الإحسان وحال السلف في رمضان
ومن حرص السلف على القران في رمضان: أنّ الإمام أحمد - رحمه الله - كان يغلق الكتب في رمضان ويقول: هذا شهر القرآن، والإمام مالك رحمه الله لا يفتي ولا يدرس في رمضان ويقول: هذا شهر القرآن
إنّ الحمد لله...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله...
أيها الأحبة: لا زال في الوقت متسع ولازلنا في أيام التجارة الرابحة مع الله في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الذي رواه البُخارِيُّ ومسلمٌ وغَيرُهُمَا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» [1] جعلني الله وإياكم من أهل باب الريان.
وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يدركون معاني الصوم فسطروا عبارات مضيئة لمن أراد الاقتداء؛ فكان ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه يقول: «الصِّيَامُ جُنَّةُ الرَّجُلِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ فِي الْبَأْسِ، وَسَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَسَيِّدُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ[2].
وفي الحديث: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه»[3].
يقول الإمام بدر الدين العيني (رحمه الله): من قام رمضان (إيمانا)، أي: تصديقا بأنه حق وطاعة، (واحتسابا)، أي: أراد بصيامه وقيامه وجه الله تعالى لا لرياء ونحوه غفر له ما تقدم من ذنبه [4].
وهنا لفتة: أنّ من فضل الله على عباده تعبير النبي - صلى الله عليه وسلم- عن وقوع الجزاء بالماضي مع أن المغفرة في زمن الاستقبال؛ للإشعار بأن مغفرة الله لمن قام رمضان إيمانا واحتسابا متيقنة الوقوع متحققة الثبوت، فضلا من الله تعالى على عباده[5].
ومن حرص السلف على القران في رمضان: أنّ الإمام أحمد - رحمه الله - كان يغلق الكتب في رمضان ويقول: هذا شهر القرآن، والإمام مالك رحمه الله لا يفتي ولا يدرس في رمضان ويقول: هذا شهر القرآن[6].
وقد ورد أيضا في صفة الصفوة أن البخاري رحمه الله، كان إذا دخلت أول ليلة في رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن. وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل الختم، دعوة مستجابة[7] بل نُقل عن الشافعي- رحمه الله- أنه كان يختم القرآن في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة [8]، وذكر ابن كثير: أن الْبُخَارِيِّ -صَاحِبِ الصَّحِيحِ-: كَانَ يَخْتِمُ فِي اللَّيْلَةِ وَيَوْمِهَا مِنْ رَمَضَانَ خَتْمَةً.[9]
وفي حديثه عن قيام الليل قال ابن الجوزي -رحمه الله-: واعلمْ أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات.. الطبقة الأولى: كانوا يحيون كل الليل، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء، الطبقة الثانية: كانوا يقومون شطر الليل، الطبقة الثالثة: كانوا يقومون ثلث الليل، الطبقة الرابعة: كانوا يقومون سُدس الليل أو خمسه، الطبقة الخامسة: كانوا لا يراعون التقدير، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام، الطبقة السادسة: قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين، الطبقة السابعة: قوم يُحيون ما بين العشاءين ويُعسِّـلون في السحر فيجمعون بين الطرفين. [10]
أيها الأخوة: جعل السلف الصالح رحمهم الله جميعا هدي النبي صلى الله عليه وسلم نصب أعينهم فقد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان إنّ جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة[11].
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد معلقا: أجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف، وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور. [12]
ومن أعمال السلف المضيئة حال الصيام: أن عبد الله بن عمرَ كان لا يفطرُ إلا مع اليتامَى والمساكينِ[13].
ممتثلًا أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فطر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا» [14]
حقًا! من أراد محبة الله فليحسن إلى الخلق في خُلِقه وعبادته وعمله، وأحسن إلى الخلق بالإنفاق، وقضاء الحوائج، وتفريج الكربات،قال تعالى: {... وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [ سورة البقرة:جزء من الآية: 195].
يقول الإمام الفخر الرازي: وفَاعِلُ الْحُسْنِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُحْسِنًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا وَإِحْسَانًا مَعًا،...فأَحْسِنُوا فِي فَرَائِضِ اللَّهِ...، وَأَحْسِنُوا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُكُمْ مُؤْنَتُهُ وَنَفَقَتُهُ[15].
ما أجمل العبد!! حين يجمع بين الصيام والقيام والقرآن والإحسان وتقوى الله.
وكان من شدة إحسانهم للخلق رحمهم الله لا يفطرون في رمضان وحدَهم قال أبو السوارِ العدويُّ (رحمه الله): كانَ رجال من بني عدي يصلُّون في المسجدِ ما أفطرَ أحدٌ منهُم على طعامٍ قط وحدَهُ، إن وجدَ من يأكلُ معه أكلَ، وإلا أخرجَ طعامَهُ إلى المسجدِ فأكلهُ مع الناسِ وأكلَ الناسُ معهُ.[16] وذُكِر أن عبد الله بن أبي بكرة كان ينفق على من حول داره، وعلى أهل أربعين دارا من كل جهة من جهاتها الأربع.[17]
وكانوا حال الصيام على ماهم فيه من صلاح يتواصون بقلة الكلام وتوقي الكذب، فكان أبو ذر رضي الله عنه يقول: «إِذَا صُمْتَ فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْتَ»[18].
وكان جَابِرٌ بن عبد الله رضي الله عنه يقول: «إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً»[19].
وكان من نهجهم تناصحهم بعدم الغيبة فعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ رضي الله عنه أنه قَالَ: «الصَّائِمُ فِي عِبَادَةٍ مَا لَمْ يَغْتَبْ أَحَدًا، وَإِنْ كَانَ نَائِمًا عَلَى فِرَاشِهِ»»[20].
ومن نهج السلف الصالح في رمضان الجلوس في بيوت الله، روى الإمام ابن أبي شيبة (رحمه الله) «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَصْحَابَهُ كَانُوا إِذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ»[21] يعلمون الناس الخير.
أيها الإخوة: تطوى الأيام وتفنى الأعمال ولا يبقى إلا ما قُدِم لله، قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ...} [سورة النحل: جزء من الآية: 96].
فلنغتم هذه الأوقات ولنسأل الله الأجر والثواب فخزائنه ملأى يرجوها السعداء قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [سورة هود: آية: 108].
أما بعد: فاتقوا الله يا من ترجون من الله المفازة يوم الفصل قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [سورة النبأ: آية: 17]،وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [ سورة النبأ:آية: 31].
أيها الأخوة:
لقد أحسن نبينا وأحسن سلفنا الصالح فهنيأ للمحسنين، لهم البشرى من الله عز وجل قال تعالى: {...وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [ سورة الحج: جزء من الآية: 37 ].
ومن أراد الزيادة فعليه بالإحسان قال تعالى: {....وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [ سورة البقرة: جزء من الآية: 58 ].
ومن أراد رحمة الله فعليه بالإحسانقال تعالى: {....إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [ سورة الأعراف: جزء من الآية: 56 ].
أحسنوا عباد الله فأجركم على الله، قال تعالى: {...إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [ سورة التوبة: جزء من الآية: 120 ].
ومن أراد نيل الحكمة وبلوغ العلم عليه بالإحسان {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [ سورة يوسف: جزء من الآية: 22 ].
ومن أراد معية الله فعليه بالإحسان ﱠ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [ سورة العنكبوت: جزء من الآية: 69 ].
ومن أراد المثوبة بالجنة فعليه بالإحسان {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [ سورة المائدة: جزء من الآية: 85 ].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب: آية: 56].
[1] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الصيام- باب فضل الصيام- رقم الحديث (1152) - (2 / 808)، وأخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الصوم- باب: الريان للصائمين - رقم الحديث (1896) - (3 / 25).
[2] مصنف عبد الرزاق الصنعاني- كتاب الصيام- بَابُ فَضْلِ الصِّيَامِ- رقم الأثر (7894) (4 / 307) [الناشر: المكتب الإسلامي – بيروت، ط2].
[3] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – كتاب صلاة التراويح - باب فضل من قام رمضان - رقم الحديث (2009) (3 / 44)، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه- كتاب صلاة المسافرين وقصرها- باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح – رقم الحديث (173)، (1 / 523):
[4] عمدة القاري شرح صحيح البخاري - المؤلف: أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى (المتوفى: 855هـ) - (1 / 226) - الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت- بتصرف يسير
[5] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1 / 227)، بتصرف يسير
[6] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171) بتصرف
[7] صفة الصفوة - المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)- (2/ 436)- المحقق: أحمد بن علي [الناشر: دار الحديث، القاهرة، مصر- ط: 1421هـ/2000م]
[8] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171)
[9] تفسير القرآن العظيم- المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)- (1/ 85) - المحقق: سامي بن محمد سلامة - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع - الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999 م
[10] التبصرة - المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)- (2/ 295: 296)- الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان - الطبعة: الأولى، 1406 هـ - 1986 م، بتصرف
[11] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه- كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ – رقم الحديث (6)(1/ 8)
[12] زاد المعاد في هدي خير العباد - المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)- (2/ 31، 32)- الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت- الطبعة: السابعة والعشرون , 1415هـ /1994م]
[13] تفسير ابن رجب الحنبلي» (2/ 176) [ الناشر: دار العاصمة - المملكة العربية السعودية، ط1]
[14] أخرجه الإمام الترمذي في سننه - باب ما جاء في فضل من فطر صائما- رقم الحديث (807)- (3 / 162)(الناشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ط2)،وصححه الإمام الترمذي بقوله: («هذا حديث حسن صحيح») وصححه الإمام ابن حبان في صحيحه كتاب الصوم - باب فضل الصوم- رقم الحديث (3429) (8 / 216) ( الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت- ط1)
[15] مفاتيح الغيب (5/ 296) – [الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط3]- بتصرف
[16] تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 176)
[17] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار- المؤلف: جار الله الزمخشري -(1/ 392)- [الناشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت - ط: الأولى، 1412 هـ]
[18] أخرجه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه - كتاب الصيام- ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام، وتوقي الكذب- رقم الأثر(8878) - (2 / 271)
[19] أخرجه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه - كتاب الصيام- ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام، وتوقي الكذب رقم (8880)(2 / 271)
[20] أخرجه الإمام عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه- باب فضل الصيام – رقم الأثر (7895)-(4 / 307)
[21] أخرجه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه -كتاب الصيام- ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام، وتوقي الكذب- رقم الأثر(8881) - (2 / 271)
____________________________________________________
الكاتب: د. صغير بن محمد الصغير
- التصنيف: