ترامب وتهجير فلسطينيي غزة.. مناورة أمريكية لتحقيق ما عجزت عنه آلة الإبادة الإسرائيلية

منذ 2025-02-14

يبدو أن غزة تواجه فصلًا جديدًا من العدوان ومحاولة يائسة لإخراج أهلها منها، لكن هذه المرة تحت غطاء الحلول السياسية التي تروج لها واشنطن، هل يملك مشروع واشنطن الأدوات لتحقيقه أم هي مجرد ورقة مساومة للحصول على أفضل النتائج؟

لطالما كانت غزة شوكة في حلق المشاريع الاستعمارية، عصية على كل محاولات الإبادة والاحتواء، لكن الولايات المتحدة اليوم تحت إدارة دونالد ترامب لا تلوّح بالسلاح وحده، بل تسعى إلى إعادة تشكيل مصيرها بوسائل تبدو أكثر دهاءً، في الماضي كان التهجير القسري للفلسطينيين يُطرَح في كواليس السياسة الأمريكية كخيار محتمل، أما اليوم فقد بات الحديث عنه خيارًا واقعيًا ومطلبًا لمناورة استراتيجية تحقق ما عجزت عنه آلة الحرب الإسرائيلية، الحديث عن إعادة توطين سكان غزة ليس مجرد فكرة طارئة، بل جزء من مشروع أوسع لإعادة هندسة المنطقة وفق رؤية تتجاوز حدود الاحتلال العسكري إلى تغيير ديمغرافي وسياسي شامل.

فهل يكون التهجير القسري هو السلاح الصهيوــــــ أمريكي الجديد لتصفية القضية الفلسطينية؟، وهل تتحول غزة من ساحة مواجهة إلى ورقة مساومة في لعبة المصالح الدولية؟

نكبة جديدة:

في خطوة غير مفاجئة، أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جدلًا واسعًا بدعوته إلى إعادة توطين أكثر من 1.5 مليون فلسطيني من قطاع غزة في الأردن ومصر، إما مؤقتًا أو إلى أجل غير مسمى، هذه الدعوة التي جاءت في سياق التدمير الهائل الذي شهدته غزة بسبب الحرب الإسرائيلية، قد تبدو وكأنها طوق نجاة إنساني، لكنها في حقيقتها تعكس نهجًا أمريكيًا وإسرائيليًا طويل الأمد يسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية بطرق غير مباشرة، فأي محاولة لتبرير موقف ترامب على أسس إنسانية تفتقر إلى المنطق السليم، إذ إن المساعدات الإنسانية لا تكون بإفراغ غزة من سكانها، بل بوقف العدوان الإسرائيلي المستمر وضمان حقوق الفلسطينيين في أراضيهم، كما أن خطة ترامب يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال التطهير العرقي، مع استخلاص بعض أوجه التشابه مع النكبة وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين عام 1948 وفي عام 1956 ثم في عام 1967، الطرح الجديد للخطة ليس إلا إعادة إنتاج لمشاريع التهجير القسري التي فشلت إسرائيل في فرضها بالقوة العسكرية، لكنها هذه المرة تُطرَح تحت مظلة الحلول المؤقتة.

 

لقد أثبتت النكبات أن الفلسطينيين لم يفقدوا إرادتهم في البقاء والصمود، فأي محاولة لفرض الهجرة عليهم لن تؤدي إلا إلى مزيد من المقاومة والتشبث بالأرض، كما حدث في العقود الماضية

منذ عقود؛ لم تكن سياسات التهجير القسري غائبة عن المخططات الإسرائيلية، لكنها كانت دائمًا تواجه عقبات دولية وسياسية تحول دون تنفيذها علنًا، ما يفعله ترامب اليوم هو إعادة تأهيل هذه الفكرة تحت عنوان الحل الإنساني، في محاولة للالتفاف على القوانين الدولية وإيجاد غطاء سياسي لعملية تطهير عرقي جديدة، ولا شك أن تبني ترامب لفكرة التهجير الجماعي يعكس انحيازًا واضحًا نحو الرواية الإسرائيلية، التي ترى في أي وجود فلسطيني داخل الأراضي المحتلة عقبة أمام تحقيق "إسرائيل الكبرى"، وبمجرد أن تصبح غزة غير صالحة للعيش، كما هو الحال اليوم بعد القصف الإسرائيلي المستمر، فإن فرضية الهجرة الطوعية ستصبح أمرًا واقعًا، مما يسهل تنفيذ خطة التطهير العرقي، الأسئلة التي تفرض نفسها هنا: لماذا ظهر هذا الطرح فجأة بعد وقف إطلاق النار؟، هل هو جزء من مخطط إسرائيلي تدريجي يتم الكشف عنه على مراحل؟، وهل يمكن اعتباره خطوة تمهيدية لمخططات أوسع تشمل الضفة الغربية؟، وما الضمانات بأن هؤلاء الفلسطينيين سيعودون إلى ديارهم أصلًا في ظل تاريخ طويل من التنصل الأمريكي والإسرائيلي من الالتزامات الدولية؟
 

خطة ترامب:

لم تكن رؤية ترامب لمستقبل غزة مجرد ارتجال سياسي أو وعود انتخابية عابرة، بل جاءت كجزء من رؤية أوسع تحاول إعادة تشكيل موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط بما يخدم المصالح الإسرائيلية بالدرجة الأولى، فالرئيس الأمريكي الذي أعلن عن استعداده لإنهاء الحرب في أوكرانيا عبر مفاوضات مباشرة مع بوتين، لم يظهر اهتمامًا مماثلًا بشأن غزة، وعلى الرغم من دوره في هندسة اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير، إلا أن موقفه ظل متذبذبًا بشأن إيجاد حل نهائي، والأدهى أن إدارته قدمت تنازلات لإسرائيل لضمان استمرار العمليات العسكرية وفق ما يخدم خطتها طويلة الأمد، هذه المقاربة تكشف عن جوهر الموقف الأمريكي تجاه الصراع، حيث يُنظر إلى وقف إطلاق النار لا بوصفه خطوة نحو الحل، بل كمرحلة مؤقتة تُستغل لفرض شروط جديدة على الأرض، وإعادة توجيه دفة الأحداث بما ينسجم مع رؤية ترامب وحلفائه اليمينيين في إسرائيل.

في هذا السياق، بدا أن ترامب يسعى إلى الترويج لمقترح قديم متجدد: تهجير سكان غزة وإعادة توطينهم في مصر والأردن، مع إعادة إعمار القطاع وتحويله إلى وجهة سياحية وتجارية، ومن اللافت أن صهر ترامب ومبعوثه الخاص السابق إلى الشرق الأوسط، جاريد كوشنر، كان قد اقترح خطة مماثلة قبل حوالي عام، وتسربت حينها إلى وسائل الإعلام، تفيد بأن شركة العقارات التي يملكها كوشنر في نيويورك كانت تستعد لرسم خطط تقسيم المناطق والإسكان الجديدة في غزة وتسويقها، خاصة للمليونيرات اليهود الذين يعيشون في الولايات المتحدة، مؤخرًا عندما سأل الصحفيون ترامب عن رؤيته لحل الأزمة، تعامل مع القضية باعتبارها صفقة عقارية، مشيرًا إلى إمكانية نقل سكان غزة إلى أماكن أخرى، واصفًا القطاع بأنه موقع رائع يمكن أن يتحول إلى مركز اقتصادي بعد إعادة بنائه، هذا الطرح لم يكن جديدًا، فقد تم الترويج له عبر تقارير إعلامية إسرائيلية وأمريكية، تتحدث عن مشاريع لإعادة إعمار غزة بتمويل خليجي، وتحويلها إلى "سنغافورة المنطقة"، لكن جوهر الفكرة لا يتعلق بإعمار غزة بقدر ما يهدف إلى محو هويتها الفلسطينية وإفراغها من سكانها الأصليين، المشكلة الحقيقية ليست في إعادة الإعمار، بل في الهدف الأساسي الذي يقف خلفه: فرض واقع ديمغرافي جديد يخدم إسرائيل، ويجعل من غزة كيانًا بلا هوية وطنية واضحة، مجرد مساحة جغرافية يمكن استثمارها اقتصاديًا دون أي تهديد أمني أو سياسي.

حل أم تصفية؟

التاريخ يشهد بأن هذه السياسات ليست جديدة، فقد شهدنا عمليات تهجير مشابهة في البوسنة وكوسوفو، حيث استُخدم التطهير العرقي كوسيلة لحسم الصراعات الديموغرافية، واليوم، يبدو أن غزة تواجه المصير ذاته، حيث يُدفع الفلسطينيون قسرًا إلى هجر أوطانهم بحجة البحث عن الأمان، فمنذ عام 1948 لم يكن التهجير القسري للفلسطينيين مجرد نتيجة عرضية للحروب، بل سياسة ممنهجة استهدفت تفريغ الأرض الفلسطينية وإعادة تشكيلها ديمغرافيًا بما يخدم المشروع الصهيوني:

* خلال نكبة 1948، أُجبر أكثر من 750 ألف فلسطيني على مغادرة ديارهم تحت وطأة المجازر والتهديد، في واحدة من أكبر عمليات التهجير القسري في القرن العشرين، حيث دُمّرت أكثر من 530 قرية فلسطينية بشكل كامل، وسُويت بالأرض لإزالة أي أثر للوجود الفلسطيني.

 

بموجب القانون الدولي فإن التهجير القسري للسكان يشكل جريمة حرب، بالرغم من ذلك يظل التخاذل على الصعيد الدولي مستمرًا، فرغم الإدانات الشكلية، لم يتحرك المجتمع الدولي بجدية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية أو التصدي للمخططات الصهيونية

* لم يكن ذلك نهاية القصة، فقد تكررت المشاهد نفسها في نكسة 1967، عندما هجّرت إسرائيل حوالي 300 ألف فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة، وأُجبر معظمهم على اللجوء إلى الأردن.

* هذه السياسة لم تتوقف عند الحروب، بل استمرت بأشكال مختلفة عبر الحصار، وهدم المنازل، وسحب الهويات، والتضييق الاقتصادي، في محاولة مستمرة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة الطوعية تحت ضغط الظروف القاسية.        
* اليوم، يبدو أن غزة تواجه فصلًا جديدًا من هذا التاريخ الطويل، لكن هذه المرة تحت غطاء الحلول السياسية التي تروج لها واشنطن، بدعوى البحث عن مخرج للأزمة الإنسانية.

الرؤية الأمريكية ـ الإسرائيلية لا تتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم أصحاب حق، بل كمشكلة سكانية يجب إعادة توزيعها، وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، في 31 ديسمبر 2023، دعا صراحة سكان غزة إلى مغادرة القطاع، بينما اعتبر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير أن الحرب تمثل فرصة ذهبية لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، وحتى عندما نفت الحكومة الإسرائيلية رسميًا وجود خطة للتهجير، فإن الوقائع على الأرض تناقض هذه التصريحات. فالتصعيد المستمر، وعمليات التدمير واسعة النطاق، والحصار المطبق على المساعدات الإنسانية، كلها أدوات تهدف إلى دفع الفلسطينيين نحو خيار وحيد: وهو الرحيل وتصفية قضيتهم.

صمود في وجه التهجير:

لقد أثبتت النكبات أن الفلسطينيين لم يفقدوا إرادتهم في البقاء والصمود، فأي محاولة لفرض الهجرة عليهم لن تؤدي إلا إلى مزيد من المقاومة والتشبث بالأرض، كما حدث في العقود الماضية، لكن ماذا تعني الخطة الترامبية الأخيرة بالنسبة للأطراف الفاعلة في القضية الفلسطينية؟

بالنسبة للفلسطينيين:

هناك القليل من الثقة في فكرة النقل المؤقت للسماح بإعادة الإعمار، بالنظر إلى تاريخ النزوح المتكرر منذ نشأة إسرائيل في عام 1948، فبالرغم من 15 شهرًا من الحرب وتدمير 70٪ من البنية التحتية في غزة، واستشهاد أكثر من 47 ألف شخص قبل أن يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في وقت سابق من هذا الشهر، ونزح حوالي 90٪ من السكان من منازلهم، بعضهم عدة مرات، إلا أن سكان غزة يثبتون اليوم أنها عصية على التهجير، فبمجرد وقف إطلاق النار تدفق الناس سيرًا على الأقدام إلى الأحياء المدمرة في شمال القطاع، متحدين محاولات اقتلاعهم.

بالنسبة لمصر والأردن:

من الطبيعي أن ترفض الدول العربية، وعلى رأسها مصر والأردن، هذا المقترح جملة وتفصيلًا، إذ إن تبعاته لن تقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل ستمتد لتشمل الدول المضيفة التي ستجد نفسها أمام كارثة ديموغرافية وسياسية، ناهيك عن التأثيرات الاقتصادية، حيث تعاني مصر والأردن من تحديات مالية متزايدة، وأي زيادة في أعداد اللاجئين من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الضغوط على الموارد والبنية التحتية، ورغم هذا الرفض الرسمي، فإن الضغوط الأمريكية قد تُمارس بطرق مختلفة، سواء عبر الابتزاز الاقتصادي أو التهديدات السياسية، مما يجعل من الضروري وجود موقف عربي موحد قادر على مواجهة هذه المخططات بحزم.

بالنسبة للمجتمع الدولي:

بموجب القانون الدولي فإن التهجير القسري للسكان يشكل جريمة حرب، بالرغم من ذلك يظل التخاذل على الصعيد الدولي مستمرًا، فرغم الإدانات الشكلية، لم يتحرك المجتمع الدولي بجدية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية أو التصدي للمخططات الصهيونية، لقد تحولت قضية غزة إلى اختبار لمصداقية المجتمع الدولي، وإذا ما استمر هذا الصمت، فإننا أمام شرعنة جديدة لجرائم التهجير القسري تحت غطاء الحلول المؤقتة أو الإنسانية.

في النهاية، تبقى القضية الفلسطينية رهن إرادة الفلسطينيين وقدرتهم على الصمود أمام هذا المشروع الشيطاني، من خلال تجارب التاريخ علمنا أن الحقوق لا تضيع إلا حين يتخلى أصحابها عنها، والفلسطينيون قد أثبتوا مرارًا أنهم ليسوا شعبًا يقبل التنازل عن حقوقه، وبالتالي فإن الرهان اليوم ليس فقط على رفض الطرح الأمريكي، بل على قدرة الفلسطينيين على الصمود في وجهه، وعلى وعي الشعوب العربية والإسلامية بخطورة الترويج لمثل هذه الحلول، لا سيما في ظل هذه اللحظة الحرجة في تاريخ فلسطين.

_______________________________________________________

الكاتب: أحمد مصطفى الغر

  • 1
  • 0
  • 231

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً