أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين الأمة
قالَ ﷺ: «لَأَبْعَثَنَّ معكُمْ رَجُلًا أمِينًا حَقَّ أمِينٍ» ، فاسْتَشْرَفَ له أصْحابُ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فقالَ: «قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ» ، فَلَمَّا قامَ، قالَ ﷺ: «هذا أمِينُ هذِه الأُمَّةِ».
معاشر المؤمنين، صحابة النبي صلى الله عليه وسلم هم خير البشر بعد الأنبياء، اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، لما علم من صفاء نفوسهم ونقاء قلوبهم.
وقد كتب الله تعالى عليهم رضوانه، فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
ونقف اليوم مع صحابي جليل كريم الخصال، كان من أحبِّ الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم بعد الشيخين أبي بكر وعمر، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: أَيُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: فَسَكَتَتْ؛ (رواه الترمذي وغيره وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه الألباني).
بل كان مرشحًا لخلافة النبي صلى الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب من طرف أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين يوم السقيفة مع الأنصار، فقد قال لهم: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبي عبيدة أمين هذه الأمة. ورشَّحه عمر للخلافة بعده ولكن الأجل وافاه، قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه: لو كان أبو عبيدة بن الجرَّاح حيًّا لاستخلفته، فإن سألني ربي عنه قلت: استخلفت أمين الله، وأمين رسوله؟
إنه أمين هذة الأمة كما لقَّبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم: «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة».
هو أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، وصفه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فقال: ثلاثةٌ من قريش أصبحُ الناس وجوهًا، وأحسنُها أخلاقًا، وأثبتُها حياءً، إن حدَّثوك لم يَكْذبوك، وإن حدثتهم لم يُكذِّبوك، أبو بكر الصديق وعثمانُ بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح. كان من السابقين إلى الإسلام، أسلم بعد أبي بكر رضي الله عنه وعلى يديه، وقد مضى أبو بكر به وعبدالرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون، وبالأرقم بن أبي الرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلنوا إسلامهم بين يديه، فكانوا الدعائم الأولى للدعوة الإسلامية.
عانى أبو عبيدة بعد إسلامه، من قريش ولكنه ثبت وصبر، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الغزوات والمشاهد بعد الهجرة.
ثبت يومَ أُحُد حين هُزم المسلمون، وكان من الذين أحاطوا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليدفعوا عنه بصدورهم رماح المشركين، ولما هدأت المعركةُ وقد أُصيب الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فقد كُسرت رباعيته، وشُجَّ جبينُه، وغارت في وجنتيه الشريفتين حلقتان من حِلَق درعه، فأقبل عليه الصديق يريد انتزاعهما، فقال له أبو عبيدة: أُقسم عليك أن تترك ذلك لي، فتركه، وخشي أبو عبيدة إن اقتلعهما بيده أن يؤلم رسولَ الله فعضَّ على أولاهما بثنيَّته عضًّا قويًّا محكمًا فاستخرجها ووقعت ثنيَّته، ثم عض على الأخرى بثنيته الثانية فاقتلعها وسقطت ثنيَّته الثانية.
جاءَ العاقِبُ والسَّيِّدُ صاحِبا نَجْرانَ إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يُرِيدانِ أنْ يُلاعِناهُ، فقالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: لا تَفْعَلْ؛ فَواللَّهِ لَئِنْ كانَ نَبِيًّا فَلاعَنَّا، لا نُفْلِحُ نَحْنُ ولا عَقِبُنا مِن بَعْدِنا، قالا: إنَّا نُعْطِيكَ ما سَأَلْتَنا، وابْعَثْ معنا رَجُلًا أمِينًا، ولا تَبْعَثْ معنا إلَّا أمِينًا، فقالَ صلى الله عليه وسلم: «لَأَبْعَثَنَّ معكُمْ رَجُلًا أمِينًا حَقَّ أمِينٍ»، فاسْتَشْرَفَ له أصْحابُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: «قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ»، فَلَمَّا قامَ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هذا أمِينُ هذِه الأُمَّةِ».
الراوي: حذيفة بن اليمان|المحدث: البخاري|المصدر: صحيح البخاري.
قالَ الْحَافِظُ رحمه الله: صِفَةُ الْأَمَانَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَكِنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ مَزِيدًا فِي ذَلِكَ، لَكِنْ خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْكِبَارِ بِفَضِيلَةٍ، وَوَصَفَهُ بِهَا؛ فَأَشْعَرَ بِقَدْرٍ زَائِدٍ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ؛ كَالْحَيَاءِ لِعُثْمَانَ، وَالْقَضَاءَ لِعَلِيٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ (تحفة الأحوذي).
معاشر المؤمنين، فتح الله على يدي أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه الفتوح، وكان من قادةِ فتوحِ الشام، ويشهد له التاريخُ موقفًا خالدًا يدلُّ على إخلاصه وتواضُعه وصدقه، فعندما تولى عمرُ الخلافةَ بعد أبي بكر الذي قد ولَّى خالدَ بن الوليد قيادة جيش المسلمين في اليرموك، فبعث عمر خطابًا بعزلِ خالد وتوليةِ أبي عبيدة، وصل الخطابُ إلى أبي عبيدة، فأخفاه حتى انتهت المعركة، ثم أخبر خالدًا بالأمر، فسأله خالد: يرحمك الله أبا عبيدة، ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب؟، فأجاب أبو عبيدة: إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله أخوة، وأصبح أبو عبيدة أمير الأمراء في الشام.
قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحابه: تمنَّوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءةً ذهبًا أنفقه في سبيل الله. ثم قال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدَّق. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أن هذه الدارَ مملوءةٌ رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح.
هكذا كانت قلوب الصحابة وأمنياتهم معلقةً بهذا الدين، يتمنون نصرته بالمال والجهاد، أما عمر فعلم أنما ينتصر هذا الدين بالرجال الصادقين؛ كأبي عبيدة، وصدق رضي الله عنه.
هكذا كان جيلُ الصحابةِ الكرام، إيمانًا وصدقًا وتجرُّدًا لله تعالى، ففتح الله لهم القلوب والأمصار، وحطَّموا برج كل ظالم وجبَّار، فرضي الله عنهم وأرضاهم، ورزقنا حبهم وولايتهم، وجمعنا وإياهم مع نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في كريم مثواهم.
معاشر المؤمنين، كان أبو عبيدة خيرَ ناصحٍ ووزيرٍ لأبي بكر رضي الله عنه، ودان بالطاعة لعمر رضي الله عنه، ولم يعصه طوال سيرته معه في أمر قط إلا مرةً واحدةً، وقع ذلك حين كان أبو عبيدة في بلاد الشام فاتحًا وواليًا، ووقع فيها الطاعون الذي كان يحصد الناس حصدًا، فأشفق عمر على أبي عبيدة أن يصاب فيه، فما كان منه إلا أن وجَّه رسولًا إلى أبي عبيدة برسالةٍ يقول فيها: إني بدت لي إليك حاجة لا غنى لي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلًا فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إليَّ، وإن أتاك نهارًا فإني أعزم عليك ألا تمسي حتى تركب إليَّ، فلما وصل الكتابُ لأبي عبيدة قال: قد علمت حاجة أمير المؤمنين إليَّ، فهو يستبقي من ليس بباقٍ، ثم كتب إليه يقول: يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إليَّ، وإني في جندٍ من المسلمين، ولا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم، ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم أمره، فإذا أتاك كتابي هذا فحلّلني من عزمك وأذن لي بالبقاء.
فلما قرأ عمرُ الكتابَ بكى حتى فاضت عيناه، فقال له من عنده من شدة بكائه: أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين؟ فقال: ولكن الموت منه قريب.
ولم يلبث أبو عبيدة أن أصيب بالطاعون، فلما حضرته الوفاةُ أوصى جنده فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا وحجوا، واعتمروا، وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن المرء لو عمر ألف حولٍ ما كان له من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، ثم التفت إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال: يا معاذ، صلِّ بالناس، ثم فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.
رحم الله أولئك المجاهدين الأبرار، والصحابة الأخيار، وجعلنا الله ممن يسير على نهجهم القويم، وصدق الله جلَّ وعلا {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
________________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي
- التصنيف: