شهر رمضان وتهذيب النفس

منذ 10 ساعات

ومن أسمى المعاني في الصيام: أنه تهذيب للنفس وليس تعذيبًا لها. النفس تحتاج إلى تهذيب عن طريق قطع مألوفاتها وضبط شهواتها؛ لأن إطلاق عنان الشهوات وعدم كبحها والانخراط والتوسع فيها من أوسع أودية الهلاك وأسباب العذاب.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ؛ لأن الصيام وصلة إلى التقى؛ إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي.

 

ومن أسمى المعاني في الصيام: أنه تهذيب للنفس وليس تعذيبًا لها. النفس تحتاج إلى تهذيب عن طريق قطع مألوفاتها وضبط شهواتها؛ لأن إطلاق عنان الشهوات وعدم كبحها والانخراط والتوسع فيها من أوسع أودية الهلاك وأسباب العذاب.

 

قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}  [آل عمران: 14، 15].

 

وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}  [النساء: 27، 28].

 

وفي الذين اتبعوا الشهوات أقوال: قيل إنهم الزناة، أو اليهود والنصارى، أو اليهود خاصَّة، وقيل: أهل الباطل.

 

وفي المراد بضَعْف الإنسان أقوال: منها: أنه الضعف في أصل الخلقة، وهو أنه خُلق من ماءٍ مهين. وقيل: قلة الصبر عن الشهوات، وضعف العزم عن قهر الهوى؛ لأن الإنسان خُلِق ضعيفًا أمام رغباته وشهواته، إلا من استعلى على نفسه وأهوائه وشهواته بالإيمان.

 

وقوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}  [النساء: 27]، هذا شأن المنحرفين دائمًا: يريدون أَن يكون الناس على طريقتهم، حتى يسلموا من ذمهم ولومهم، كما في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}  [القلم: 9]، وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}  [النساء: 89].

 

ومعصية آدم عليه السلام نُسِبت لشهوة الإنسان من وجهين: طعام، وشراب، وإنصات لكلام امرأته حواء كما قيل.

 

ومن مظاهر عظمة يوسف عليه السلام الاستعلاء على الشهوات، وترفُّعه عن داعية الخبث والهوى والفحش، وهو ما أوصله لدرجة الإحسان، وقد تكرر ذكر الإحسان في سورة يوسف أكثر من مرة، كما في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}  [يوسف: 22]، وفي قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}  [يوسف: 36]، وفي قوله: {قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}  [يوسف: 78].

 

ويرد هنا حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ««لما خلق الله عز وجل الجنة قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر فقال: يا رب، وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفَّها ‌بالمكاره، ثم قال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر فقال: يا رب، وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد، فلما خلق النار، قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: يا رب، وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحَفَّها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها فقال: يا رب، وعزتك لقد خشيت إلا يبقى أحد إلا دخلها» »؛ (رواه أحمد والترمذي) .

 

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « «حُفَّت الجنة ‌بالمكاره[1]، وحُفَّت النار ‌بالشهوات[2]»» .

 

وهذا من جوامع الكلم وبديع البلاغة في ذم الشهوات والنهي عنها، والحض على طاعة الله، وإن كرهتها النفوس وشق عليها؛ لأنه إذا لم يكن يوم القيامة غير الجنة والنار ولم يكن بد من المصير إلى إحداهما، فواجب على المؤمنين السعي فيما يدخل إلى الجنة وينقذ من النار، وإن شق ذلك عليهم؛ لأن الصبر على النار أشق، فخرج هذا الخطاب منه صلى الله عليه وسلم بلفظ الخبر، وهو من باب النهي والأمر.

 

وهو من بديع الكلام وجوامعه الذي أوتيه عليه السلام من التمثيل الحسن، فإن حفاف الشيء جوانبه، فكأنه أخبر عليه السلام أنه لا يوصل إلى الجنة إلا بتخطِّي المكاره وكذلك الشهوات، وما تميل إليه النفوس، وأنَّ اتِّباع الشهوات يلقي في النار ويُدخِلها، وأنه لا ينجو منها إلا من تجنب الشهوات. فيه تنبيه على اجتنابها.

 

وفائدة هذا التمثيل: أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره، وبالصبر عليها، وأن النار لا يُنجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه مثل طريق الجنة وطريق النار بتمثيل آخر، فقال: «طريق الجنة حزن بربوة، وطريق النار سهل بسهوة». والحزن: هو الطريق الوعر المسلك، والربوة: المكان المرتفع، وأراد به أعلى ما يكون من الروابي. والسهوة، بالسين المهملة، وهي الموضع السهل الذي لا غلظ فيه، ولا وعورة، وهذا أيضًا تمثيل حسن واقع موقعه.

 

وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة أو يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا.

 


[1] أي: أحيطت بالمكاره، وذلك أن المكاره هي ما يكرهه الآدمي من خروج مال عن يده في صدقة، أو فجعة بحميم له، أو خروج نفسه بالجهاد في سبيل الله أو ذهاب عرضه مع من يعظه، أو صبر على لذة محرمة لأجل الله، أو احتساب طعام وشراب وفراق زوجة في صيام لأجل الله تعالى، أو رغبة من وطء وأهل بقصد إلى الحج، أو صبر على برد ماء في إسباغ وضوء في شدة برد لأجل الله تعالى، إلى غير ذلك.

[2] أي: أحيط بها بالشهوات، فجُعِل جانب منها يدخل إليه من شهوة الزنا، وجانب يدخل إليه بأكل الربا، وجانب منها بشرب الخمر، وجانب منها بالغدر، وجانب بالنميمة، وجانب بالغيبة إلى غير ذلك.

_______________________________________________________

الكاتب: الشيخ نشأت كمال

  • 0
  • 0
  • 55

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً