يا عِباد الله اثبتوا ..!!

منذ يوم

هذا هو حال المؤمن في زمان الفتنة، يمسك بدينه كما يمسك ذلك الرجل بالجمر، لا لأنه يحب الألم، ولكن لأنه يعلم أن هذه الجمرة، وإن أحرقته اليوم، فإنها مآلها نعيمًا مقيمًا.

 

تخيل رجلاً يمسك بجمرة متقدة بين يديه، حرارتها تحرق جلده، ألمه يتضاعف كلما ازداد اشتعالها، والناس من حوله ينظرون إليه بدهشة، يصرخون فيه: "ارمها! خلّص نفسك!" لكنه يرفض، يقبض عليها بقوة، رغم أن الألم يزداد، رغم أن العيون تحيط به مستنكرة، ورغم أن الطريق أمامه يبدو طويلاً.

هذا هو حال المؤمن في زمان الفتنة، يمسك بدينه كما يمسك ذلك الرجل بالجمر، لا لأنه يحب الألم، ولكن لأنه يعلم أن هذه الجمرة، وإن أحرقته اليوم، فإنها مآلها نعيمًا مقيمًا.

لقد أخبر النبي عن هذا الزمن فقال: « "يأتي على الناس زمانٌ الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر"» . وكأنما يخبرنا أن الأيام ستأتي، وتكون فيها الفتن كقطع الليل، يُعرض الحق كأنه باطل، ويُزيَّن الباطل حتى تراه الأعين كأنه الحق، ويبقى المؤمن وحده، يقاوم التيار، يثبت أمام الزوابع، يتلقى السهام من كل اتجاه، لكنه لا ينحني، ولا يستسلم.

فكيف نكون من هؤلاء الصابرين؟ وكيف نثبت حين تميل القلوب، ونبقى على الطريق حين تزل الأقدام؟ هذا ما سنحاول استكشافه في السطور القادمة...

لقد أخبر النبي عن هذا الزمان فقال: «"يأتي على الناس زمانٌ الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر"» . كأنه يحذر أمته من يوم يُقلب فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، يوم يصبح التمسك بالدين غريباً بين أهله، ويصير أهل الإيمان قلة في بحر من الفتن والمغريات.

زمن الفتن وانقلاب الموازين ..

لقد تبدلت القيم، وتغيرت المفاهيم، حتى صار الحق في نظر الناس تخلفاً، والباطل تقدماً. يُقلبون الموازين، فإذا قال لك الرجل: «كن متفتح العقل»، فهو يريد منك أن تتخلى عن ثوابتك. وإذا دعاك إلى «حرية الفكر»، فهو يريدك أن تتحرر من يقينك، أن تشكّ في كل شيء، أن تنظر إلى دينك نظرة المتردد الذي لا يدري أين يجد الحق!

إنهم يزينون الباطل، ويلبسونه ثوب الحكمة، ويجعلون للمعصية ألف اسم جديد حتى لا ينفر الناس منها، فتارة يسمونها «حرية شخصية»، وتارة «متطلبات العصر»، وتارة «رقي فكري». أما المتمسك بدينه، فهو عندهم معقد، متشدد، يعيش خارج الزمن، لا يواكب «التطور»!

يعيش الغريب في زمانه غربة حقيقية، ليست غربة الديار ولا غربة الأوطان، بل غربة الفكرة، غربة العقيدة، غربة المؤمن بين قوم لا يعرفون قيمة الإيمان. يراه الناس متخلفاً لأنه لا يلهث خلف الدنيا، أو متشدداً لأنه يضع حدوداً لحياته، أو معقداً لأنه يأبى أن يسير حيث تسير الأهواء! لكنه يعلم أنه على الحق، وأن هذا الطريق هو الطريق الذي سار عليه الأنبياء والصالحون، ولم يكن طريقهم مفروشًا بالورود، بل كان مليئًا بالأشواك، محفوفًا بالمحن، مرصوفًا بالصبر والتوكل على الله.

الصابرون في وجه العاصفة ..

إن الصابر على دينه اليوم هو الذي يمضي في طريقه ولو سار الناس في عكسه، هو الذي يسمع السخرية ولا يهتز، يرى الجموع قد انحرفت عن الصراط المستقيم ولا يغتر بالكثرة، بل يزداد ثباتاً. ألم يقل الله تعالى: { "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ"} (الأنعام: 116).

الصابر على دينه هو الذي يرى الناس يتهافتون على الدنيا، يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، وهو ثابت لا تغريه الأموال، ولا تستميله الشهوات. يرى الحرام وقد زُين بفتاوى مزيفة، وأقوال مردودة، لكنه لا يلتفت إليها، لأنه يعلم أن الحلال بيّن، وأن الحرام بيّن، وأن هذا الدين جاء ليبقى، لا ليتشكل وفق أهواء الناس.

ولكن، هل يكفي الصبر وحده؟ كلا، بل لا بد معه من البصيرة، لا بد أن يكون المؤمن على بينة من دينه، أن يتعلم، أن يفقه، أن يكون حصنه في قلبه قبل أن يكون في ظاهره. فكم من رجل ظن أنه صابر على دينه، فلما جاءت الفتنة زلّ، لأنه لم يكن على بصيرة، ولم يكن إيمانه مبنياً على علم راسخ.

الصبر في مواجهة الاستهزاء والأذى ..

إن الصابر على دينه قد يواجه الاستهزاء والسخرية، وقد يتعرض للمضايقات، وقد يجد نفسه محاصراً بين أصدقاء وزملاء وأقارب لا يفهمون موقفه، بل يعجبون كيف يرفض أن ينساق معهم فيما انساقوا إليه. لكنه يعلم أن هذا طريق الأنبياء، وما أوذي أحد في دينه كما أوذوا، فها هو نوح عليه السلام يسخر منه قومه، وها هو إبراهيم يحطّم الأصنام فيواجه بالرمي في النار، وها هو موسى عليه السلام يطارده فرعون، وها هو محمد يُضطهد ويؤذى ويخرج من بلده، لكنه يصبر، فينصره الله.

فلا تحزن أيها الصابر، ولا تظن أنك وحدك، فقد سبقك من هم خير منك، ولقوا أشد مما لقيت، ولكن الله ثبتهم وثبت قلوبهم، ورفع درجاتهم بصبرهم.

الجزاء العظيم للصابرين ..

وليس الصبر على الدين مجرد احتمال الأذى، بل هو ثبات القلب حين تميل العقول، وقوة النفس حين تنهار النفوس، وإيمان يملأ الصدر ولو أُغلقت الأبواب كلها في وجه الحق. هو أن تكون وحدك في الميدان، حتى ولو كان الناس من حولك ينهزمون، ولكنك تبقى صامدًا، لأنك لم تكن تقاتل لأجل الناس، بل لأجل الله.

ولكن، هل يدوم هذا الحال؟ لا والله! إنما هو ابتلاء، ثم نصر، ثم فرج. ألم يقل النبي : "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ"؟ فمهما اشتدت الفتنة، فالدين باقٍ، ومهما زاد الظلام، فالفجر قريب.

فيا أيها الصابر على دينك، أبشر! ..

أبشر، فإنك اليوم تمسك الجمر، لكنك غداً ستتناول ثمار الجنة. أبشر، فإنك وإن كنت قليل الناصر، فالله الواحد القهار معك، وإن كنت غريباً في قومك، فالغرباء هم أهل الجنة. أبشر، فإنك تمضي على طريق الأنبياء، وإذا كانت الجنة غالية، فإن ثمنها هو هذا الصبر الذي تحمله، فلا تحزن أيها الصابر، ولا تيأس أيها القابض على الجمر، فما عند الله خير وأبقى.

ولكن ما الأمور التي تعينك على التمسك بدينك ولو كنت كالقابض على الجمر؟ هناك أسباب كثيرة منها:

  • التمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ..

عندما تشتد الفتن وتختلط الأمور، لا ملجأ لك إلا في القرآن والسنة، فاجعل قلبك معلقًا بهما، ولا تأخذ دينك إلا من مصادره الصحيحة، قال النبي : «"تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله وسنّتي"» .

  • اللجوء إلى العلماء الربانيين والبعد عن دعاة الفتنة ..

في زمن الغربة يكثر أدعياء العلم الذين يحرفون الدين لخدمة أهوائهم، فاحرص على الرجوع إلى العلماء الربانيين الذين عُرفوا بتمسكهم بالحق، واستقامتهم، وابتعادهم عن مواطن الشبهة، قال الله تعالى: { "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"} (النحل: 43).

  • الثبات على الحق وعدم التلون مع الأهواء ..

في زمن الفتن، سيحاول الناس إقناعك أن تسير معهم، أن تتنازل شيئًا فشيئًا، أن تساوم على مبادئك، لكن المؤمن الصادق يبقى ثابتًا، لا تهزه العواصف، قال النبي : " لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا " (رواه الترمذي).

  • ملازمة الصحبة الصالحة والبعد عن رفقاء السوء ..

الغربة تزداد قسوة حين تكون وحيدًا، لكن إن وجدت أهل الإيمان، فستشعر بالطمأنينة، وستقوى بهم كما يقوى الحديد بالنار، قال النبي : « "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"» .

  • الزهد في الدنيا وعدم الافتتان ببهرجها ..

كثير من الفتن تأتي من حب الدنيا والانشغال بها، لكن المؤمن يعلم أن هذه الحياة دار ممر لا دار مقر، فلا تغره زخارفها، قال النبي : «"كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"» .

  • الصبر واليقين بوعد الله ..

مهما اشتدت الفتن، فالأيام دول، والله وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين، فاصبر، واثبت، وتيقن أن الله لا يخذل أولياءه، قال تعالى: {"وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"} (الأعراف: 128).

  • الإكثار من الدعاء والاستعانة بالله ..

لا شيء ينجيك من الفتن مثل أن تلجأ إلى الله، فكن كثير الدعاء، وخاصة بدعاء النبي : "اللهم يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" .

أيها القابض على دينك، يا من تمضي وحدك في طريق الحق بين جموع التائهين، يا من يغرِّبك إيمانك في قومك، وتحيط بك الفتن من كل جانب، اصبر! اصبر وإن رأيت المنكر قد صار مألوفًا، والمعروف قد صار غريبًا، اصبر وإن سمعت الساخرين يسخرون، والمرجفين يهمسون، والمخذِّلين يثبّطون، اصبر وإن رأيت نفسك غريبًا بينهم، فالغربة في الدنيا أهون من الغربة في الآخرة!

تذكَّر أنَّ الذين سبقوك ساروا على هذا الدرب، نزلت عليهم الفتن كالسيل الجارف، حوصِروا، وأوذوا، وشُرّدوا، بل منهم من قُتل، ومنهم من سُجن، ومنهم من عُذّب في دينه أشد العذاب، ولكنهم صبروا، فأين هم اليوم؟ لقد سبقونا إلى النعيم، سبقونا إلى حيث لا فتن، ولا خوف، ولا ألم، سبقونا إلى وعد الله الحق.

انظر إلى بلال بن رباح رضي الله عنه وهو يلقى فوق الرمضاء الحارقة، والصخرة العظيمة فوق صدره، ولا يزيده ذلك إلا صلابة، وهو يقول: "أحدٌ، أحد!". تأمَّل ياسر وزوجته سمية وابنهما عمار رضي الله عنهم، وهم يُعذَّبون في شعاب مكة، فيخرج إليهم رسول الله ، فيجدهم تحت سياط الظلم، فلا يملك إلا أن يقول: «"صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة"» !

أما نحن، فماذا أصابنا من الأذى؟ هل سُحبنا إلى ساحات العذاب؟ هل وُضعت السيوف على رقابنا؟ كلا، لكنها فتنة أخرى، فتنة ناعمة، فتنة تغرينا، فتنة تدعونا إلى ترك الدين باسم "التسامح"، وإلى ترك الحجاب باسم "التجديد"، وإلى ترك الطاعة باسم "الحرية"، وإلى التخفف من الفرائض باسم "التيسير"!

أيها الصابر، اعلم أن هذا الطريق ليس طويلاً، وأن وراء هذا الليل فجراً يضيء، وأن خلف هذه الفتنة جنةً عرضها السماوات والأرض. واعلم أن الأيام تمضي، وأنك يوم القيامة ستقف بين يدي الله، فتُعرض عليك الدنيا وما فيها، وما عرضوه عليك من مغريات، وما ألقوه عليك من سهام السخرية، وما احتملته من الأذى، ثم ترى أمامك الجنة {﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ  فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾} [ الرعد: 24]

فيا أخي، ويا أختي، لا تضعفوا، لا تستسلموا، لا تلتفتوا إلى من يريد أن يطفئ نور قلوبكم! تمسكوا بهذا الدين وإن كان ثمنه دموعًا، تمسكوا به وإن اضطررتم إلى الوقوف وحدكم، تمسكوا به كما تمسك نوح عليه السلام بدعوته تسعمئة وخمسين عامًا، وكما تمسك إبراهيم عليه السلام بتوحيده وهو يُلقى في النار، وكما تمسك محمد برسالته وهو يُهاجر من بلده، وكما تمسك الصحابة الكرام بدينهم وهم يواجهون الدنيا كلها بلا سلاح إلا الإيمان.

واعلموا أن الأيام دول، وأن الله لا يخذل عباده، وأن هذه الغربة التي تعيشونها اليوم ستنقلب عزاً وتمكيناً، وأن صبركم هذا لن يضيع، بل هو عند الله مكتوب، محفوظ، محسوب، والله لا يضيع أجر الصابرين.

فاصبروا وصابروا ورابطوا، وتمسكوا بجمر الدين، فإن الجمر اليوم، نجاة يوم القيامة، وما عند الله خير وأبقى! والعاقبة للمتقين.

  • 0
  • 0
  • 60

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً