البلايا والمرض

منذ 2025-01-02

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:«مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ» أي: تجافت عينه من النوم انتباهًا من اَللَّيْل، لهمٍّ نزل به، أو لغمٍّ يفكر فيه، أو لأمور الحياة الكفيرة المشغلة لقلبه، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، قالها بلسانه، معتقدًا لها بقلبه وجنانه، إِلَّا إن دعا؛ استجاب الله دعوته، فإن قام وصلى ركعتين؛ غُفر له.

أَيُّهَا المؤمنون! لا يزال البلاء بالمؤمن حَتَّىٰ يمشي عَلَىٰ الأرض، وليس عليه خطيئة، كذا قَالَ نبيكم صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن صنوف البلاء يا عباد الله تتنوَّع من الله عَلَىٰ خلقه وعَلَىٰ عباده، فابتلاء بِالسَّرَّاءِ مرة، وابتلاء بِالضَّرَّاءِ مرات، والابتلاء بِالضَّرَّاءِ متنوع أَيْضًا:

 فمن النَّاس من يُبلى بالهم والحزَن، حَتَّىٰ يُقِل هٰذَا الهم والحزَن مضجعه، ويتعارَّ من نوم ليله.

 

 ومنهم من يُبلى بالمرض، لاسيما بالأمراض الفتَّاكة، كالتَّليُّفات بأنواعها، وكالأورام السرطانية والجلطات، وما جرى مجراها.

 

 ومن النَّاس من يُبلى بزوجةٍ أو بولد، أو بنقص مالٍ أو بهم دين، أو بغيرها من أنواع الهموم وتنوعاتها.

 

والمُعقد في ذلك كله عَلَىٰ أمرٍ واحد، وهو: ما شأنك أَيُّهَا المؤمن؟ ما شأنك أَيُّهَا المسلم؟ ما حالك أَيُّهَا المصلي، أَيُّهَا الصائم، أَيُّهَا القائم؟ ما حالك تجاه هٰذِه الهموم والبلايا، وتجاه هٰذِه المصائب، إذا علمت أنها لَا بُدَّ من وقوعها، وأنه كلما زاد الإيمان؛ زيد في البلاء، كما قَالَ جَلَّ وَعَلَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].

 

يتنعَّم الإنسان بنعم الله عليه، ثُمَّ بعد ذلك تأتيه أنواع الهموم، تأتيه أنواع الهموم؛ فَإِمَّا خسارة في بيع وشراء، وَإِمَّا ديونٌ تُثقل همه، وَإِمَّا ولدٌ أو زوجة يقلقانه، أو يُبلى بالمرض، والمرض أنواع، سواء بنفسه، أو بحبيب عليه، والله جَلَّ وَعَلَا في هٰذَا كله ينوِّع بلاءه عَلَىٰ عبده؛ لينظر ما يصنع: أيعتمد هٰذَا العبد إِلَىٰ الأسباب، فيتكل عليها في حصول مراده، في شفائه من مرضه، فيعلِّق قلبه عَلَىٰ الطبيب أو عَلَىٰ العلاج، أو عَلَىٰ التاجر أو عَلَىٰ رئيسه في عمله، أو نحو ذلك، أو أنه يعلِّق قلبه بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ؛ اعتقادًا بأنَّ الله جَلَّ وَعَلَا هو مسبِّب الأسباب، وهو كاشف الهم، وهو رافع الغم، وهو الَّذِي يشفي المريض، ويقضي حاجة أهل الحوائج، كما قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 62].

 

وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: "إني والله لا أحمل همَّ الإجابة، فإنَّ الله جَلَّ وَعَلَا وعدنا عَلَىٰ الْدُّعَاء بالإجابة، ولكني أحمل في نفسي همّ الْدُّعَاء؛ لأنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]".

 

وفي مواقف المؤمن من هٰذِه الهموم:

أنه أولًا: يعلم أنها من عند الله جَلَّ وَعَلَا قضاءً وتدبيرًا، فيرضى بها، ويسلِّم، ويصبر عَلَىٰ ما أصابه، أو أصاب حبيبه وقريبه من أنواع البلايا، فإنَّ الصَّبْر واجب، والمستحب في هٰذَا هو الرضا والشكر لله عَلَىٰ هٰذِه المصائب والبلايا، وهي مرتبةٌ يا عباد الله من مرتبة مجرد الصَّبْر، أما الجزع وَالتَّسَخُّطُ والاعتراض عَلَىٰ قضاء الله: لماذا أنا يا ربِّ يصيبني ذلك؟! لماذا يا ربِّ حبيبي وقريبي فلان يصيبه هٰذَا؟! فإنَّ هٰذَا اعتراضٌ عَلَىٰ قضاء الله وقدره، وهو قادح في أصل الإيمان بالقضاء والقدر.

عباد الله! إنَّ هٰذِه البلايا بأنواعها والهموم والغموم بأكدارها؛ كلها يجب أن توظفها يا أَيُّهَا المؤمن بأن تكون مقربةً لك إِلَىٰ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، معلقة قلبك وجنانك به، فهو سُبْحَانَهُ النَّافِع وحده، وهو الضار وحده، لا إله غيره، ولا مدبر للكون سواه، فإذا أيقنت بهذا حق اليقين، لجأت إِلَىٰ الله جَلَّ وَعَلَا في همك وغمك، وفي دفع بلائك وفي سرائك وضرائك.

 

في "صحيح البخاري" من حديث عبادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ» أي: تجافت عينه من النوم انتباهًا من اَللَّيْل، لهمٍّ نزل به، أو لغمٍّ يفكر فيه، أو لأمور الحياة الكفيرة المشغلة لقلبه، «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» [1] قالها بلسانه، معتقدًا لها بقلبه وجنانه، إِلَّا إن دعا؛ استجاب الله دعوته، فإن قام وصلى ركعتين؛ غُفر له، كما قَالَ نَبِيُّنا صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 

ودعوة المهموم والمغموم: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» [2]، كذا كان يدعو بها نَبِيّنا صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلِّمه أمته عند شدة الكرب وعند شدة الهم.

 

 وَهٰذَا نبيٌّ من أنبياء الله، جرى عليه من الهم ما تعلمون، فالتقمه الحوت، فان في ظلمة بطن الحوت، مع ظلمة قعر البحر، مع ظلمة اَللَّيْل، وهو لا يزال يردِّد بلسان حاله ولسان مقاله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فَهٰذَا كله توحيدٌ لله جَلَّ وَعَلَا في هٰذَا الموقف العصيب، موقفك أَيُّهَا المهموم وأيها المريض وأيها المكروب هو في لجئك الصادق وانطراحك بين يدي ربك جَلَّ وَعَلَا، دعاءً وضراعةً وابتهالًا؛ لأنه سُبْحَانَهُ الَّذِي يسبِّب الأسباب، وهو الَّذِي يرفع هٰذِه الهموم والغموم الأكدار.

 

وكم في هٰذِه البلايا من منن! كم في هٰذِه المِحَن من منن! فَهٰذِه مريم عَلَيْهَا السَّلَامُ جاءها المخيض إِلَىٰ جذع النخلة، وهي في حالة شديدة، حالة المخاض، وحالة العيبة من النَّاس أن يتهموها في عرضها، ماذا قالت؟ قالت: {قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23] أترون يا عباد الله لو أنها كانت تعلم أنَّ الَّذِي في بطنها هو نبيٌّ رسول، وهو كلمة الله عَزَّ وَجَلَّ إليها وروح منه، أكانت تقول هٰذَا القول؟ لا وَالَّذِي برأ السماء وبراني؛ لأنها لا تعلم ما في هٰذَا الهم العظيم، وما في هٰذِه المحنة الكبيرة من هٰذِه المنن العظيمة، فجيِّروا يا عباد الله، جَيِّروا هٰذِه المِحَن والمصائب والرزايا عليكم، جيروها إيمانًا بالله وتعلُّقًا به، وصدق لجأٍ إليه؛ تُفلحوا في حياتكم وفي دنياكم.

 

ثُمَّ اعلموا -رحمني الله وَإِيَّاكُمْ- أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.

سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

 


[1] أخرجه البخاري (1154).

[2] أخرجه البخاري (6346)، ومسلم (2730) بنحوه.

علي بن عبد العزيز الشبل

أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

  • 0
  • 0
  • 128

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً