لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا

منذ 14 ساعة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

{بسم الله الرحمن الرحيم}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}

مما يعلم به حكمة نظم هذه الآية في سلك قصة أحد، ما رواه أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «أَنْ عَمْرَو بْنَ أُقَيْشٍ، كَانَ لَهُ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى يَأْخُذَهُ، فَجَاءَ يَوْمُ أُحُدٍ، فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو عَمِّي؟ قَالُوا بِأُحُدٍ، قَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا بِأُحُدٍ، قَالَ: فَأَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا يَا عَمْرُو، قَالَ: إِنِّي قَدْ آمَنْتُ، فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَحُمِلَ إِلَى أَهْلِهِ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: سَلِيهِ حَمِيَّةً لِقَوْمِكَ، أَوْ غَضَبًا لَهُمْ أَمْ غَضَبًا لِلَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَمَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَا صَلَّى لِلَّهِ صَلَاةً» " [حسنه الألباني]

وفي مسند أحمد عن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَقُولُ: حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ: أُصَيْرِمُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، قَالَ الْحُصَيْنُ: فَقُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ الْأُصَيْرِمِ؟ قَالَ: كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ عَلَى قَوْمِهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُحُدٍ بَدَا لَهُ الْإِسْلَامُ فَأَسْلَمَ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ فَغَدَا حَتَّى أَتَى الْقَوْمَ فَدَخَلَ فِي عُرْضِ النَّاسِ، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا رِجَالُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ إِذَا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا: وَاللهِ إِنَّ هَذَا لَلْأُصَيْرِمُ، وَمَا جَاءَ؟ لَقَدْ تَرَكْنَاهُ وَإِنَّهُ لَمُنْكِرٌ لِهَذَا الْحَدِيثَ، فَسَأَلُوهُ مَا جَاءَ بِهِ؟ قَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا عَمْرُو، أَحَدَبًا [حنوا وعطفا] عَلَى قَوْمِكَ، أَوْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، آمَنْتُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ سَيْفِي فَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ فَقَاتَلْتُ حَتَّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي، قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) [قال شعيب الأرنؤوط: حسن]

وذكر القفال -من علماء الشافعية- "أن بين هذه الآية الناهية عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وغزوة أحد مناسبة ظاهرة، وذلك أن المشركين في غزوة أحد أنفقوا على عساكرهم أموالا كثيرة جمعوها من الربا، ولعل ذلك يدعو بعض المسلمين إلى الإقدام على الربا، حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر ويتمكنوا من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم عن ذلك".

وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية.

وقال في «الظلال»: "وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة - معركة أحد - والتعقيبات على وقائعها وأحداثها.. تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى.. المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة.. يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله. وعن الإنفاق في السراء والضراء والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون. وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة. وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة".

وقال أبو السعود: "ولعل إيرادَ النهي عن الربا في أثنائها لِما أن الترغيبَ في الإنفاق في السراء والضراءِ الذي عُمدتُه الإنفاقُ في سبيل الجهادِ متضمنٌ للترغيب في تحصيل المالِ فكان مظِنةَ مبادرةِ الناسِ طرق الاكتساب ومن جملتها الربا، فنُهوا عن ذلك".

ويتجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى مما في هذه السورة، فالجواب: أن الظاهر أن هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيدا لتلك، ولم يكن النهي فيها بالغا ما في سورة البقرة.

{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}} ندائهم باسم الإيمان من باب الإغراء والحث على ما تضمنه الخطاب؛ لأن مناداة هؤلاء باسم الإيمان يدل على أن ذلك من أجل أن يثير هممهم. ويفيد أيضاً: أن الالتزام بما دل عليه الخطاب من مقتضيات الإيمان، فمثلاً ترك أكل الربا من مقتضيات الإيمان؛ لأن الخطاب وجه للمؤمنين، ويستفاد أمر ثالث: وهو أن المخالفة في هذا منقصة للإيمان وسبب لنقصانه.

فابتدأ الله سبحانه وتعالى الآية بهذا النداء لبيان أن أكل الربا ليس من شأن أهل الإيمان، وإنما هو من خواص أهل الكفر والعصيان، فإذا كان المشركون يأكلون الربا ويتقوَّوْنَ به، ويكاثرون أهل الإيمان بأموالهم التي اكتسبوها من السحت فليس لأهل الحق أن يجاروهم، بل عليهم أن يحرموه على أنفسهم، ولا يأكلوا إلا حلالا طيبا.

وكل نهي جاء مصحوباً بنداء المؤمنين: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}} فهو من المحرمات؛ التي يأثم فاعلها، ويثاب تاركها: {{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}} [النور:21] {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}} [آل عمران:156] {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}} [النساء:29] {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}} [الأنفال:27]

{{لَا تَأْكُلُوا}} عبر بالأكل لأنه أخص ما يكون في ملابسة الإنسان، فالذي يدخل إلى جوفك ليس كالذي تُلبسه ظاهر جسدك، وليس كالبيت الذي تسكنه، فإن أبلغ ما يكون في ملامسة الإنسان هو الأكل، ولهذا نهى عنه، والإنسان عندما لا يكون لديه شيء وهو جائع عار وليس عنده سكن يقدم الأكل فهو أشد ما يكون ضرورة للإنسان.

ولذلك قالوا: لا مفهوم للأكل بل كل تصرف بالربا حرام سواء كان أكلاً أو شرباً أو لباساً.. فالمرادُ بأكله أخذُه، وإنما عُبر عنه بالأكل لما أنه مُعظم ما يقصَد بالأخذ، ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ.

{{الرِّبَا}} الربا لغة: الزيادة، وفي الشرع نوعان: «ربا فضل» و «ربا نسيئة».. ربا الفضل: يكون في الذهب والفضة والبُر والشعير والتمر والملح، فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل -أي الزيادة- ويحرم التأخير، وربا النسيئة: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل فيحل الأجل ولم يجد سدادا لدينه فيقول له: "أخرني وزد في الدين".

وقد تقدم في البقرة من المبالغة في النهي عنه ما يروع من له أدنى تقوى. ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان: {{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [البقرة:279]

{{أَضْعَافًا}} نهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها، وأشار بقوله: {مُضَاعَفَةً} إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام.. والأضعاف: جمع ضعف، وهو من جموع القلة. فلذلك أردفه بالمضاعفة التي هي صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التضعيف.

وهذه الحال لا مفهوم لها، لأن شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرى لحكاية الواقع، بل ذكرت لمراعاة عادتهم، فلا مفهوم لهذا لأنه خرج مخرج العادة الغالبة، إذ الدرهم الواحد حرام كالألف، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين فيصبح أضعافاً كثيرة.

فما جاء على وفق العادة الغالبة فإنه لا مفهوم له، وهذه قاعدة من قواعد أصول الفقه، أن القيد إذا كان من أجل أنه الأمر الغالب فإنه لا مفهوم له، وله أمثلة منها قوله تعالى: { {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ}} [النساء:٢٣] فإن قوله: {{اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم}} قيد على وفق العادة والغالب، ولهذا تحرم الربيبة وإن لم تكن في حجره، ومنه قوله تعالى: {{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} } [النور:٣٣] فإن هذا لا يدل على أن الأمة إذا امتنعت من الزنا لأن الرجل الذي طلب منها أن تزني به لا يعجبها أنه يجوز إكراهها عليه.

وهذه الحال في الربا أيضا ليست قيداً في النهي بل هي للتشنيع، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة، لما هو معلوم من تحريمه على كل حال.

وفي حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، مِثْلٌ بِمِثْلٍ، مَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي سَوَاءٌ)» [أحمد] أي وقع في الربا مع أنه لم يأكل أضعافاً مضاعفة.

وفي البخاري عن عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(مِنْ أَيْنَ هَذَا؟) قَالَ بِلَالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ: (أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ) » والصاع بالصاعين وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عين الربا، وليس فيه ظلم، وليس فيه أضعافاً مضاعفة، ومع ذلك سماه رباً بل عين الربا.

إذن هذا القيد لا مفهوم له خلافاً لمن قال إنه قيد شرطي، وأن الربا لا يحرم إلا إذا كان في هذه الصورة، وأجازوا الربا إذا كان ليس فيه ظلم وإنما هو استثماري تزداد به أموال الدولة وينشط به الاقتصاد، فإن من العلماء ولاسيما المتأخرون من زعم ذلك ولكنه زعم باطل، الربا محرم بأي نوع من أنواعه سواء كان أضعافاً مضاعفة أو ضعفاً واحداً أو دون الضعف.

 

قال عطاء: كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون.

وقال زيد بن ثابت: إنما كان ربا الجاهلية في التضعيف يكون للرجل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: "تقضيني أو تزيدني".

وبهذه الأخبار الصحاح تبين أن ربا الجاهلية كان أساسه الزيادة في الدَّين للزيادة في الأجل من غير نظر إلى سبب الدَّين، وأن هذا الربا المنصوص عليه في الآية هو «ربا الجاهلية»، وهو الذي ذكره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبة الوداع، إذ قال: «(وَإِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ اللهَ قَضَى أَنَّ أَوَّلَ رِبًا يُوضَعُ، رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ)» [أحمد، صحيح لغيره]

وربا الجاهلية المنصوص عليه في الآية يحرم كل زيادة قلت أو كثرت، أيا كان سبب الدين، إذ يقول سبحانه في آخر البقرة وهيِ آخر آيات الربا نزولا: {{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}} .

قال في زهرة التفاسير: وقد ادعى بعض الذين يريدون أن يطوعوا الشريعة لتخضع للنظام الربوي اليهودي القائم- أن ربا القرآن هو «ربا الديون الاستهلاكية» أي الديون التي تقترضها لغرض: ليأكل أو ليسكن أو ليشترى ثيابا، وذلك قول باطل؛ لأن تخصيص عموم القرآن لَا يكون بالتحكم في عباراته، بل يكون تخصيصه بنصوص، أو بقواعد مستمدة من نصوص الدين عامة، ولأن العرب لم تكن حياتهم عريضة؛ لأن عيشهم كان ساذجا ولم يكن معقدا، إذ حياتهم تقوم على التمر واللبن وسكنى الأخبية، فلماذا يكون الاقتراض للاستهلاك؟!

ولأن ربا الجاهلية كان حيث التجارة، فقد كان في مكة والمدينة وهما يتجران كما هو ثابت في التاريخ إذ ينقلان بضائع الروم إلى الفرس، وبضائع الفرس إلى الروم عن طريق القوافل في الصحراء، وقد قال الله تعالى: {{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}} [قريش:1-2]

ولأن الدائنين الذين كانوا يرابون في الجاهلية لَا يتصور منهم أن يجيئهم محتاج للمال ينفقه في حاجاته الضرورية فيمتنع عن إعطائهم إلا بربا، فهذا العباس الذي كان يسقي الحجيج جميعا نقيع الزبيب والتمر لَا يتصور منه أن يجيء إليه محتاج، فلا يعطيه إلا بفائدة، إنما يتصور أن يعطي تاجرا يتجر في ماله ولا يحد له الكسب إلا بزيادة محدودة مستمرة لَا بنسبة من الربح؛ ولأن المدينين الذين جاءت الأخبار بذكرهم لم يكونوا من الفقراء، بل كانوا من التجار، فبنو المغيرة الذين كانوا مدينين لبعض ثقيف هم تجار لَا فقراء.

وبهذا يتبين أن تحريم الربا في الإسلام لإيجاد نظام اقتصادي تمنع فيه الأزمات".

{{وَاتَّقُوا اللَّهَ}} فيما نُهيتم عنه من الأعمال التي من جملتها الربا. وهذا من باب التوكيد يعني أن أكلكم مجانب للتقوى.

{{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}} «لعلَّ» هنا للتعليل؛ لأن الكلام صادر من الله، والترجي في حق الله مستحيل؛ لأن الترجي طلب ما فيه مشقة، والله سبحانه وتعالى لا يشق عليه شيء، كل شيء عليه هين، فتكون «لعلَّ» للتعليل يعني من أجل أن تفلحوا.

و «لعلَّ» تأتي كثيراً للتعليل وللإشفاق، وللترجي وللتمني أحياناً والفرق بين التمني والترجي أن الترجي فيما يرجى حصوله، والتمني فيما لا يرجى حصوله إما لعسره وإما لتعذره.

والفلاح قال أهل العلم: إنه كلمة جامعة لحصول المطلوب وزوال المكروه، وتقوى الله -عز وجل- من أسباب الفلاح في القيام بطاعته واجتناب نهيه، وهو أمر يسير على من يسره الله عليه، افعل ما أمرت به، واترك ما نهيت عنه وبذلك يحصل لك الفلاح.

ولما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهى الشرع عنه. ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة.

وهذه إشارة إلى أن تحريم الربا فيه صلاح الدنيا، وأن أولئك الذين يزعمون أن المصلحة في إباحته في عصرنا ويتأولون الشريعة ليخضعوها لتلك المدنية الآثمة، واهمون في معنى المصلحة، لأن علماء الاقتصاد يقررون أن نظام الفائدة هو سبب الأزمات، وهو نظام مؤقت حتى يجدوا ما يحل محله، وعندنا نظامنا، وأكثر البلاد الخاضعة للنظام الروسي أو آخذة به حرمته، والاشتراكية الوطنية الألمانية قبل الحرب حرمته، ولم يضر مصلحتها شيء، بل حمت مصالح البلاد.

** وفيه أن أكل الربا منقص للإيمان، وهذا أمر لا شك فيه عند أهل السنة والجماعة؛ لأنه كبيرة من كبائر الذنوب، وفعل الكبائر عند أهل السنة ينقص الإيمان، وعند الخوارج يخرج من الإيمان ويدخل الكفر، وعند المعتزلة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر؛ لأنهم يقولون: إن فاعل الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، فهو خارج من الإيمان غير داخل في الكفر. وعند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، لو يأكل الربا ليلاً ونهاراً فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن نحن نقول: هو مؤمن ناقص الإيمان.

{{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ}} هيئت وأحضرت.. فلما تقدم {{وَاتَّقُوا اللَّهَ}} والذوات لا تتقى، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه الآية. فقال: {{وَاتَّقُوا النَّارَ}} .

  {{لِلْكَافِرِينَ}} الذين لا يطيعون الله فيما أمر، ولا يعبأون بتهديده ووعيده، وقيل: بالتحرز عن متابعتهم في الربا ونحوه.

قيل: توعد أكلة الربا بنار الكفرة، إذ النار سبع طبقات: العليا منها وهي جهنم للعصاة، والخمس للكفار، والدرك الأسفل للمنافقين. فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار، لا بنار العصاة.

وقال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا.

وقال الزجاج: واتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا.

وقيل: اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار.

أي اجعلوا بينكم وبين النار التي أعدها الله تعالى للكافرين وقاية من الطاعة، ولا تنحرفوا عن الشرع ومقاصده إلى أهواء الكافرين ومنازعهم، وقد اقترنت هذه الآية بآية تحريم الربا لتهديد المعاندين أو الذين يمارون في الشرع ويجادلون فيه، وهذا كقوله تعالى في آية تحريم الربا في البقرة: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}} [:البقرة:278]

روي عن أبي حنيفة –رحمه الله تعالى- أنه كان يقول: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه.

وفيه إشعار بأن النار موجودة؛ إذ لا يُعدُّ المعدوم، وأنها بالذات معدة للكافرين، وبالعرض للعاصين.

قال الورتجبي: في الآية إشارة إلى أن النار لم تعد للمؤمنين، ولم تخلق لهم، ولكن خوفهم بها زجراً وعظة، كالأب البار المشفق على ولده يخوفه بالأسد والسيف، وهو لا يضربه بالسيف، ولا يلقيه إلى الأسد، فهذه الآية تلطف وشفقة على عباده.

{{وَأَطِيعُوا اللَّهَ}} في كل ما أمركم به ونهاكم عنه.. وأصل الطاعة من الطوع وهو الانقياد، ومنه قولهم: هذه ناقة طوع أي منقادة لقائدها لا تستعصي عليه.

{{وَالرَّسُولَ}} الذي يبلّغكم أوامرَه ونواهيَه، «ال» فيه للعهد الذهني. وذلك أن العهد ثلاثة أنواع: ذكري وحضوري وذهني، فإن كانت «ال» تشير إلى شيء مذكور فهي للعهد الذكري مثل قوله تعالى: {{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}} [المزمل:١٥-١٦]

وإن كانت تشير إلى شيء حاضر فهي للعهد الحضوري مثل قوله تعالى: {{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينكم}} [المائدة:3] وهكذا كل «ال» تأتي بعد اسم الإشارة فهي للعهد الحضوري مثل: هذا الرجل، هذا الإنسان، وما أشبهه.

والثالث العهد الذهني الذي يكون معلوماً بالذهن، فهنا الرسول هو محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو معهود ذهناً.

قال ابن إسحاق: هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فرَّ، وزوال الرماة من مركزهم.

وقيل: صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا، والمخالفة يوم أحد.

** وفيه جواز اقتران اسم الرسول باسم الله في الأمر الذي يكون مشتركاً بينهما؛ لقوله: {{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}} أما الأمر الذي لا يكون مشتركاً بينهما، وهو الأمر الكوني القدري، فهذا لا يذكر فيه الرسول مع الله إلا بحرف يدل على الترتيب، وبهذا نعرف الفرق بين إسناد الشيء الشرعي إلى الله ورسوله، وبين إسناد الكوني إلى الله ورسوله، فإسناد الشيء الشرعي يجوز بالواو، وأما الكوني فلا يجوز إلا بـ «ثم» الدالة على الترتيب والمهلة، فإذا قلت في أمر شرعي: الله ورسوله أعلم فهذا صحيح وجائز، وقد أقره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفسه فإنه في حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى بهم صلاة الصبح على إثر سماء كانت من الليل فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فأقرهم لأن المراد هنا العلم الشرعي، لكن في المسائل الكونية لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت أنكر عليه وقال :أجعلتني الله عدلاً؟! بل ما شاء الله وحده.

{{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}} المراد الرحمة الخاصة؛ لأن الرحمة العامة حاصلة لنا على كل حال حتى الكفار لهم رحمة من الله لكنها رحمة عامة، فالمراد بالرحمة هنا الرحمة
الخاصة التي بها سعادة الدنيا والآخرة.

عقّب الوعيدَ بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة، وإيرادُ {لَعَلَّ} في الموضعين للإشعار بعزة منالِ الفلاحِ والرحمة.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 45

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً