نسائم رمضان تلوح بالأفق
"إن الله جعل شهرَ رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعتِه إلى مرضاتِه، فسبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعَجَب مِنَ اللاعب الضاحك في اليومِ الذي يفوز فيه المحسِنون ويخسَر فيه المبطِلون".
أيها المسلمون، إن المتطلع في واقع كثير من الناس، وسط أجواء المتغيرات المتكاثرة، والركام الهائل من المصائب والبلايا، والنوازل والرزايا، ليلحظ بوضوح أن كثيرًا من النفوس المسلمة توَّاقة إلى تحصيل ما يُثبِّت قلوبها، وإلى النهل مما تطفئ به ظمأها، وتسقي به زرعها، وتجلو به صدأها، فهي أحوج ما تكون إلى احتضان ضيف كريم، يحمل في جنباته نسائم الخيرات وعبير النفحات، فهي مشرئبَّة لحلوله، يقطِّعها التلهُّف إلى أن تطرح همومها وكدَّها وكدحها عند أول عتبة من أعتابه، بعد أن أنهكت قواها حلقات أحداث مترادفة، بعضها يموج في بعض، حتى غلت مراجلها، واشتدَّ لهب أتونها، فما برحت تأكل الأخضر واليابس، تفجع القلوب، وتعكِّر الصفو، وتصطفق وسط زوابعها العقول والأفهام؛ فلأجل هذا كله كان الناس بعامة أحوج ما يكونون إلى حلول شهر الصيام والقيام، شهر الراحة النفسية والسعود الروحي، شهر الركوع والسجود، شهر ضياء المساجد، شهر الذكر والمحامد، شهر الطُّمَأْنينة ومحاسبة النفس، وإيقاظ الضمير، والتخلص من النزعات الذاتية، والملذات الآنية، في شهوات البطون والفروج، والعقول والأفئدة، والتي شرع الصيام لأجل تضييق مجاريها في النفوس، وكونه فرصة كل تائب، وعبرة كل آيب.
الصيام في القرآن والسنة:
أيها المسلمون، لقد جاء ذكر رمضان والصيام في القرآن الكريم وأحاديث نبوية، ففي القرآن يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأن فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة، وفيه تنشيط لهذه الأمة، وأنه ينبغي لنا أن ننافس غيرنا من الأمم في تكميل الأعمال، وأن نتنافس فيما بيننا في المسارعة إلى صالح الخصال.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، فهذه الحكمة العظمى من مشروعية الصيام، فالصيام يا عباد الله من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
ولما ذَكرالله سبحانه أنه فَرض علينا الصيام أخبر أن أيامَ شهر الصيام أيام معدودات، فهي قليلة وتمر سريعًا، فالواجب اليقظة باغتنامها بما يقرب إلى الله، ثم سهَّل تسهيلًا آخر، فقال: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]، ثم ذكر التسهيل والتيسير على الأمة فقال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]؛ وذلك للمشقة في الغالب على المريض والمسافر، فرخص الله لهما، في الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن أمرهما أن يقضياه في أيامٍ أُخَر إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة.
وقال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]؛ أي: في هذا الشهر المبارك قد حصل لنا من الله الفضل العظيم بإنزال القرآن الكريم، المشتمل على الهداية لمصالح الدين والدنيا، والذي فيه بيانٌ للحق أوضح بيان، وفيه الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهلِ السعادة، وأهلِ الشقاوة.
ولما قرر الله سبحانه هذا الشهر، وبيَّن فضيلته وحكمته تعالى في تخصيصه؛ أمر بصيامه أمرَ وجوب، فقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وهذا فيه تأكيد وجوب صيام رمضان على القادر الصحيح الحاضر.
ومن أعظم ما فيه من الليالي ليلة القدر أُنزل فيها القرآن، وتتنزل فيها ملائكة الرحمن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5].
وفي السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابنِ آدم له إلَّا الصَّوم، فإنه لي وأنا أجزِي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقُل: إني امرُؤ صائم. والذي نفس محمد بيده، لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله يومَ القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه»؛ (رواه البخاري ومسلم) ، وفي رواية: عندما: «يدع طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي»، وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنِبت الكبائر»، وفيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين، ففي الصحيحَين: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضانُ فتِّحَت أبواب الجنة، وغلِّقَت أبواب النار، وصفِّدَت الشياطين».
رمضان العطية الربانية:
أيها المسلمون، إننا بعد أيام قليلة سنستقبل إن شاء الله شهرًا عظيمًا، وضيفًا كريمًا، ضيفًا تزدان به الدنيا، وتشرق أنوارها، وتهب رياح الإيمان، وتنساب بين أرجائها، شهرًا كان يبشر بمقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ»؛ (رواه أحمد والنسائي بسند صحيح) ، وما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لأنه عطية عظمى ونعمة كبرى.
ومن عطايا الله في الصيام أن الصيام جنة من النار، كما روى أحمد عن جابر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الصيام جُنَّة يستجِنُّ بها العبدُ من النار»، والصوم جنة من الشهوات، فقد جاء من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءةَ فليتزوج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء»؛ (البخاري).
ومن العطايا أن الصيام سبيلٌ إلى الجنة، فقد روى النسائي عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، مُرني بأمرٍ ينفعني الله به، قال: «عليك بالصيام فإنه لا مِثلَ له»؛ (أخرجه النسائي).
وفي الجنة بابٌ لا يدخل منه إلَّا الصائمون، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحد غيرُهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلِقَ فلم يدخل منه أحد»؛ (أخرجه البخاري).
والصيام يشفَع لصاحبه، فقد روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتَه النومَ بالليل فشفِّعني فيه، قال: فيشفَّعَان»، والصومُ كفَّارة ومغفِرة للذنوب، فإن الحسنات تكفِّر السيئاتِ، فقد قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»؛ (البخاري ومسلم) ، والصيام سبب السعادة في الدارين، ففي حديث أبي هريرةَ قال صلى الله عليه وسلم: «للصَّائمِ فرحتانِ: فرحةٌ حينَ يفطرُ، وفرحةٌ حينَ يَلقى ربَّهُ»؛ (أخرجه مسلم).
أيها الأخوة المسلمون، إذا كان في مدرسةِ رمضان هذه العطايا والهبات فحريٌّ بالمسلم أن يبادرَ لينهَلَ من معينِها، ويستَقِيَ من فضائلها، ويجِدَّ ويجتهد؛ ليكون حظُّه في النجاح أوفر، ونصيبُه في الفوزِ بمغفرةِ الذنوب أكبَر، وأهلِيته للعتقِ من النار أوكَد، ولا عذرَ لأحدٍ في التقصير، نسأل الله الهدايةَ والتوفيق والقَبول.
أيها العامل، هذا أوان ازدِيادِك واستِمتاعك، ما ألذَّ المناجاة للهِ عند الأسحار، وما أسرَعَ إجابةَ الدعواتِ فيها عندَ الإفطار، وما أحسَنَ أوقاتها من صيامٍ وقيام وتضرُّع واستغفار، هؤلاء الذين تشقَّقت أشداقُهم جوعًا في الدنيا، وقَلَصت شِفاههم عن الأشربةِ ظمأ، يُقال لهم يومَ القيامة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين.
اجعَل -أخي المسلم- من رمضان محطَّةَ توبَةٍ، وإنابة للقَلب وأوبة، فقد قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، قال الحسن البصري رحمه الله: إن الله جعل شهرَ رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعتِه إلى مرضاتِه، فسبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعَجَب مِنَ اللاعب الضاحك في اليومِ الذي يفوز فيه المحسِنون ويخسَر فيه المبطِلون.
ورمضانُ فرصَة لإحياءِ القلب، وإيقاظِه من غفلتِه ورَقدته، وتغذَيةِ التقوى، والخوفِ من الله، فتقوَى الله عز وجل هو مقصودُ العبادات، رمَضان مناسبةٌ لتقوية الصِّلة بالله، وقطعِ العَلائقِ بالدنيا، وقِيام الليل من الوسائلِ المهمَّة في إحياء القلب، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: يقول صلى الله عليه وسلم: «عليكمْ بقيامِ الليلِ فإنَّه دأبُ الصالحينَ قبلكمْ، وقربةٌ إلى اللهِ تعالى، ومنهاةٌ عنِ الإثمِ، وتكفيرٌ للسيئاتِ، ومطردةٌ للداءِ عنِ الجسدِ»؛ (صحيح الجامع).
ورمضانُ شهر القرآن، وهو وسيلة عظيمة لشفاء القلوب وهدايتِها وتنويرِها، نزَلَ القرآن لنتدبَّره، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقال علي رضي الله عنه: لا خيرَ في قراءةٍ ليس فيها تدبُّر، وقال الحسن: كيف يرِقُّ قلبُك وإنَّما همُّك آخر السورة، لا شيءَ أنفع للقلب من قراءةِ القرآن بالتدبُّر والتفكُّر.
وتلاوةُ القرآن حقَّ تلاوته هو أن يشتركَ فيه اللسان والعقلُ والقلب، فحَظُّ اللسان تصحيحُ الحروف بالترتيل، وحظُّ العقلِ تفسير المعاني، وحظُّ القلب الاتعاظ والتأثُّر، فاللسان يرتِّل، والعقل يترجم، والقلب يتَّعظ.
ولقد كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، المستفيدُ الأول من الصدقة هو صاحبها؛ لأنها تخلِّصه من الشحِّ، وتطهِّره من الذِّنوب، فبدايةُ انطلاقِ النفس وتخلُّصها من جواذِب الأرض هو تطهُّرها منَ الشحِّ المجبولةِ عليه بدوامِ الإنفاق في سبيل الله حتى يصيرَ سجيَّةً من سجاياها، فتزهد في المال، ويخرُج حبُّه من القلب.
وللصدقةِ فضلٌ عظيم في الدنيا والآخرة، فهِيَ تداوي المرضَى وتدفَع البلاء، وتيسِّر الأمورَ، وتجلِب الرزقَ، وتقي مصارِعَ السوء، وتطفِئ غضَبَ الرب، وتزيل أثرَ الذنوب، وهي ظِلٌّ لصاحبها يومَ القيامة، تحجبه عن النار، وتدفَع عنه العذاب.
وللصدَقة علاقةٌ وثيقةٌ بالسير إلى الله، قال تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38]. ولكي تؤدِّي الصدقة ثمارَها المرجوَّة لا بد من تتابعها، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274].
لا تفرط في رمضان وتخسره:
أيها المسلمون، أما من ضيَّع رمضان وأهمله، وقصَّر فيما شرع له فأولئك هم الخاسرون، ولا مرية في خسرانهم وشقاوتهم، فهم الذين يدخل عليهم رمضان وهم في شقاوتهم، فيكون دخول رمضان وخروجه متساويًا عنهم، فيكونون في خسارة عظيمة، ففي حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صَعِد المنبر فقال: (صعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبرَ، فقال: «آمين، آمين، آمين»، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: «أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ورغِم أنفُ امرئٍ ذُكِرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ورغِم أنفُ رجلٍ أدرك والدَيْه أو أحدَهما فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين»؛ «أخرجه البزار والطبراني» ، والحديث حسن، فهؤلاء الخاسرون الذين يدعو عليهم رسول الله، وجبريل عليهما الصلاة والسلام، فيكون شهر رمضان نقمة عليهم، وسببًا لحرمانهم الثواب، ودخولهم النار؛ لأنهم لم يعرفوا قدر الصيام، وقدر النبي صلى الله عليه وسلم، وقدر بِرِّ الوالدين.
والذين يخسرون رمضان لا يصومون إيمانًا واحتسابًا؛ بل يصومون رياءً أو عادة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»؛ (البخاري ومسلم) ، فدل مفهوم المخالفة أن من لم يصمه إيمانًا واحتسابًا لم يغفر له ما تقدم من ذنبه، وإذا لم يغفر للمرء في رمضان فمتى يغفر له؟
والذين يداومون على مساوئ الأخلاق، ولا يردعهم صيامهم عن ارتكاب المحرمات فهولاء خاسرون، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بِهِ، فليسَ للَّهِ حاجةٌ بأن يدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ»؛ (البخاري).
والذين يضيعون أوقات هذا الشهر الشريفة في النوم والغفلة، ومتابعة القنوات، والاستماع إلى الأغاني الماجنة، ومشاهدة ما يغضب رب الأرض والسماوات قد خسروا رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ، وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ»؛ صحيح ابن ماجه.
والذين يضيعون الصلوات، ويهجرون المساجد في الجُمع والجماعات هم أيضًا خسروا رمضان، والله تعالى يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
والذين يفسدون صيامهم عامدين بالمفسدات الحسية؛ كالجِماع، والأكل والشرب، والاستمناء، أو المفسدات المعنوية؛ كالكذب والغيبة، والنميمة والحسد، والسخرية والاستهزاء، والفحش والتبرُّج، وغير ذلك، وكل ذلك بسبب ضعف الإيمان، وعدم المراقبة لله جل وعلا.
وخاسر رمضان أيضًا من يجتهدون في أول الشهر، وينوون التوبة والاستقامة، ثم ما تلبث هممهم أن تفتر، فينقلبون على أعقابهم، ويعودون أدراجهم، ويستأنفون حياة العبث والضياع.
والخاسرون لرمضان الذين يهجرون كتاب ربهم في رمضان فلا يقرؤونه، ولا يتدبرونه، ولا يتدارسونه، والله تعالى يقول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
والذين يبخلون بأموالهم فلا يخرجون زكاة أموالهم، ولا ينفقونها في سبيل الله، فلا يطعمون جائعًا، ولا يفطرون صائمًا، ولا يكسون عاريًا، ولا يشاركون في أي عمل من أعمال البر، قال الله تعالى فيهم: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38].
كيف نستقبل رمضان؟
أيها المسلمون، استقبال رمضان فرصة عظيمة، وغنيمة باردة، فكيف يستقبل؟
1. بالنية الخالصة: من التأهب لرمضان وحسن الاستعداد له: أن تعقد العزم على تعميره بالطاعات، وزيادة الحسنات، وهجر السيئات، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فمَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعلمها كتبها الله له عنده حسنة كاملة...؛ متفق عليه، وقال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»؛ (متفق عليه).
2. التوبة الصادقة: وهي واجبة في كل وقت ومن كل ذنب؛ ولكنها في هذا الحين ألزم وأوجب؛ لأنك مقبل على موسم طاعة، وصاحب المعصية لا يوفق للطاعة، ولا يؤهل للقرب، فإن شؤم الذنوب يورث الحرمان، ويعقب الخذلان، وقد صدق الأول حين قال: حرمت قيام الليل سنة بذنبٍ عملته، وعندما قيل للحسن: لا نستطيع قيام الليل، قال: قيدتك خطاياكم، وقال الفضيل: إذا كنت لا تستطيع قيام الليل، وصيام النهار؛ فاعلم أنك محبوس قد قيدتك ذنوبك.
3. معرفة شرف الزمان: فالوقت هو الحياة، وهو رأس مالك الذي تتاجر فيه مع الله، وتطلب به السعادة، وكل جزء يفوت من هذا الوقت خاليًا من العمل الصالح يفوت على العبد من السعادة بقدره.
قال ابن الجوزي: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف وقيمة وقته، فلا يضيع فيه لحظة في غير قربة.
4. تعويد النفس على:
(أ) الصيام: وقد كان النبي يصوم شعبان كله؛ كان يصوم شعبان إلا قليلًا، وكان هذا ضروريًّا لتعويد النفس على الصيام، حتى إذا جاء رمضان كانت مستعدة بلا كلفة، ولا تعب يمنعه عن العمل، ويحرمه من كثرة التعبد.
(ب) القيام: وهي سنة عظيمة أضعناها، ولذة عجيبة ما تذوقناها، وجنة للمؤمنين في هذه الحياة؛ ولكنا يا للأسف ما دخلناها ولا رأيناها، مدرسة تربَّى فيها النفوس، وتزكَّى فيها القلوب، وتهذب فيها الأخلاق، عمل شاق، وجهاد عظيم لا يستطيعه إلا الأبطال من الرجال، والقانتات من النساء، الصابرين والصادقين... بالأسحار، هو وصية النبي لنا وعمل الصالحين قبلنا: «عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد»؛ (رواه الترمذي).
(ج) كثرة التلاوة: شهر رمضان شهر القرآن، فللقرآن في رمضان مزية خاصة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن مع سيدنا جبريل في رمضان كما في حديث ابن عباس، وذلك كل ليلة.
5- المسابقة والجدية: وهي أصل في العبادة كما في كتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
_________________________________________________
الكاتب: د. عبدالرزاق السيد
- التصنيف: