كيف تستثمر شهر رمضان

منذ 6 ساعات

"فمَن حُرِم برَكَةَ رمضانَ ولم يَبْرأْ مِن عُيوبِ نفسِهِ، فأَيُّ زمَانٍ آخرَ سيستظِلُ ببركتهِ، وإنَّ مِن الْخُسْرانِ الْمُبينِ: أن تُضَيِّعَ وقتَ رمضان النفيسَ فيما لا يَنفَعُكَ في الباطلِ في اللَّغْوِ في القيلِ والقالِ.."

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم

.

أمَّا بعدُ: فاتقوا الله عبادَ اللهِ حَقَّ التقوى، وتذكَّرُوا أن أنفسَ ما صَرَفتُم فيهِ أوقاتَكُم هو عُبادَةُ اللهِ، والسَّعْيُّ لفِكاكِ الرِّقابِ مِن النارِ، وإنَّ أَفْضَلَ الأزمنةِ للجِّدِّ في الطاعاتِ هو رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كانتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رمَضَانَ: صُفِّدَتِ الشَّياطينُ ومَرَدَةُ الْجِنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ فلَمْ يُفْتَحْ منها بَابٌ، وفُتِحَتْ أبوابُ الجنَّةِ فلَمْ يُغْلَقْ منها بابٌ، ونادى مُنَادٍ: يا ‌باغيَ ‌الخَيْرِ ‌أقْبلْ، ويا باغيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وذلكَ في كُلِّ لَيْلَةٍ»  (رواه ابنُ ماجه وصحَّحه الألباني)، لذا كان لزاماً أن نتواصى على تحصيل الغايةِ مِن مَرضاةِ اللهِ في رمضان، وهو مِن التواصي بالحقِّ الْمَأْمُورِ بهِ، قال جلَّ وعلا: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: 1-3]، إذن: كيفَ تستثمِرُ شهرَ رمضان؟

 

تستثمِرُهُ عبرَ القواعدِ التاليةِ:

 

القاعدةُ الأولى: على مَرِّ الأيامِ والليالي يَخْلَقُ إيمانُكَ في قلبِكَ، أي: يكاد أنْ يَبْلَى، (قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «إنَّ الإِيمَانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، ‌فَسَلُوا ‌اللهَ ‌أنْ ‌يُجَدِّدَ ‌الإِيمَانَ ‌في ‌قُلُوبِكُمْ» (رواه الطبراني في الكبير ووثق رجاله الحاكم والذهبي)، فتحتاجُ إلى تجديدِ إيمانٍ تستثمرُ به رمضان، وهذا لا يأتي إلا بمعونةٍ مِن الله ثمَّ إرادةٍ منك، وعلى قَدْرِ الإرادةِ تأتي المعونة، قال الله عزَّ وجلَّ: «إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ ‌شِبْرًا ‌تَقَرَّبْتُ ‌إِلَيْهِ ‌ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»  (رواه البخاري)، فالبِداءةُ مِنكَ ثمَّ الإجابةُ مِن ربِّ العالين، قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، فلا بُدَّ مِن إثارةِ كوامنِ شَوْقِكَ إلى اللهِ حتى تلينَ لكَ الطاعاتُ فتؤدِّيها ذائقاً حلاوَتَها ولذَّتها، بانياً ذلكَ على مَعْنى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، وكان مِن دُعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صلاتِه: «وأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، ‌والشَّوْقَ ‌إلَى ‌لِقَائكَ»  (رواه النسائيُّ وصحَّحه الألباني)، قال ابنُ القيِّم: (فهذا فيه إثباتُ لذَّة النظر إلى وجهه الكريم، وشوقَ أحبابهِ إليهِ وإلى لِقائه) انتهى، فتحتاج يا عبدَ اللهِ إلى بعثِ هذا الشوق مِن جديد لو كان ميِّتاً، أو استثارتُه إنْ كان موجوداً، ومِن عوامل بعثِ شَوْقِكَ إلى اللهِ: 

(1) مطالعَتُكَ أسماءَ اللهِ الْحُسنى وصفاتهِ العُلَى، وتدَبُّرَ كلامَهُ وفَهْمَ خِطابه. 
(2) مطالعةُ مِنَنِ اللهِ العظيمةِ عليكَ، وكلما ازددتَ عِلْمَاً بنعمِ الله عليكَ كُلَّما ازددتَ شوقاً لشُكرِه على نَعْمائهِ، 
(3) تَحَسُّركَ على فَوْتِ الرَّمَضَاناتِ السابقةِ في غيرِ مَزيدِ طاعةٍ، قِلَّةُ خَتَمَاتِكَ للقرآنِ، لم تعتكف، لم تعتمر، لم تُفطِّر صائمين، لم تُحافظ على التراويح والتهجُّد، لم تهجر أو تُقلِّل مُشاهدة وسائل التواصُل، هذا إذا سَلِمتَ في الرَّمَضَاناتِ الماضيةِ مِن المعاصي. 
(4) تذكُّرُكَ لِسَبْقِ السابقينَ في الرَّمَضَاناتِ الماضيةِ مع تَخلُّفِكَ معَ القاعدينَ، فهذا يُورثُكَ تَحرُّقاً لِمُسابقتهم في رمضان هذا العامِ والمسارعةِ والمنافسةِ، وكلُّ ذلكَ أَمَرَ اللهُ به، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

 

القاعدةُ الثانية: ‌‌أنْ تعرِفَ فضلَ المواسمِ، ومِنَّةُ الله فيها، وفُرْصَتُكَ منها، فاللهُ سبحانه وتعالى جَعَلَ لبعضِ الشهورِ فضلاً على بعض، كما قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، وقال عَزَّ ذِكْرُه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وقال تعالى وتقدَّس: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، كما جَعَلَ بعضَ الأيامِ والليالي أفضلَ مِن بعض، وجعلَ ليلةَ القَدْرِ خيراً مِن ألفِ شهرٍ، وأقْسَمَ بعشرِ ذي الْحِجَّة، قال ابنُ رجبٍ: (وما مِن هذهِ المواسمِ الفاضلةِ مَوْسِمٌ إلا وللهِ تَعالى فيهِ وظيفةٌ مِن وظائفِ طاعاتِهِ يُتَقَرَّبُ بها إليه، وللهِ فيهِ ‌لطيفةٌ ‌مِن ‌لطائفِ نفَحَاتِهِ يُصيبُ بها مَن يَعودُ بفضلِهِ ورحمتِهِ عليه، فالسَّعيدُ مَنِ اغْتَنَمَ مواسمَ الشُّهورِ والأيَّامِ والسَّاعاتِ)  (انتهى). 

(قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «افْعَلُوا ‌الْخَيْرَ ‌دَهْرَكُمْ، وتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فإنَّ للهِ عزَّ وجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وسَلُوا اللهَ عزَّ وجَلَّ أنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ»)  (رواه الطبرانيُّ في الدُّعاء وحسَّنه الألباني)، قال ابنُ القيم في ذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان: (‌ «وكان ‌يَخصُّ رمضانَ من العبادةِ بما لا يَخصُّ به غيرَهُ مِن الشُّهورِ، حتَّى إنَّه كان ليُواصلُ فيهِ أحياناً ليُوفِّرَ ساعاتِ ليلهِ ونهارهِ على العبادةِ»  (انتهى)، ومِن المناسبِ أن تتدارسَ كُلَّ ليلةٍ وأهلكَ فضائل وأحكام رمضان.

 

القاعدةُ الثالثة: أنْ تُمرِّن نفْسَكَ على العبادةِ وتَعْزِمَها عليها، وتُقوِّيها على المجاهدةِ في الأزمنةِ الفاضلةِ، ولذلكَ شَرَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإكثارَ مِن الصيامِ في شهرِ شعبانَ، قالت عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: (فإنهُ كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ) رواه البخاري، و(كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ ‌افْتَتَحَ ‌صَلاتَهُ ‌بِرَكْعَتَيْنِ ‌خَفِيفَتَيْنِ)  (رواه مسلم)، وأشار الشاطبيُّ في كتابهِ الموافقاتِ إلى أن السُّننَ والنوافِلَ بمثابةِ التوطئةِ وإعداد النفسِ للدُّخولِ في الفريضةِ على الوَجْهِ الأكملِ، والبعضُ مِن الناسِ يَعِدُ نفْسَهُ بفعلِ جُمْلةٍ مِن الطاعاتِ في شهرِ رمضانَ، فإذا ما أتى الشهرُ أَصْبحَ كسلان، وذلك لأنه لم يَحِلَّ عُقدةَ العادةِ والكَسَلِ والقُعودِ، وليخشَ قولَ اللهِ: {فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وتمارينُ العزيمةِ على العبادةِ مِن صميمِ القيامِ بِحقِّ رمضان، لأنه لا قُوَّةَ للنفسِ على العِبادةِ ما لم تُعِدَّ العُدَّةَ للطاعةِ، قال جلَّ ثناؤُه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]، وقال الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز: (واعلم أن أفضلَ الأعمالِ ما ‌أُكرهتِ ‌النفوسُ عليهِ) انتهى، ومِصْداقُ ذلكَ قولُه صلى الله عليه وسلَّم: «حُجِبَتِ ‌الْجَنَّةُ ‌بِالْمَكَارِهِ»  (رواه البخاري)، وعند مسلم: «حُفَّتِ ‌الْجَنَّةُ ‌بِالْمَكَارِهِ».

‌‌

القاعدةُ الرابعة: أنْ تَنبُذَ البَطَالةَ والبطَّالينَ وأنْ تُصاحِبَ ذَوِي الْهِمَمِ، وليسَ هُناكَ أشأَمُ عليكَ في سَيْرِكَ إلى اللهِ مِن البَطَالةِ وصُحبةِ البطَّالينَ، ولَمَّا أرادَ قاتلَ المائةِ أنْ يتوبَ، قال له الرَّجُلُ العَالِمُ: (ومَن يَحُولُ بينَهُ وبينَ التوبةِ، انْطَلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا فإنَّ بها أُناساً يَعْبُدُونَ اللهَ فاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أَرْضِكَ فإنها ‌أَرْضُ ‌سَوْءٍ)  (رواه مُسلمٌ)، فلا بُدَّ إذا أردتَ تحصيلَ المغفرةِ مِن رمضانَ أنْ تُزامِلَ ذَوِي الْهِمَمِ العاليةِ في العباداتِ، وقد أَمَرَ اللهُ خَيْرَ الخلقِ صلى الله عليه وسلم بصُحْبةِ الْمُجدِّين في سَيْرهِم إلى اللهِ فقالَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]، فلو صَحِبْتَ مَن يَظُنُّون أنَّ صلاتَهُم للتراويحِ إنجازٌ باهرٌ، فأنتَ مَغْبُونٌ، وسَتَظَلُّ راضياً عَن نفسِكَ، ولكِنَّكَ لو صَحِبْتَ مَن يَقِفُون الساعاتِ الطِّوالِ في قيامِهِم الليل، فأَقَلُّ أحوالِكَ أنْ تَظَلَّ كسيراً حَسيراً على تقصيرِكَ، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (أنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فقالتْ عائشةُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رسولَ اللهِ وقَدْ غَفَرَ اللهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذنبكَ وما تَأَخَّرَ؟ قالَ: «أَفَلا أُحِبُّ أَنْ ‌أَكُونَ ‌عَبْداً ‌شَكُوراً»  (رواه البخاري ومسلم)، وعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: (كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ الناسِ بالْخَيْرِ، وأَجْوَدُ ما يَكُونُ في شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لأَنَّ جِبْرِيلَ كانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ في شَهْرِ رمَضَانَ حتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عليهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم القُرآنَ، فإذا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كانَ ‌أَجْوَدَ ‌بالخَيْرِ ‌مِنَ ‌الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ»)  (رواه البخاري ومسلم)، فابحثْ عَن أصحابِ الاجتهادِ في رمضانَ، الذين يَتحاثُّون على استدراكِ الثوانيِ والدَّقائقِ وهَجْرِ ما لا يَعْنيهِم، يُحاسِبُون أنفسَهُم على المواسمِ الْمُفضَّلات، فهُم بُغْيَةُ كُلِّ مُخْلِصٍ، فعن محمد القُرَشيّ: (كانَ عليُّ بنُ حُسَيْنٍ يَجْلِسُ إلى زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، ويَتَخَطَّى مَجَالِسَ قَوْمِهِ، فقالَ لهُ نافِعُ بنُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ: ‌تَخَطَّى ‌مَجَالِسَ ‌قَوْمِكَ ‌إلى عبْدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ! فقالَ: إنَّمَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ إلى مَنْ يَنْفَعُهُ في دِينِهِ)  (رواه البخاريُّ في التاريخ الكبير)، (وكانَ أبو حَازِمٍ يَقولُ: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَنْظُرُ إلى زَيْدٍ، وأَذْكُرُ بالنَّظَرِ إليهِ القُوَّةَ على عِبَادَتِكَ، فكيفَ بِمُلاقاتِهِ ومُحادَثتِهِ)  (رواه يعقوبُ بن سفيان في المعرفة والتاريخ) .

 

القاعدةُ الخامسة: أنْ تُعِدَّ بياناً لعيُوبكَ وذُنوبِكَ التي لم تستطعْ إزالتَهَا في غيرِ رمضان لتُزيلها مِن سويداءِ قلبكَ في رمضان، وأنْ تُعِدَّ قائمةً بالطاعات التي ستعمَلُها في رمضانَ لتُحاسِبَ نفْسَكَ عن أدائها بعدَ رمضان، قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: (إنَّ ‌الْمُؤْمِنَ ‌يَرَى ‌ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا)  (رواه البخاري)، ووَجْهُ كونِ شهرِ رمضانَ فُرْصةً سانحةً لعلاج الآفاتِ والمعاصي والعاداتِ، أنه شهرُ حِميةٍ عن الْمُفطِّراتِ في النهار، وحِمْيةٍ عن كثرةِ الأطعمةِ بالليل، وحِميةٍ عن الْمُحرَّمات، كما أنَّ الشياطينَ فيه تُصفَّدُ وهُم أصلُ كُلِّ بلاءٍ، أضفْ إلى ذلكَ: جَمَاعيَّة الطاعة، حيث لا تُبصرُ في الغالبِ إلاَّ أُمَّةً تصومُ وتتسابَقُ إلى الخيراتِ، فتضْعُفَ الْهِمَّةُ في المعصيةِ وتقوى في الطاعةِ، فهذه عناصرٌ ثلاثةٌ تتضافرُ معَ عزيمةِ النفسِ الصادقةِ للإصلاح، فيتولَّدُ جَوٌّ رَمَضَانيٌّ لاستئصالِ أيِّ داءٍ، وقبلَ كُلِّ ذلكَ وبعْدَهُ لا ننسى دِيوانَ العُتَقَاءِ والتائبينَ والمقبولينَ الذي يَفْتَحُه ربُّ العالمين الرَّحمنُ الرحيمُ في الشهرِ الكريم، وبنظرةٍ عابرةٍ إلى جُمهورِ المستقيمينَ تَجِدُ بداياتهم كانت بعَبَرَاتٍ في ليلةٍ مِن ليالي رمضان، وما لم تتَحَفَّزْ هِمَّتُكَ لعلاج آفاتِكَ مِن قطيعةِ رَحِمٍ أو ظُلْمٍ أو بَغْيٍّ أو نَظَرٍ أو سَمَاعٍ أو أكلٍ للحَرَامِ في رمضان، فقد لا تبقى فرصةٌ أمامَكَ للمُعالَجَةِ، فمَن حُرِم برَكَةَ رمضانَ ولم يَبْرأْ مِن عُيوبِ نفسِهِ، فأَيُّ زمَانٍ آخرَ سيستظِلُ ببركتهِ، وإنَّ مِن الْخُسْرانِ الْمُبينِ: أن تُضَيِّعَ وقتَ رمضان النفيسَ فيما لا يَنفَعُكَ في الباطلِ في اللَّغْوِ في القيلِ والقالِ، ومُشاهدةِ وسائلِ التواصُلِ ووسائلِ الإعلامِ، فاتقِ الله واحْفَظْ وقْتَكَ واغتَنِمْ فُرْصَةَ زَمَانِكَ، وحَدِّث نفسَكَ دائماً: لعلَّ رَمَضَانَ هذا العامِ هو آخرُ رَمَضَانٍ في حياتِي، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «ورَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دخَلَ عليهِ رمضانُ ثُمَّ انسَلَخَ قبلَ أنْ يُغفَرَ لهُ» (رواه الترمذيُّ وصحَّحَه العزيزي)، وقال جِبرِيلُ عليهِ السلامُ: «يا محمدُ مَنْ أدرَكَ شهرَ رمضانَ فماتَ فلم يُغْفَرْ لهُ فأُدخِلَ النارَ فأبعَدَهُ اللهُ، قُل: آمينَ، فقُلتُ: آمينَ»  (رواه الطبراني وصحَّحه الألباني) .

 

‌‌القاعدة السادسة: ‌‌مَطَالَعَةُ أحكامِ الصَّوْمِ وما يَتَعلَّقُ بشهرِ رمضان، وهذا مِن آكدِ الواجباتِ، فمِفتاحُ السعادةِ ومَنشورِ الوِلايةِ مرهونٌ بالعِلْم الصحيحِ النافعِ الْمُمهِّد للعَمَلِ الصالِحِ، وليسَ ثَمَّةَ عَمَلٍ صالِحٍ بدونِ عِلْمٍ نافعٍ.

 

عبدَ اللهِ: إنْ إِدراكَ رَمَضانَ مِن أعظَمِ النِّعَمِ، فـ(عن طلحةَ بنِ عُبيدِ اللهِ: أنَّ رجُلَيْنِ قَدِما على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكانَ إسلامُهُما جميعاً، وكانَ أحَدُهُما أَشَدَّ اجتهاداً مِن صاحِبِهِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنهُما فاسْتُشْهِدَ، ثمَّ مَكَثَ الآخَرُ بعْدَهُ سَنَةً ثمَّ تُوُفِّيَ، قالَ طلحةُ: فرَأَيْتُ فيما يَرَى النائمُ كأَنِّي عندَ بابِ الْجنَّةِ، إذا أَنا بهِما وقدْ خَرَجَ خارِجٌ مِنَ الْجنَّةِ فأَذِنَ للذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنهُما، ثمَّ خَرَجَ فأَذِنَ للذي اسْتُشْهِدَ، ثمَّ رَجَعَا إلَيَّ فقالا لي: ارْجِعْ فإنهُ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فأَصْبَحَ طلحةُ يُحَدِّثُ بهِ الناسَ فعَجِبُوا لذلكَ، فبَلَغَ ذلكَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «مِنْ أَيِّ ذلكَ تَعْجَبُونَ»؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ هذا كانَ أَشَدَّ اجْتِهَاداً ثمَّ اسْتُشْهِدَ في سبيلِ اللهِ ودَخَلَ هذا الْجنَّةَ قَبْلَهُ! فقالَ: ‌ «أَلَيْسَ ‌قدْ ‌مَكَثَ ‌هذا ‌بَعْدَهُ ‌سَنَةً»؟ قالوا: بَلَى، قال: «وأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ»؟ قالُوا: بَلَى، قالَ: «وصَلَّى كَذا وكَذا سَجْدَةً في السَّنةِ»؟ قالُوا بَلَى، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَلَمَا بيْنَهُمَا أَبْعَدُ ما بينَ السَّمَاءِ والأَرْضِ»  (رواه الإمام أحمد وصحَّحه أحمد شاكر)، ورواه ابنُ حبَّان في صحيحه وبوَّب عليهِ: (‌‌ذِكْرُ البَيَانِ بأَنَّ مَن طالَ عُمْرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ قدْ يَفُوقُ الشهيدَ في سبيلِ اللهِ تباركَ وتعالى).

 

أَطالَ اللهُ أعمارَنا، وأحْسَنَ أَعمالَنا وآجالَنا، وبلَّغَنا رمضانَ في عافيةٍ، ورَزَقَنا صيامَهُ وقيامَهُ إيماناً واحتساباً، آمين.

____________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري

  • 0
  • 0
  • 53

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً