم؛ إنه الجهل.
أيها الناس، فما شقت أمة بمثل شقائها بجهلها، فالجهل آفة تنخر في كل كيان الأمة، وهو رأس الآفات، ومصدر البليات، وشرره وشره يطال الأمة في: إيمانها وهويتها وإنتاجها، وضرره على العمل الصالح كبير وعظيم، فقد يأتي عليه بالبطلان والفساد، وقد يتسبب بنقصه وعدم إتمامه على الوجه المطلوب، وقد يتسبب بتركه بالكلية، وقد يجعل الجهل صاحبه يرتكب البدع والخرافات معتقدًا أنها أعمال صالحات يتقرَّب بها إلى ربِّه، قال المناوي رحمه الله: ينبغي للعاقل أن ينفي عن نفسه رذائل الجهل بفضائل العلم.
قال الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه: العالم والمتعلم شريكان في الخير، وفي الحديث: «خيركم مَنْ تَعَلَّم القرآن وعَلَّمَه»؛ صحيح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. ثم قال: «وسائر الناس لا خير فيهم، كن عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا، ولا تكن الرابع فتهلك، ويقصد بالرابع الجاهل.
وقال الحسن البصري رحمه الله: لا فقر أشد من الجهل.
أيها الناس، الجاهل يتخبط في أودية الضلال والبدع والخرافات، قال ابن القيم: «أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الظلم وهو باتباع أهوائهم الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، قال رحمه الله: «وهؤلاء قسمان:
1- الذين يحسبون أنهم على علم وهدى وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالون أهله، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
2- والقسم الثاني: وهم: «أصحاب الظلمات وهم المنغمسون في الجهل بحيث قد أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضلُّ سبيلًا.
فعملهم على غير بصيرة ولا هدى، فلم يعملوا على وفق شرع الله؛ الكتاب والسنة، ولم يتحركوا لرفع الجهل عن أنفسهم؛ وذلك بتعلم القرآن والسنة النبوية، وعلى ما كان عليه خير القرون من الصحابة والتابعين ومن سار على طريقتهم ومنهجهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن المعرض عما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الهدى والحق، فهذا يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.
أيها المسلمون، الجهل ظلام وخراب، ولا أبشع من ظلمة الجهل، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
أيها الناس، والجهل من أمارات الساعة، خراب الدنيا وقيام الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من ورائكم أيامًا ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل»؛ (صحيح).
ومن أشراط الساعة:
أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، وتشرب الخمر، ويظهر الزنا؛ رواه الشيخان عن أنس.
قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
أيها المسلمون، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا»؛ (البخاري ومسلم).
أيها الناس، إن لكل أمة جهالها ومتخلفيها، ونسبتهم إلى أهل العلم في أي مجتمع من المجتمعات عالية جدًّا؛ ولهذا تحرص أمم الكفر- على وجه الخصوص- على التخلُّص من الأمية في شعوبها، فتعمل الخطط والبرامج، وترصد الميزانيات الهائلة، والأموال الطائلة، وتُجنِّد الطاقات، والإمكانيات، وتُسخِّر وسائل الإعلام لأجل هذه القضية؛ قضية الأمية والجهل، وتعمل على محاربة هذا الداء العضال وهو داء الأمم؛ إنه الجهل.
فسبحان الله إذا كان هؤلاء الكفار يسعون جاهدين إلى القضاء على الأمية في مجتمعاتهم، فأين نحن أمة الإسلام من ذلك؟!
أين الخطط والبرامج؟! أين رصد الميزانيات، أين تأهيل الكوادر القادرة على انتشالنا من الأمية، ورفع الجهل عن المسلمين.
أين الإعلام ودوره في محاربة الجهل والجاهلين؟! أين التوعية بأهمية العلم ومكانته ودوره؟! أين فتح حلقات تعليم القرآن الكريم وحلقات العلم الشرعي الكتاب والسنة؟! قال الله، قال رسوله، قال الصحابة، هم أولو العرفان.
أين تشجيع العلماء والدعاة وطلبة العلم وفتح المجال لهم للرفع من شأن هذه الأمة، واستنقاذها من براثن الجهل والخرافة والضلال والبدع؟! أين تأهيل الكوادر من معلمين ومدرسين وحفظة للقرآن الكريم، وحفظة للسنة المطهرة، من أجل أن يقوموا بدورهم، وأن يشاركوا غيرهم في نهضة أمتهم، وتسليح الأجيال بالعلم النافع.
أين حماية عقول الشباب والفتيان من موجة الإلحاد، ونشر الشُّبَه، وتسويق البدع والخرافات والضلالات؟!
ألم نقرأ في سيرة خير البشر صلى الله عليه وسلم: «أنه في غزوة بدر لما تم أسر سبعين من المشركين، ومن لم يكن معه مال لفكاك أسره أن يدفع إليه عشرة من صبيان المسلمين كي يتعلموا القراءة والكتابة حتى تنتفع بهم الأمة.
لم تكن أول آيات القرآن الكريم تقرع سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].
أيها المسلمون، لم يوجه الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد من العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
أيها الناس، إن الأمة الجاهلة لا يعبأ بها وليس لها ذكر بين الأمم.
سؤال: لماذا تسَلَّط على هذه الأمة أعداء الإسلام؟ ولماذا غزتنا أُممُ الكفر والضلال؟ ولماذا احتلوا بلاد الإسلام؟ ولماذا تسَلَّطوا على إعلامنا وعلى شعوبنا وعلى مقدراتنا وعلى ثرواتنا، وعلى عقول شبابنا، وعلى عقول الكثير من النساء، وما فعلوا ذلك إلا بسبب الجهل، وضعف العلم، وضعف الوعي؟
أيها المسلمون، أعظم ما عصي الله به هو الجهل.
الجهل والجهال دمار على الأمم والشعوب، الجاهل مصيبة على نفسه وبلده وأمته، ومصيبة على دينه، الجاهل إذا تولى أمر الناس تنكب بهم الطريق، وأوردهم المهالك، وأرداهم في وادٍ سحيق، الجاهل عدوُّ نفسه ودينه وعدوُّ مجتمعه، الجهل ظلمات بعضها فوق بعض، الجهل طريق إلى الضياع وطريق إلى التخبط والضلال.
قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يؤخذ على الجاهل عهد بطلب العلم حتى يؤخذ على العلماء عهد ببذل العلم للجهال؛ لأن العلم كان قبل الجهل به.
وقال علي رضي الله عنه:
فلا تصحب أخا الجهل ** وإيـــاك وإيــــــــاه
يقاس المرء بالمـــــرء ** إذا مـا المـرء ماشاه
أيها الناس، إن من أسباب النكبات التي حلَّت بهذه الأمة أن اخترقها الأعداء، وتسَلَّط عليها الجُهَّال، وتحكم بها أهل الأفكار المنحرفة، وتكالب عليها أهل الشبهات والشهوات، إن من أسباب ذلك: الجهل، وقلة الوعي، وضعف البصيرة، وعزوف غالب المسلمين عن العلم الشرعي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أهل القرون المفضلة من العلم والوعي والبصيرة.
أيها المسلمون، لماذا الكثير من أبناء المسلمين ضيَّعوا الصلوات واتَّبَعوا الشهوات، ووقفوا حجر عثرة أمام دعوة الحق التي منهجها الكتاب والسنة، وطريقها هدي خير البرية.
لماذا الكثير من أبناء المسلمين اليوم قلَّدُوا الغرب الكافر في كثير من شؤون حياتهم، وتخلقوا بأخلاقهم، واستوردوا قوانينهم، وانبهروا بحضارتهم الزائفة، كل ذلك بسبب الجهل وضعف العلم وضعف البصيرة، وقلة الوعي.
أيها الناس، المسلمون اليوم إلا من رحم الله تتجاذبهم الأهواء والبدع والضلالات، وتتجاذبهم الأفكار المنحرفة والعقائد الباطلة، وينجذبون إلى الحضارة الغربية الزائفة، حضارة زواج الرجل بالرجل، حضارة زواج المرأة بالمراة، حضارة زواج المرأة بالكلب- أكرمكم الله-.
فكيف لهذه الأمة أن تنهض من كبوتها، وأن تستيقظ من غفلتها، وأن تعود إلى سالف عزها ومجدها وحضارتها، وقيادتها للعالم.
لا يكون ذلك إلا بالرجوع الصادق إلى الله والعمل بدين الله، وتحكيم شريعة الله، ونشر للعلم الشرعي علم الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين أهل القرون المفضلة الذين أثنى الله عليهم، ومدحهم، وبيَّن فضلهم، وعرَّفنا بمكانتهم رضي الله عنهم ورضوا عنه.
كذلك أن تعمل هذه الأمة وأن تسعى جاهدة إلى نشر العلم، وفتح المجال للعلماء الناصحين الصادقين الذين يحملون في صدورهم وحي السماء؛ الكتاب والسُّنَّة.
كذلك تشجيع الشباب والفتيان على طلب العلم الشرعي، والتزوُّد من العلوم التي لا بد منها في نهضة أمتهم.
تحفيز العلماء والدعاة وطلبة العلم والمدرسين والمعلمين وإبرازهم للأمة، وفتح وسائل الإعلام لهم كي يخاطبوا الناس بالدين والعلم والكتاب والسُّنَّة.
يجب فتح القنوات ووسائل الإعلام لنشر العلم الشرعي، والرفع من مستوى أهل العلم والمدرسين والمعلمين وإكرامهم، وسد حاجاتهم، وبيان مكانتهم وفضلهم ودورهم، حتى يأخذ الناس منهم العلم والخير، وحتى يعود لهذه الأمة مجدها وعزها ومكانتها، وأن تكون أمة تهابها أمم الكفر والضلال، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
ألا وصلوا وسلموا.
_______________________________________________
الكاتب: أبو سلمان راجح الحنق
- التصنيف: